فيلم ''هي فوضى'' يجسد فوضوية السلطة وسلطوية الفوضى ويتنبأ بالثورة

  • مقال
  • 11:36 صباحًا - 6 ابريل 2011
  • 2 صورتين



صورة 1 / 2:
مشهد من الفيلم
صورة 2 / 2:
مشهد من الفيلم

برؤية نقدية لاذعة لواقع المجتمع المصري، وبنظرة تأملية استكشافية للقوالب التاريخية في المجتمع المصري. يجسد فيلم " هي فوضى" لمخرجيه " يوسف شاهين" و" خالد يوسف" ما وصل إليه المجتمع المصري من ترهل قيمي وأخلاقي ُضربت ركائزه السياسية، والاجتماعية، والثقافية. الفيلم الذي تدور أحدثه حول شخصية حاتم ( خالد صالح)، وهو أمين شرطة يسكن في حي شعبي "شبرا"، وتجاوره في السكن نور " منة شلبي" الشابة الحسناء، ومحاولته الحصول عليها بكافة الطرق، والتي تنتهي باغتصابها بعد أن تخطب شاباً آخر يعمل وكيل نيابة. تقيم نور التي تعمل مدرسة مع والدتها "بهية"، وتنشأ بينها وبين ابن الناظرة وداد ( هالة صدقي) والدة شريف ( يوسف الشريف)، والذي يعمل وكيل نيابة قصة حب رومانسية من طرفها بعد أن يترك خطيبته، التي كان من الصعب التعايش معها.
وتتمحور الأحداث الرئيسية لهذا الفيلم حول هذه الشخصيات الأربع لتعبر عن أربعة شرائح مجتمعية موجودة في المجتمع المصري، والذي يعد جزء من المجتمع العربي في تكوينه وبنيانه. تتفاعل هذه الشرائح فيما بينها، وتشكل نموذجاً للسياق الاجتماعي، على الرغم من اختلاف الطبقات الاجتماعية التي ينتمون إليها. يمثل الوعي المجتمعي معيار التمايز بين الشرائح الاجتماعية.
يظهر العمل السينمائي وجود فروق قيمية بين الشرائح المجتمعية في مصر، مشيراً إلى إمكانية الانسجام الطبقي ما بين الطبقة البسيطة والطبقة المتوسطة، واستحالة انسجام أياً منهما بالطبقة المتنفذة سواء كانت "ارستقراطية، برجوازية، إقطاعية". وجسد العمل الفني هذا الادعاء عبر توفير إمكانية ارتباط شريف بنور واستحالة ارتباطه "بسينديا" رغم محاولاته المستمرة للاستيعاب تصرفاتها.
الإدراك الواعي للمخرج والذي تمثل بدقة انعكاس المجتمع بخفاياه في العمل الفني مكّن الفيلم من التألق وتحقيق الأبعاد الدرامية المطلوبة، بالإضافة إلى قدرته الخلاقة في صقل شخصيات الفيلم وتقمصها للواقع بدقة متناهية. كما أن قدرة المادة السينمائية ككل على إظهار علاقة السلطة بمجتمعها، وعجزها كمنظومة سياسية من مواكبة الصيرورة الحتمية البنّاءة لباقي المنظومات الأخرى في المجتمع نفسه من منظومات "اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وفنية"، ساهمت بشكل أساسي في إنجاحه إلى ابعد الحدود.
نجح الفيلم في تصوير بؤس السلطة ومسئوليها وجهلهم بطريقة متقنة، وذلك بمقارنة شخوصها بشخصية اللص الواعي للقيمة الفنية والتاريخية للوحة الزيتية التي يبلغ عمرها (130)عاماً، وجهل أمين الشرطة "رمز السلطة" بذلك، مظهراً السلطة بأنها منظوماتها تحولت من الدور الريادي القيادي إلى الدور المادي الاستهلاكي، والذي يخلو من أي عمق معرفي. ويروي الفيلم قصة الفساد وتآكل بنين السلطة المتآكلة، والتي تتستر دوماً خلف جدار القانون، وذلك بغرض الحفاظ على ما تبقى من انتهازيتها غير المحدودة المتمثلة في هذا السياق بممارسات "رجل السلطة"، مظهراً عقدة النقص فيها.
خلق شاهين علاقة تناظرية ما بين الفن والسلطة من جهة، وما بين السلطة والتربية والتنشئة الاجتماعية من جهة أخرى، مؤكداً على أن الصورة الانعكاسية عن السلطة في أذهان المحكومين تتلخص في شخصية "حاتم"، التي يظهرها العمل السينمائي على أنها فاقدة للعطاء، وذلك برسم مشهديه حاتم "خصوصيته" من خلال تربيع الإطار العام له، والذي شكل شخصيته بـ"الخمر، السلاح، صورة المرأة العارية، الجهل"، ليؤكد بأن السلطة ونموذجها المغروس في عقلية الشعب المغتَصب، والذي اختزله شاهين ويوسف في شخصية "نور" بات مكشوفاً مدركاً من قبل العامة.
