ورحل الشيخ حسني المزاجنجي المبكي الملهم والمضحك

  • مقال
  • 01:58 مساءً - 15 نوفمبر 2016
  • 4 صور



محمود عبدالعزيز

انهمرت مني العَبرات رافضًا تصديق موته، فقد رأيتُه أمامي وهو يسير بدراجته البخارية وعلى وجهه ابتسامة عريضة تقول لي: "أنا مامُتش يا ولا". وفي خلفية رحلته الطويلة يعزف راجح داود "بسكاليا" إلى جانب محمد سلطان على عُودِه حزينـًا، ليرسمَ على شفاهنا البسمة بموسيقى البشاير.

عندما تأكدتُ من الخبر، وجدتُ نفسي أبحث في مكتبة أفلامي عن فيلم Mrs.Doubtfire للراحل أيضـًا، العظيم روبين ويليامز، لا أعلم لماذا؟ لماذا لم أشاهد فيلمـًا لـمحمود عبدالعزيز؟ هل رأيتُ كليهما في نفس المعطف؟ قدما لي نفس المتعة. فويليامز أضحكني وأبكاني، وكذلك فعل عبد العزيز. كنتُ أشاهد ويليامز بعينيه الحزينتين، وأري طيف عبد العزيز أمامي، فتتساقط الدموع أكثر.

تلعبين أيتها السينما دومـًا هذه اللعبة المميتة، إذ تخلقين الحب في أنفسنا لأشخاص لا نعرفهم، ربما نحيا أعمارنا لعقود دون أن نراهم في الواقع، فقط نتحسس أجسادهم عندما تلمس أناملنا شاشتك الساحرة، فتنشأ علاقة الحب بيننا وبينهم. علاقة حب تعاني انعدام الاستقرار، إلا أنها ثابتة على الرغم من ذلك، يصعب أن تنهار. علاقة غير مفهومة، فحُبك لفنان معين أو شخصية خيالية في أحد الأفلام يظل باقي لا يموت حتى لو ماتت شخصية "مزاجنجي" أو مات محمود عبد العزيز نفسه.

تبكيه رغم أنك لم تلتقيه يومـًا، عرفتَ "مزاجنجي" ولم تعرف محمود عبد العزيز، لم تلتقيه لحظة، لم تر سعادته أو حزنه، نجاحاته أو إحباطاته، فقط رأيتَ ذلك النجم المنمق الذي يتحدثُ أمام الكاميرات التي جعلته يرتدي قناع الفنان رغمـًا عنه طوال الوقت.

أحببتُ "أبوالمعاطي" منذ طفولتي وهو يتحدث بلهجته الفلاحية الصادقة وهو يقول حِكمُه عن الحياة، فيتحدث قائلًا: خلي بالك من المليم عشان الجنيه هو اللي بيخلي باله من نفسه. أين أنت الآن يابن عم شمروخ كي تنقذنا مما نحن فيه؟

كانت قصة حب "أبو المعاطي" الفلاح البسيط للفنانة الفاتنة "سلوى نصار" في مسلسل "البشاير" نموذجـًا يهفو قلبي معه عندما أشاهد هذا العمل الأثير كلما مرت بي السنوات.

ملامح "عبد العزيز" التي تبدو غير مصرية عندما تشاهده في فيلم "الحفيد"، تصيبك بهذا الانفصال عنه، تشعر أنه لا يستطيع أن يلمس رُوُحك. ظلت ملامحه المغتربة في التبلور خلال سبعينات القرن الماضي، ولعل هذا الشعور قد ينتابك مع نور الشريف أيضـًا في بداياته، وأحمد زكي كذلك. كانت أرواحهم بعيدة عنهم، وعلاقتنا بهم أبعد مايكون عن الحب والحميمية رغم مصرية وجه الأخيرين. حتى جاءت الثمانينات لتكون كلمة السر في حياة جيل كامل استطاع أن يحفر علامات سينمائية مازالت ثابتة لا تتزحزح من قلوبنا.

جاءت الثمانينات بـالطيب والـخان والسيد والميهي وعبدالخالق، ومعهم الزكي والشريف والعزيز والفخراني.

جاءت الثمانينات لعبد العزيز بحُلة بهية ارتداها فجعلت منه نجمـًا في مكان آخر، لا ينافسه فيه أحد، صنع مع نجوم آخرين أيقونات سينمائية تُجدد نفسها فصارت كالخمر يزداد حلاوة كلما عاش طويلًا.

