أبطال «عصافير النيل».. تظنهم أحياء من التنفس!

  • مقال
  • 03:32 مساءً - 30 ابريل 2010
  • 3 صور



صورة 1 / 3:
مشهد من الفيلم
صورة 2 / 3:
مشهد من الفيلم
صورة 3 / 3:

عندما أكل البطل تفاحا بطعم ورائحة الجاز.. سالت دموعي، وعندماطلبت «نرجس» من زوجها أن ينير لها تربتها بكيت أيضا، وبكيت للمرة الثالثةعندما ماتت «نرجس» في غرفة مظلمة.. لا أتذكر آخر فيلم بكيت فيه، وأناأشاهده، لكني أعتقد أنه كان منذ سنوات.
تبدأ أحداث « عصافير النيل» في ممر مظلم لمستشفي فقيروقبيح.. يلتقي فيه البطلان عبد الرحيم « فتحي عبدالوهاب» وبسيمة « عبيرصبري» بالصدفة.. لقاء بسيطا ومفرحا.. لم يفسده سوي مرض البطلين ومكاناللقاء.. يسترجعان معا ماضيهما الذي مر عليه أكثر من عشرين عاما، ويرجعبنا الفيلم إلي الوراء في فلاش باك طويل، مستعرضا أبطاله علي صوت الراوي« حلمي فودة» الذي أزعجني أسلوبه في الحكي، ولم أستطع الانسجام معه عليالإطلاق، وأجد أنه أفسد علي المشاهدة خلال اللحظات التي يروي فيها.
كان الفيلم يتنقل بنا بين الأزمنة.. يرجع إلي الماضيثم يعود إلي الحاضر، ثم الماضي ثانية وهكذا.. شعرت من خلال هذا التنقل بينالأزمنة برغبة طفولية محببة لدي المخرج في اللعب بالزمن الذي لا يبشرنابنهايات سعيدة، ويعاقبنا بمستقبل مشوه الملامح ومغرق في الارتباك والغموض،ورغم كل ذلك لم يكن الفيلم نفسه كئيبا، بل شجيا، ولم يكن أبدا محبطا، بلمحزنا، وإجمالا كان شفافا موجعا وحنونا. يذهب عبد الرحيم لاصطياد سمك من النيل، فلا يصطاد سويعصفور مسكين ظل يرفرف علي السنارة، ولم نعرف مصيره فيما بعد، تماما كأبطالالفيلم.. عصافير يتم اصطيادها، بينما لا تصطاد شيئا.. فالبطل الذي فشل فياصطياد السمك، فشل في حياته كلها في تحقيق أي شيء.. هو أصلا لم يكن يحلمبشيء.. شاب ريفي.. بلا طموح وبلا مميزات وبلا هدف، سوي أن يعمل كساعيبريد.. لا يملك شيئا واضحا سوي فحولة جنسية.. الجنس متعته الوحيدة، والشيءالوحيد القادر علي ممارسته، حتي لو كان في أسانسير المصلحة التي يعملفيها.. لا يتردد في خسارة مستقبله الوظيفي من أجل شهوة ممارسة الجنسالعابث.. والحقيقة أنه لم يخسر شيئً , فلا الوظيفة مهمة ولا هو شخصيا مهم. وفي مقابل عبثية شخصية عبد الرحيم وعدم مسئوليتها،يتألق نبل وطيبة وإخلاص شخصية البهي التي جسدها الرائع محمود الجندي كأجملما يكون، والتي أعتبرها من أجمل الشخصيات الدرامية التي ظهرت علي شاشةالسينما خلال السنوات العشر الأخيرة. والبهي موظف في البريد يخرج علي المعاش في سن الستين،ولكنه لا يمل من إرسال شكاوي لكل الكبار إلي أن يصل إلي رئيس الجمهورية،فقط لأنه يجد أنه يستحق أن يمد فترة عمله إلي سن الخامسة والستين ، ليزيدمن معاشه، وطبعا لا حياة لمن تشتكي!
شخصية البهي غنية بالتفاصيل المبهرة، فهو رجل يعولأسرة مكونة من زوجته نرجس « دلال عبدالعزيز» شقيقة عبدالرحيم وأب لثلاثةأبناء.. درس في مدرسة أجنبية، ونفاجأ بذلك خلال الأحداث عندما وجدناه يؤديمشهدا من «هاملت» لشكسبير باللغة الإنجليزية، وتأتي براعة المخرج هنا فيوضع كلمات شكسبير التي يؤديها البهي علي مشاهد لعبد الرحيم وزوجته، وهمايمارسان الجنس بشره واضح، وكأن المخرج يرغب في أن يؤكد لنا الفارق بينالبهي وعبد الرحيم دون ضجيج، وإن طال المشهد بعض الشيء، وتظهر أثناء ذلكفي خلفية المشاهد المتلاحقة مشهد من فيلم « شباب امرأة» يذيعه التليفزيونفي تحية للمخرج الكبير صلاح أبو سيف.
