الخروج للنهار.. حكاية قصيرة عن الزمن

  • مقال
  • 03:56 مساءً - 28 مايو 2014
  • 1 صورة



الخروج للنهار.. حكاية قصيرة عن الزمن

من أكثر الأشياء التي تحتاج إلى مجهود مضاعف من أجل التعبير عنها سينمائيًا هي كافة الأشياء غير الملموسة وغير المنظورة بالنسبة للإنسان العادي، والتي يأتي على رأسها عامل الوقت الذي يعد من أكثر الأشياء مراوغة في الإمساك بها ووضعها قيد أدوات التعبير السينمائي، وللتوضيح والتدليل على ذلك، نقدم مثالين مختلفين على ذلك، فعندما تشاهد فيلمًا مثل 12 Years a Slave للمخرج ستيف ماكوين، ستكتشف أن عامل الزمن مهدر تمامًا، فلا يتضح على الإطلاق مدى فداحةوقوع "سولومون نورثتوب" تحت وطأة العبودية على مدار كل هذا السنوات، ولا يدلل المخرج على ذلك بأي تفاصيل داعمة تجعلنا نشعر بما يشعر، والعكس عندما تشاهد فيلم 4 Months, 3 Weeks, 2 Days للمخرج الروماني كريستيان مونجينو، حيث يجعل المخرج هنا من عامل الوقت عنصرًا محوريًا من أجل خلق حالة من الإثارة النفسية تجاه مشكلة بطلتي الفيلم، حتى ولو كانت الكاميرا أحيانًا قد لا تتحرك على الإطلاق لمدة قد تتجاوز العشر دقائق.

فيلم ( الخروج للنهار)، أول فيلم طويل للمخرجة هالة لطفي، هو مثال بالغ التألق والتميزعلى توظيف عامل الوقت وتطويعه سينمائيًا، حيث تدرك هالة أن الوقت هو بطلها الأول في الفيلم، لذلك تختار لفيلمها حكاية بسيطة للغاية، بسيطة لدرجة أنه يمكن تلخيصها في جملة أو اثنان: "أم وابنة مجبرتان على رعاية رب الأسرة المريض والمقعد، وفي الوقت نفسه تحاول كل من الأم والابنة أن تحوز بعض الوقت لنفسها".

وعلى قدر بساطة القصة، يكون بساطة النهج الواقعي الذي تسير عليه هالة لطفي في الفيلم، فهو ليس بنهج انتقائي يتخير لنفسه ما شاء من مفردات الواقع لكي يعيد جمعها في سياق معين من وجهة نظر صانع الفيلم، بل هو نهج يركن أكثر لحس تسجيلي صارم يكاد من فرط صرامته أن ينتاب المشاهد الشعور بأن الفيلم بأكمله مقتطع من الواقع كما هو دون أدنى تغيير، لكن هذه المرة لا يقتصر الاهتمام في هذا النهج على ما يحدث داخل المشهد، وإنما على الأبعاد الزمنية التي تسيطرعلى ما يحدث داخل المشهد.

على مدار أحداث الفيلم يتعاظم دور الوقت في الدراما من خلال تفاصيل الخلاف الكامن بين الأم والابنة، وهو خلاف تحافظ المخرجة على هدوء نبرته بحيث يكون على نفس المستوى طوال الوقت وعدم ظهور دلائل شديدة المباشرة عليه إلا مع حدوث شيء يسترجع ذلك الخلاف، فكل منهما – مثلما نرى طوال الأحداث - تحاول أن تتخفف ولو قليلا من عبء رعاية الأب طوال الوقت، وهو ما يعد "واجبًا" على كل منهما، لكن المشكلة الأساسية التي تعاني منها بطلتي الفيلم أن كلا منهما تحاول الموازنة بين "ما يتوجب عليهما فعله" وبين "ما يرغبان في فعله" في ظل الوقت المتاح لهما طوال اليوم، ومع الحفاظ على تنفيذ كل شيء في وقته المحدد، وهو مرتكز درامي بالغ الأهمية ويوحد كل الأطراف في الفيلم على أرضية واحدة وواضحة.

فعندما ننظر إلى الأمور من زاوية الأم ( سلمى النجار)، فهى بجوار واجباتها المنزلية، فهى ملتزمة بمهنة متعبة في إحدى المستشفيات، وعملها يسير بمواعيد أو مناوبات غير ثابتة، مما يجعل ساعتها البيولوجية بالتأكيد غير متزنة، وتحتاج معها بالتأكيد إلى كل لحظة راحة ممكنة، والتخفف بقدر الإمكان من بعض الواجبات المنزلية، لكن المشكلة أنه لا تسنح لها الفرصة لذلك، سواء بسبب تلكؤ الإبنة تارة، أو بسبب حدوث ظرف عارض يكسر الروتين اليومي المعتاد للأسرة (زيارة إبن الشقيقة كمثال)، أو بسبب تطور غير متوقع في حالة الأب، أو حتى من جراء تعارض خطط الأم لقضاء اليوم مع خطط الإبنة.

وبالإنتقال إلى زاوية الإبنة ( دنيا ماهر)، فنجد أنها فتاة عادية للغاية، لا تعمل تقريبًا، وتحاول أن تعيش كأي فتاة في سنها، وأن تكون أكثر انطلاقًا، لكن يكبلها دومًا مسئوليتها تجاه الأب ( أحمد لطفي)، وإن كانت تحاول أن تلقي بعض من هذه المسئولية على عاتق الأم، وفي الوقت ذاته، تحاول بقدر الإمكان أن تنجز ما هو مطلوب منها حتى لا يختل برنامجها الزمني، وهو ما نشهده في تتابع زيارة ابن خالتها المفاجيء والذي أربك مخططها الزمني كلية، والمتمثل في الانتهاء من إعداد وجبة الغداء حتى يتسنى لها شيء من الوقت لملاقاة حبيبها الذي تعرفه منذ خمس أشهر، ولا تستطيع ان تقابله بشكل منتظم بسبب ظروفها مع والدها الذي أقعده المرض.

في كافة الحوارات الدائرة بين بطلتي الفيلم، هناك ملحوظة هامة تسترعي الانتباه بشدة، وهو السيطرة التامة للمفردات الزمنية على اللغة الحوارية فيما بينهما، والتي تستخدم طوال الوقت للتعبير عن التذمر من كافة الأشياء التي يتم تأجيلها (لوم الأم للإبنة على الأشياء المتراكمة في المطبخ)، أو عند تعارض البرامج الزمنية لكل من الأم والإبنة، أو من أجل التأكيد على الروتين اليومي المعتاد، أو العبء الذي يتركه الانتظار الطويل (انتظار الأم ابنتها لكي تستيقظ كمثال)، وكل ذلك يتم ترجمته بصريًا من خلال تطويع مثالي للضوء الطبيعي، وخاصة في الفترة التي تستغرقها الأحداث داخل المنزل.

في النهاية، تأتي الأهمية الكبرى لفيلم (الخروج للنهار) ليس فقط من خلال توظيفه غير المسبوق لعامل الزمن في السينما المصرية، وإنما لأنه يؤسس لنفسه صوتًا جديدًا في التيار الواقعي السينمائي الذي انحسر بشكل كبير بعد تألقه الكبير في حقبة الثمانينات، حتى وإن كانت واقعية (الخروج للنهار) لا تشبه أي واقعية سبقتها في السينما المصرية من قبل، مما يجعله بكل ثقة في هذا السياق "فيلمًا مؤسسًا".



تعليقات