جاءت الثمانينات لترى ملامح مصرية، لاتفهم كيف أُعيد تكوينها، وتبددت حالة البرود التي يمكن أن تراها في طاقته التمثيلية إلى قدرة غير عادية على فعل أي شيء.

ظل "عبد العزيز" يرتفع خلال هذا العقد، ومعه الرفاق أيضًا، فهنا يتألق "الدكتور عادل" في "العار" ومعه "أبو كمال" و"شكري" الذي قدم في هذا الفيلم ربما أفضل أدواره على الإطلاق.

مزاجنجي

لم يكتب "مزاجنجي" خلال هذه السنوات العشر أسطورته وحده بل سطرها دومـًا مع آخرين. فمع الفخراني في فيلم "الكيف" نجح في أن يغرد في مساحته التي لا يشبه فيها أحدًا بضحكاته مرتفعة الصوت، وجمله التي نرددها حتى اليوم، وأغانيه التي لا تشبه أي أغنية يمكن أن تسمعها، فتجد نفسك تدندنها طوال الوقت: تعالى تاني في الدور التحتاني ناكل لحمة ضاني ونحلي بسوداني!! فعندما حاول أن يكون مغنيـًا، كان أداؤه عظيمـًا، فتجد طريقته في الأداء بين "الكيمي كا" "وترزي البنك" مختلفة كلية عن "تعالى تاني"، إذ تقمص في الأخيرة دور المطرب مرهف الحس، في حين تشعر بأنه مطرب شعبي في "الهاشا باشا تاكا"، وفيلسوف حالم في "يلا بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله".

لم يكن قد أكمل الأربعين، لكنه كان يعرف كيف يجسد شخصية الرجل الخمسيني الذي تصارعه مشاعره بين زوجته المحبة وابنته بالتبني التي ترى فيه رجلًا ملهمـًا ومثيرًا. "مدحت" في "العذراء والشعر الأبيض" يختلف تمامـًا عن "شيخون" في "أبناء وقتلة"، ذلك الجَشِع الذي يمكنك أن تلمس شخصيته عندما تستمع لنبرة صوته الطامعة، المصابة بنهم الحياة دون تحسب لآلام الآخرين.

تحرك محمود عبد العزيز بسلاسة شديدة عبر الشخصيات التي يلعبها، نعم، تشعر أنه يلعب، يصنع البهجة في قالب خاص به، فهو ليس "كوميديان" بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه قادر على أن يضحكك حتى الثمالة، ويبكيك حتى الرمق الأخير.

شخصياته مع عاطف الطيب في "البريء" و"أبناء وقتلة" و"الدنيا على جناح يمامة" لن تجد لها أي تشابه مع شخصياته في أفلام علي عبد الخالق: "العار" و"جري الوحوش" و"الكيف" و"إعدام ميت".

أما مع رأفت الميهي فقد وصل الدكتور "محمود ماعلينا" لدرجة من الاستثنائية في صناعة كوميديا لم يصنعها سوى مع عبقري الفانتازيا الراحل في "السادة الرجال" و"سيداتي أنساتي" و"سمك لبن تمر هندي".

أما مع أحمد يحيى في واحد من أقرب الأفلام لقلبي "ياعزيزي كلنا لصوص"، فـ"مرتضى" الساذج الحالم المستهتر، يتحول لهذا الذكي صاحب العقل اللص، لكنه يبقى كما هو ساذج حالم طيب. ربما تشعر أن شخصية "مرتضى السلاموني" هي محمود عبد العزيز، الحالم الذي يتعامل مع العالم بقلبه قبل عقله. فيصير صادقـًا إلى درجة البكاء عندما يتحول لشيخ في "الحدق يفهم"، تقتر كلماته ندمـًا على مافات.

لا يتوقف الساحر في الثمانينات عند هذا الحد، ففي "الشقة من حق الزوجة"، لا تستطيع أن تترك الفيلم دون أن تشاهد "سمير" وهو يقصف جبهة حماته نعيمة الصغير بالملابس التي يقوم بغسلها على أنغام عدوية "زحمة يا دنيا زحمة".

ماحدث مع "الشيخ حسني" في عقد الثمانينات مرحلة، وما قدمه مع داوود عبد السيد مرحلة أخرى. وقف على قمة الهرم ينطق فاهه بالحكمة والموعظة الممزوجة بالسخرية الكاملة من الحياة البائسة. في قمة يأسه يسخر من كونه مكفوفـًا، ويفتح أفقه للخيال فلا يوقفه أحد، حتى لو كان النيل بضفتيه الواسعتين.