خلال الأحداث التي يمر فيها الزمن متنقلا بخفة بينالحاضر والماضي والعكس، نشاهد نحن ونستمتع بتفاصيل ومشاهد عديدة.. مشاهدشديدة العذوبة، ولقطات ذكية ومواقف كوميدية وقفشات مضحكة راقية، وحوارسلس، وتنقل خفيف رغم حدته بين الأزمنة والمشاهد والمواقف.. وشخصيات ثريةيأتي الفضل الأول فيها إلي الرواية البديعة للأديب الأروع إبراهيم أصلان،ثم إلي براعة وأمانة وتدفق المخرج وكاتب سيناريو الفيلم مجدي أحمد علي فينقل الرواية وتحويلها إلي فيلم، ثم إلي الممثلين والفنيين الذين كانوا فيأحسن وأجمل حالاتهم. ينقطع النور باستمرار في منطقة شارع فضل الله عثمانبإمبابة والتي يسكن فيها أبطال الفيلم.. تخاف نرجس من الظلام بشدة،ويطمئنها وجود البهي إلي جوارها.. يشعل لها «وابور الجاز» «ولمبة جاز»،وتطلب منه بطفولة وصدق ملموس في صوتها، وتترجاه أن يستأجر لمبة لينير لهاتربتها بعد وفاتها، ولو لأسبوع واحد، فيرد عليها بواقعية وصدق فيمجاراتها، ويؤكد لها أن ذلك سيكون مكلفا جدا.. يا الله.. كيف يتحدث هؤلاءالبشر عن الموت بهذه الجرأة المطلقة، كيف لم يرد عليها الزوج بكلمة «بعدالشر عليكي».. هل لأنهم يعرفون جيدا أن حياتهم لا تعني سوي الموت، وأنالموت الفعلي لا يعني سوي أن أجسادهم فقط ستتحلل مع التراب؟! هل حياتهم ماهي إلا موت يجاهدون خلاله لأن يصلوا إلي التربة، ويحاولون فقط أن ينيروهالمدة أسبوع واحد فقط؟ لماذا تخاف نرجس من الظلام بعد الموت إذا كانت أصلاتعيش فيه وهي حية؟ أي حياة هذه التي تساوي الموت، وتفسر لنا كيف يعيشالأموات؟ لماذا إذن يعيشون بكل هذه الرغبة في البقاء، ولماذا يحاولون أصلاأن يمدوا فترة الموت أو يمدوا بقاءهم في وظيفة لا تعني لهم شيئا؟! لاإجابة أيضا سوي أنه الأمل غير المبرر بماض قوي يستندون إليه مثلا، وغيرمبرر في ظل حاضر مؤلم ومستقبل غائم.. عبد الرحيم نفسه ظنت زوجته أنه ماتوصرخت، ثم فاجأها بأنه مازال حيا لا يرزق! فلماذا يتمسك بالحياة بهذاالشكل؟! عندما ماتت نرجس وحاول ابنها عبدالله أن يوقد لمبةغرفتها قبل دفنها، عاندته اللمبة ولم توقد.. حتي بعد أن ماتت تضن عليهاالحياة ببعض من ضوء لن ينفعها في شيء، ولكنها عادة الحياة في البخل معالبسطاء من البشر، فعندما تأتي فرصة أن يأكل أبطال الفيلم التفاح صدفة،يجدون رائحته «جاز»، ليضحكوا جميعا عندما يقول عبد الرحيم: «أنا كنت فاكرالتفاح طعمه كده».. فابدأ ليس هذا هو طعم التفاح، ولا صلة لحياتهم هذهبالحياة من قريب أو من بعيد. وفي أكثر من مشهد كاشف يقدم لنا الفيلم قسوة وحنانأبطاله، ففي مشهد يصلي فيه البهي وعبدالرحيم في المسجد، تقع من جيب أحدالمصلين قطعة نقود معدنية.. يضعها جارهم في جيبه أثناء سجوده، بينما يضحكالبهي وعبد الرحيم بطفولة، ومع دوران الزمن عشرين لفة، نشاهد نفس الجار،وهو يتعرض للتنكيل والضرب بالجنازير من قبل جماعة إسلامية متطرفة، لأنه لميستيقظ لصلاة الفجر.. هكذا كانوا رائعين في تجاوزهم عن أخطاء صغيرةيرتكبها بعضهم، وهكذا صاروا عنفاء في أخطاء صغيرة يرتكبها بعضهم، وهكذاسيصبحون عابثين في المستقبل غير السعيد الذي ينتظرهم، وسيلعب