باب الوداع... باب الانعتاق من أسر الحزن

  • مقال
  • 12:53 مساءً - 12 نوفمبر 2014
  • 1 صورة



سلوى خطاب في مشهد من فيلم (باب الوداع)

بعد عمل استغرق قرابة الأربع سنوات لكي يرى النور، عرض أخيرًا الفيلم المنتظر ( باب الوداع) للمخرج كريم حنفي الذي يمثل مصر في دورة هذا العام من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والذي حاز على إعجاب الكثيرين ممن شاهدوه في عرضه الأول، كما أثار الكثير من التساؤلات لدى الكثيرين كذلك بسبب الخصوصية الشديدة للتجربة السينمائية التي يقدمها.

طوال مدة عرض الفيلم التي تتجاوز الساعة ببضع دقائق قليلة، يترجم كريم حنفي حكاية فيلمه ومشاعر أبطاله إلى مجموعة من المشاهد والصور المتتابعة المجردة التي يفصل فيما بينها عن طريق الإظلام والظهور التدريجي، ولا يلجأ لأي جمل حوارية في الفيلم على الإطلاق إلا في بضع لحظات قليلة، والتى تكون عبارة عن مجرد حوار داخلي مقتضب ينتاب الابن ( أحمد مجدي) في مخيلته أملًا في الانعتاق، مرددًا الجملة المفتاحية للفيلم "أنت يا من كنت دومًا هنا، ستكون في كل مكان".

يقع كل من الأم ( سلوى خطاب) والابن (أحمد مجدي) والجدة ( آمال عبدالهادي) أسرى للحزن الشخصي، وكل منهم يعيش متوحدًا مع ذاته في عالمه الخاص، ومع ما يحاول أن يعزي به نفسه، فتجد الأم سلواها في وجود الابن في عالمها الصغير، وفي انكفائها في غرفتها، بينما تعزي الجدة نفسها بممارسة عدد من الطقوس اليومية التقليدية كالاستماع إلى ما يبثه المذياع أو باستحضار ذكرياتها مع مقتنياتها الشخصية.

أما الابن فهو على غرارهما تمامًا، فهو لا يعزي نفسه بما هو كائن بالفعل في هذا العالم المغلق، وإنما يعزي نفسه بما هو خارجه وبالأمل في التحرر يومًا ما من أسر حزن أمه، وهو ما يعبر عنه بوقفته الراجية وهو يمد يده إلى الشباك لعله يحظى بزيارة جديدة من الملاك الحارس ( شمس لبيب) التي كان يراها كطيف عابر في صغره، أو لعله يحظى بإشارة تنبئه بخروج قريب.

هناك مرتان فقط طوال الفيلم نرى فيهما الابن خارج المنزل أو خارج حدود العالم المعهود له، الأولى في أول مشهد في الفيلم حينما تأخذ اﻷم بيده في مسيرة طويلة حتى يصلا للقبر اللذان يزوراه، وهناك يشهد الابن الرؤية اﻷولى لملاكه الحارس، والذي يظل في توق شديد لرؤيتها مجددًا، خاصة ﻷنه يراها للمرة اﻷخيرة من وراء النافذة التي تغلق عليه، والمرة الثانية حينما يتحقق له الانعتاق المنتظر بالفعل ليكون حال العالم الخارجي أفضل بكثير، وأكثر بريقًا في ألوانه عن عالم المنزل.

أما الجدة، فيتحقق انعتاقها الخاص من هذا العالم المغلق عن طريق الموت، فالفيلم في رؤيته لا يرى في الموت أي شر أو بكونه هو النهاية، بل يرى فيه فعل تحرري من ضيق العالم الدنيوي إلى عالم آخر غير منظور ومتحرر من كافة قيود العالم الدنيوي، لهذا السبب كانت شخصية الجدة مصادقة طوال الوقت للمذياع الذي كانت تستمع إلى ما يبثه طوال الوقت من أغاني أو تلاوات قرآنية.

في مقابل صمت الفيلم عن الكلام، هناك طاقة صوتية هائلة تخيم على عالم الفيلم من خلال التتابع المتواصل لتسجيلات القرآن الكريم واﻷغاني الكلاسيكية على شريط الصوت، واللذان يشاركان مع موسيقى راجح داود في رسم حدود العالم الذي يعيشه اﻷبطال الثلاثة، والتي تعبر في الوقت ذاته عن حالات مختلفة ومتنوعة من تلمس ما هو غير منظور في عالمهم، كما تشارك كذلك في تأكيد على نزعة التجريد الفني التي يتبعها الفيلم.

تحمل بنية الفيلم كذلك تداخل كبير بين الرؤى والذكريات والمخاوف، والتي يتم التعبير عنها بصريًا طوال الوقت سواء باللجوء المكثف إلى الرماديات من اﻷلوان الطبيعية، أو باستخدام اللونين اﻷبيض واﻷسود فقط في عدد من المشاهد، كما لا يتبع الفيلم في سرديته البصرية تسلسل زمني خطي ثابت للأحداث، وهو ما قد يتكشف للمشاهد سواء بمشاهدة ثانية، أو بإعمال التفكير في تفاصيل الفيلم بعد الفراغ من المشاهدة.

يهدي المخرج فيلمه في الختام إلى "حزن أمه"، وهو ما يؤكد على تماس حكاية فيلمه مع همومه وخبراته الشخصية، كأنه هو الابن الذي يتمنى ﻷمه المنكفئة على أحزانها أن تتحرر من حزنها مثلما نجح هو أخيرًا في التحرر من هذا اﻷسر.



تعليقات