الشيخ حسني

الشيخ حسني عَالِم بكل الأمور، حتى لو لم يراها بعينين مكفوفتين، فقلبه أرحب مما يرون. في "الكيت الكات أصبح "الشيخ حسني" صديقـًا مُقربـًا لجيل كامل، أحبَّ الحياة فأحببناها معه، وتأملها ففهمناها على يديه، ثم سخر منها فضحكنا كما لم نضحك قبل، حتى بكاها فأدمت دموعه قلوبنا.

في عام 2004، كنتُ في السنة الأولى بالجامعة، أعيش مع جدتي رحمها الله. جاء شهر رمضان ومعه "محمود المصري"، الذي صنعتْ جدتي من خلاله حكاياتها اليومية معي عن قصة كفاح المصري في أوروبا وصداماته مع أعدائه في مصر.

كانت جدتي العزيزة تنتهي من غسيل الأطباق بعد الإفطار، ثم تناديني حتى أشاهد معها المسلسل، فتبدأ في نسج سيناريوهات كل حلقة وتتحدث إلى محمود المصري، وكأنه ولدها الذي سافر ولم يعد!!

لن أتحدث عن "ديفيد شارل سمحون" كثيرًا فقد حفر أسطورته الحية في قلوبنا حتى اليوم دون أن نمل من شخصية "رأفت الهجان" للحظة حتى وإن سئمنا مبالغات شقيقته "شريفة"!!

عبدالملك زرزور

اختفى عن الأنظار، ثم عاد كالألهة الإغريقية بهيـًا متأنقـًا في ثوب "عبد الملك زرزور"، أعاد اكتشاف ذاته مرة أخرى بجمل قليلة ومشاهد ليس هو البطل فيها وفق حسابات الأفيش وعدد المشاهد، لكنه كان النجم الطاغي على الفيلم بكل لفتة أو كلمة قالها في الفيلم. "إبراهيم الأبيض" ليس جيدًا سوى بوجود محمود عبد العزيز، إذ يصعب عليك تذكر أي تفاصيل فيه دون أن يكون "زرزور" متصدرًا للكادر.

"عارف يا يوسف، ساعات بقوم من النوم يابني نفسي مقبوض حاسس اني هاتخنق، بابقى عايز حاجة واحدة بس، أسوق موتوسيكل وأطير به".

الموت غريب ياصديقي الساحر، تعلم أنه حتمي، لامحالة منه، لكنك تبكي كل الأحبة الذي يلتقونه أو بالأحرى يأتي للقائهم في كل مرة. لا تتعلم من هذا الخطأ كلما تكرر، تعيد نفس الكَرّة فتبكي أكثر وأكثر، ليس خوفـًا من الموت ولكنه ألم الفقد عزيزي "بهجت منصور"، فرحيلك ترك ألمـًا غائرًا! رحلت يا "رضا" على جناح يمامة في هدوء وهيبة غير خائف وأنت تقول: "حد يخاف من الموت؟ ده اللي يخاف منه يبقى تعبان قوي!! كيف تخاف من خواف؟ لو ماخوافش ما ييجيش مستخبي. هو مش خواف، هو خجول ما عاوزش حد يشوفه. قربت منه وقرب مني كتير وحسيت بأنفاسه. الموت أنفاس خفيفة زي النسمة ما يحسهاش إلا المقصود، تحس ببرد نضيف داخل صدرك، هوا.. مالوش مصدر، ريحته جميلة، بيروحك من الحتة اللي انت فيها، تبقى شايف الناس والناس شايفاك، لكن لا تقدر تكلمهم ولا تقدر تقولهم يبعدوه، كل اللي تقدر تعمله إنك تصاحبه، تطاوعه. لو كل حد عرف إنه هيقابله مرة واحدة ما كانش حد يعمل الشر ده واصل".

صديقي محمود، رغم كل ما كتبت أعلاه، أشعر أن الكتابة عنك صعبة للغاية، مُجهِدة للقلب والعقل. فكلما شاهدتُ لكَ فيلمـًا أردتُ كتابة مئات السطور، لكن يداي تخشى أن تكتبَ ما لا يؤتي الجلال مقامه. رحلتَ وأنت باقٍ، فلن ترحل.

سلامو عليكو




تعليقات