موت مين ده يا ''يوسف'' اللي يحوشك عنا ؟!

  • مقال
  • 04:25 مساءً - 25 يناير 2011
  • 5 صور



صورة 1 / 5:
بابتسامة خجلة وساعدين مرتعشين وروح محلقة وقلب يكاد يرقص
صورة 2 / 5:
العَجُوز الذي يُكرّم على إنجاز العمر
صورة 3 / 5:
الإسكندرية عندي ليست مجرد مدينة ..وإنما فكرة عن حياة مفتوحة بلا خوف ، مثل البحر المتسع لكل شيء .. ملئ العالم كله
صورة 4 / 5:
معقول يا ولاد بنقول باي باي ؟
صورة 5 / 5:
الأجراس بتعلن نهاية بشر من العباد

تقولُ الحكاية ، أن يوسف شاهين كان قد قرر الاعتزال بعدانتهاءه من آخر أجزاء ثلاثية الهزيمة " عودة الابن الضال" عام 1976 ،جَلِسَ مُتّكِئَاً على الآريكَة وقال في نفسٍ تَعِب أن عمره الآن قد بَلَغ الخمسون، صِحته ليست على ما يُرام وقلبه المُعتل لم يعد يحتمل ، والأهم من ذلك أنه لايملك الآن ما يقوله ، وثلاثية مُرهقة كـ" الاختيار" و" العصفور"و"الابن الضال" كانت قد أخذت جزءً من روحه درجة الشعور أن كل الكلاموالأفكار قد نَفَذُوا بعد خمسين عاماً ، لِيَرُدّ طِفلاً مُشاكساً وُجِدَ دوماًبداخله : "لديك الخمسون عاماً" !

وفي الخمسين عاماً الأولى ، أو في الثلاثين التي تلتها ، كان تَتَبُع يوسف لمسيرته، أو تَتَبُّعنا نحن لها ، هو تتبع لمصر ذاتها ، التي صاحبها الرجل مُخرجاً عبرستة عقود .. وصبياً يُريد أن يصبح مُخرجاً لعقدين ، وفي كل هذه السنين كانت عينيوسف ترى صورة مُثلى لبلادٍ أحببتها ، تُفسِحُ للحلمِ مجالاً كي يتحقق .. وتقف معالثورة إن حدثت .. وتحتفي بالفن أينما وُجِد ، بلاد استطاعت أن تصرخ حتى ضدالهَزيمة (هنحارب) ثم تنتنصر رافعة رايات النّصر ، وحين سَقَط كُل هذا .. بدأ وقت الفوضى ، وانحدر شاهين نفسه فيسنين مسيرته الأخيرة أسوةً بها ، لأن تلك البلاد كانت تَكْبر وتشيخ وتعتلّ .. ومثلهاكان .. كَبُرَ وشَاخَ واعتَلّ !

في " إسكندرية ليه" بدأ يوسف سرد الحكاية منذ بدايتها ، حقيقته وحقيقةزمنه وحقيقة العصر والخلفية التاريخية التي كَوّنت الجيل الذي سيقوم بعد ذلك بأهمحدث في تاريخ مصر الحديث ، بعدها سافر يوسف إلى أمريكا ليتعلّم ، وحين عاد بكل مايحمله وما تعلمه .. كانت مصر هي الأخرى في لحظة ميلاد جديدة ، الثورة ، لم يكنوعيه كبيراً .. لم يكن يفهم كل ما يجري .. كان (حمار) كما يصف نفسه ، ولكن انحازفطرياً لما يحدث .. يصف فيلمه " صراع في الوادي" باعتباره "يحملموقف سياسي عاطفي تماماً ، ضد الإقطاع وضد الظلم" وهو ما يتبلور أكثر في" فجر يوم جديد" حيث يقول : "أردت التعبير عن مصر الجديدة التي تولدبعد القرارات الإشتراكية ، كنت في تلك المرحلة بدأت أعي كل شيء" ..

هذا الوعي جعله يصطدم برجال المرحلة الناصرية التي عَدّ نفسه منها ، رغم أن عبد الناصر نفسه سبق أن كرمه وقتها بنيشان الجمهوريّة ، ولأن يوسف - السكندري الذي يرى في مدينته مقابلاً للحريّة - لم يقبل أن يقيّده أحد قرر السفر والهجرة إلىلبنان وقدم هناك أحد أسوأ أفلامه .. لأنك "لا يمكن أن تأخذ شجرة مثمرة منأرضها وتريدها أن تُنْبت خارجها" ، إلى أن وقعت النّكسة ، الحدث الأهم والأكثرحزناً .. كان دافعاً ومحفزاً لمرحلة ربما تكون الأنضج في تاريخه ، حيث عاد وقدمأعظم فيلم مصري في التاريخ – بحسب رأيي ورأي الكثيرين – " الأرض" .. ليحثالناس على الصمود ويُمجّد جزءً من النضال الشعبي غير المروي ، وينتقل – حسب كلامه –من مرحلة سينما التسلية والبرجوازية لسينما أخرى رافضة وثائرة .. سينما تصبح جزءًمن المجتمع .. سينما يُمكن بتتبعها معرفة هذا المجتمع ، ليقدم بعد"الأرض" ثلاثية الهزيمة .. مُحاكماً وساخطاً على نفسه وعلى أقرانه ..مُحملاً الجميع أسباب السقوط ، ومحاولاً من ذلك (مراجعة الذات/المجتمع) عن طريق الأفلام ، لينهي العصفور بالصرخة العظيمة (هنحارب) ،ويُنهي الثلاثية كلها بمشهد "تفيدة وإبراهيم" يرحلون عن ميت شبورةويبدأون من جديد : "نودع الماضي بحلمه الكبير / نبص قدامنا على شمس أحلامنا / نلقاها بتشق السحاب الغميق"..

ولكن هذه البلاد لا تتعلم ، ولأنه جزءمنها .. فقد انحدر معها في سنينها الأخيرة ، وقدم أفلام على شاكله" الآخر" و" سكوت هنصوّر" و" إسكندرية نيويورك"و" هي فوضى" ، وتنتهي المسيرة بمشهدٍ جنائزي وأفلام سيئة ، وحُزْن صاحبنيكثيراً وقتها لأن تلك كانت النهاية ..

ولكني الآن ، أفضّل دائماً أن تَنزل تترات النهاية على مشهد أسبق ، حيث يقف العجوزعلى مسرح كان عام 1997 ليُكرّم عن إنجاز العمر ، بابتسامة خجلةوساعدين مرتعشين وروح محلقة وقلب يكاد يرقص ، تلك هي النهاية التي أحبّها !

ولم أحب شخصاً قدر مَحَبّتي لشاهين ، الذي صاحبني على مدارسنين عمري ، مُنذُ أول فيلم حضرته في السينما وكان له ، وعبر مئات الساعات التيشاهدت فيها أفلامه ، كَوّنتني هذه الأفلام لدرجة صارت بها جزءً منّي ، وفي كل ذكرىله أفكر أن الموت يقف عاجزاً جداً أمام كل هذا ، أحيي مَولِدُه ومَمَاته بفيلمٍ أشاهدهوكِتابة تتناول جزءً من المسيرة التي لَمّ أمل يوماً عن حكيها أو التفكير فيها ..وصوت ينبعث من كل هذا وهو يردد بيت في قصيدة لصلاح جاهين : "موت مين ده يايوسف اللي يحوشك عنّا ؟" .. مفيش حاجة يا يوسف تحوشك عنا !

وصلات



تعليقات