بأحلامهم،تماما مثل الطفلة التي كانت تفرغ إطار سيارة الجار دون مبرر سوي اللعبوالعبث المطلق.. مستقبل يعدهم بأنهم سيكونون مطاردين مثل عبدالله من تهمةممارسة السياسة.. أي سياسة، فلم يحدد الفيلم طبيعة انتماء عبداللهالسياسي.. يهرب هو من واقعه ويطارد أحلامه بواقع بديل، ويطاردونه هم لأنهيحلم.. إنه المستقبل الذي يبدأ بامرأة عجوز تائهة، تبحث عن حقها في أرضضاعت منها في الماضي بشكل مبهم ومدهش في عبثيته. مفتاح هذا الفيلم يكمن في الإجابة عن هذا السؤال: هلمن سبب محدد لوجود مثل هؤلاء البشر؟! وإذا كان وجود أبطال الفيلم علي هامشالحياة.. يصارعونها بقوة، فقط من أجل البقاء أحياء إن كانوا أحياء أصلا،وتصارعهم هي بشراسة رغم أنهم لا يؤثرون فيها، فهل من مبرر لقسوتنا نحن عليأنفسنا وعلي بعضنا البعض وعلي أبطال الفيلم؟ وأجمل ما في الإجابات أنالفيلم لا يحول الفقراء البسطاء المطحونين إلي أبطال متفائلين راضين ذلكالرضا الزائف، وسعداء بفقرهم، فالفقر لا يسعد ويرضي سوي البلهاء. دخل الممثلون هذا الفيلم وفي داخل كل منهم رغبة فيتقديم أفضل ما لديه.. لم يبخلوا علينا بشيء.. كان فتحي عبد الوهاب مبدعابحق.. تخلي عن تشنجه وأدي من أروق المناطق داخله.. امتلك خيوط الشخصيةوفهمها، وكان واعيا لكل مساحاتها، حتي جزأها الكوميدي أداه بخفة ظل مدهشة،خصوصا في مشهد تمثيله لموته، ثم في مشهد أكله للتفاح.. اختيار فتحي عبدالوهاب للدور أكثر من موفق، وتألقت دلال عبد العزيز، وفاجأتنا بأدائهالدور صعب وجريء أعتقد أن أي ممثلة من جيلها كانت سترفضه، والحقيقة أننيأشعر أن دلال عبد العزيز قررت في الفترة الأخيرة بشكل عام أن تستمتعبالتمثيل أيا كان الدور الذي تقدمه، وتلك أولي علامات النضج والوعي الفنيوالإنساني، وقدم محمود الجندي أداء مبهرا ومتمكنا، وقدمت عبير صبري أفضلما لديها، رغم أن الشخصية كانت كثيرا ما تغلبها وتتفوق علي بعض من ضعفالأداء لديها، وجسد أحمد مجدي دور عبدالله بما يبشر بوجه سينمائي مستقبلهمضمون النجاح والتألق.. وبشكل عام كانت كل عناصر الفيلم الأخري من تصويرل رمسيس مرزوق وموسيقي ل راجح داود ومونتاج ل أحمد داودوديكور ل خالد أمينمناسبة تماما وتليق جدا بفيلم مهم ومدهش في كل عناصره وعلي رأسهاالسيناريو والإخراج. تخرج من الفيلم وأنت غارق في تأمل حال أبطاله.. مشفقاعليهم وعلي نفسك من حياتهم البائسة ووجودهم العبثي.. لاعنا الحياة التيظلمتهم وهمشتهم، وبالطبع لاعنا من أضاف إلي قسوة الحياة.. فجاجة المرض،وذل السؤال، وكبت الأحلام والرغبات.. كل الرغبات. رغم المآسي الإنسانية التي يحملها الفيلم، فإننيتعاملت معه علي أنه فيلم كوميدي، فقد ضحكت خلال أحداثه ضحكا رائقا صافيايشبه صفاء وروقان وجمال الفيلم الذي أشاهده.. فيلم كوميدي يحمل لمحاتإنسانية عميقة وعذبة وقاسية ومؤلمة.. تحمل علي التأمل والتفكير المرهق فيالحياة كلها.. حياتنا ووجودنا.. ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.. من ذلك الذيقال إن السينما تجمل الواقع؟! فالحقيقة أنها لا تجمل سوي نفوسنا نحن ببعضمن دهشتها وصدقها.



تعليقات