العمل الفني الإبداعي برأيي يظهر النظام السلطوي بأنه يبني ديمومته على تناقضات المجتمع وخلق الغوغائيات الجاهلة العاقرة التي تغوص بالمجتمع لقمة الهاوية، كما يظهر خوفه من مكاشفة ذاته عبر خوفه من المرآة، هذه الدلالة التي تظهر رفض السلطة المستبدة والمطلقة لإعادة صياغة ذاتها من جديد وتصويب أوضاعها ومراجعة قراراتها ومخرجاتها السياسية. النظر في المرآة يمكّن الذات من إعادة تقييم نفسها داخلياً بما يتناسب مع واقعها المعاش. "حاتم" غضب جداً من الراقصات في محاولتهن لإثبات جماله عبر إظهار صورته في المرآة، بالإضافة إلى أن المخرج اظهر حاتم في المرآة الموجودة في غرفة نومه من ثلاثة أبعاد "الجهل، الكبت الجنسي، المرض النفسي" دون أن يرى حاتم ذاته في إشارة واضحة لعدم قدرته على إعادة صياغة ومعرفة حقيقة وجوده كانسان.
التناقضات التي يبرزها الفيلم في شخصية حاتم "فاقد الرؤية" توضح انفصام شخصيته "شخصية السلطة"، فهذه السلطة تحاكم صورة المجتمع- لحظة إطلاق النار على عيني نور المرسومتين في الصور- . كما أن هذه السلطة ذات طابع جنسي شاذ " اغتصاب، وتعذيب في السجن بدون جرم، وتحصيل الرشاوى عنوة". إن هذه السلطة ما تلبث أن تصبح عاجزة عن فرض سيطرتها على تطلعات الشعب وطريقة تفكيره. ويستطرد في مشاهد مختلفة من الفيلم ليظهر توريث الثلة السياسية لأبنائها الفاسدين لعشرات السنوات من حكم الحزب الواحد في مصر.
الفن انعكاس للواقع وفي ذات السياق هو متنفس للتمرد عليه ورفضه، وباعتقادي هذا ما حاول العمل الفني تجسيده، فقد رفض سياسية الحزب الواحد وإفرازاته، وكذلك رفض الفكر المقايض للإخوان المسلمين، ولمح بشكل ما إلى التيار الناصري من خلال صورة جمال عبد الناصر المعلقة داخل بيت الناظرة وداد.
بخبرته السينمائية العظيمة التي استندت إلى أصول علمية وركائز فلسفية استطاع "يوسف شاهين" و"خالد يوسف" أن يخرجان لنا فيلم "هي فوضى" في اصدق تعبير عن فوضوية الواقع المصري والعربي، الذي بات فاقداً للأسس الفكرية المعرفية الأساسية لنهوض المجتمع، في إشارة واضحة لاختلال العقلية السلطوية التي باتت تسوي ما بين الفاسد والمناضل، فزنزانة السجن تجمع (أصحاب الفكر من الحركة الطلابية المصرية، الإخوان المسلمين، مدمني المخدرات والمجرمين).
ويظهر مجدداً بأن السلطة فاقدة للإدراك المعرفي للتمييز فكرياً ومعرفياً بينهما. ويحاول شاهين أن ينسج شخصية ايجابية لقناعته الراسخة بوجودها في المجتمع، فـ"بهية" تخرج صارخة ترفض واقع الظلم، والساعي في مخفر الشرطة يرشد وكيل النيابة متمرداً على ظلم النظام، لتجسيد المفهوم الرمزي تارة وتجسيد الواقع تارة أخرى، فهو يسلط الضوء على الواقع، ويشير لنا إلى الرمز.
كما عمل المخرجان على صياغة بنائية الفيلم لتصل الميلودراما لذروتها، حيث يعمل الفيلم على إقناعنا كمشاهدين بمأساوية السلطة وحتمية نهايتها، ليثير هذا الانجاز السينمائي تساؤلات عدة أهمها، هل صدقت رؤية شاهين بشأن حتمية الثورة؟ وهل شكّل هذا العمل الخالد في الذاكرة باعثاً لجيل الثورة المصرية الحالية؟.
مضى ما يقارب أربعة سنوات من إنتاج هذه العمل الرائد، والذي يستحق منا الاعتراف بصدق رؤية شاهين وعمق فلسفته، والتي مكنت المخرج خالد يوسف من السير على خطاها في عدد من أفلامه التي جسدت واقع المجتمع المصري وعلاقته مع نظامه السياسي. كما مكنته أيضا من معايشة فنه واقعاً في ثورة " ميدان التحرير" فتكسير الجموع لأبواب مركز الشرطة في "هي فوضى"، لا يمكن فصله بدلالته ومعانيه ومضامينه عن واقع ثورة شباب مصر اليوم.



تعليقات