"البر التاني".. لم ينجُ من الغرق!

  • نقد
  • 08:03 مساءً - 2 ديسمبر 2016
  • 1 صورة



البر التاني

أتودون سماع حدوتة؟.. حسنًا، هناك مجموعة من الشباب الكادحين الفقراء الذين تقلبت بهم ظروفهم، ضاق بهم الحال حتى أُغلق عليهم كل منافذ الهواء، نضبت منهم الحلول، لا تملك أسُرهم لهم سوى مزيد من الفقر، الذل، والمرض.. ضياء الشمس يتوارى، الفرص جميعها تلاشت ولا سبيل للخلاص. لكن لا زال هناك شبح أمل يتراقص في خجل؛ نعم تحفّهُ المخاطر، نعم الفشل أقرب إليه أميالًا من النجاح وربما الموت يتأبط ذراعه دون رغبة للفِكاك، لكن لا ملاذ غيره بادي أمامهم.. لقد ضاقت كل السُبل على البر فليكن سبيلهم البحر إذًا، ولتكن الهجرة غير الشرعية هي طوق النجاة أو حجرُ الغرق.

هذا هو فيلم البر التاني دون زيادة أو نقصان، وبعد قراءتك السطور السابقة ربما لن يختلف موقفك كثيرًا عن موقف مَن شاهد الفيلم في قاعات العرض، لن تفوتك علاقات تطبع بصمتها بوجدانك، أو شخوص تعلق تفاصيلها بروحك، أو حتى مواقف يتعذّر عليك توقعها أو التنبؤ بها، فكل ما في الأمر هو الموضوع الذي تم سرده باحتمالاته في بضعة سطور، وهذه - في رأيي - مشكلة كبيرة ساهمت فيها عوامل عِدة متباينة.

أولهم وأهمهم على الإطلاق هو نَص وحوار زينب عزيز، فموضوع مثل الذي يتطرق له الفيلم يحتاج إلى بناء جيد لشخوصه وتمهل في رسم العلاقات بينهم، يحتاج إلى غمس المتلقي في المواقف التي يتعرض لها الأبطال بكل جوارحه، فإن لم يحدث هذا سيفقد المشاهد اهتمامه بالشخصيات وبالتدريج سيتنازل عن اكتراثه بكل ما يجري على الشاشة، فالأمور كلها تمر أمامه مرور الكرام، هو لم يتألم أو يحزن أو يتوتر لأنه أصلًا لم يشعر بالشخصيات ولم يلمس أي رابطة إنسانية نشأت بينهم، وفي هذه الحالة يفقد الموضوع قيمته - وإن كان موضوعًا مهمًا - وينصَب تفكير المتلقي في موعد إدراكه نهاية الفيلم لأنه لا يأبه لِما يحدث. فسيناريو زينب عزيز لم ينجح في أن يربطني بأي شخص أو بطل من أبطاله، لم يصبغني بحالة أي موقف يجري على الشاشة، مجرد حوارات تلقينية في مواقف عدة وحوارات مُفتعلة ومُقحمة إقحامًا في مواقف أخرى، غير بعض الدعابات التي لم يكن لها سببًا أو مكانًا يستدعي قولها فتشعر بها سخيفة وشاذة عن الموقف، وحتى شخصية "القبطان" التي ربما استمالت بعض المشاهدين، اختزلتها الكاتبة في لفظها سُّبة واحدة لا أكثر فى شتى المواقف، بسبب وبدون سبب، "يا ابن الكلب"، "يا ولاد الكلب"، وإن ظفرت اللازمة بابتسامتك في المرات الأولى، ستشعر بعد ذلك أنها مُفتعلة ولا مناسبة تستدعيها وربما تصل لحد استسخافها رغم أنها كانت تروقك بالبداية. ما بدا لي هو أن الكاتبة ارتكنت لثقل أهمية الموضوع الذي يتطرق له نصها - رغم أنه ليس بالفيلم الأول الذي يناقش الهجرة غير الشرعية - ولم تُكلِّف نفسها عناء البناء لشخوصها أو حَبك العلاقات فيما بينهم، وقدرّت أن الموضوع وحده سيستجلب كل اهتمام المتلقي وجُلّ جوارحه، وهو في رأيي ليس بأصوب تقدير.

ولم يتمكن المخرج علي إدريس هو الآخر مِن تجاوز هشاشة النَص بإخراجه، فلا مساحات يُفردها له السيناريو لكي يتمكن من توريط المشاهد في حالة الفيلم الدرامية، فتجده - المخرج - يحاول باستماتة كسب تعاطف المتلقي إبان حالات الغرق بعرض مقتطفات تُلوِّح لنا كمشاهدين بحياة البطل الذي يصارع الغرق، وربما هي لقطة وحيدة التي ظفرت بانتباهي عندما تخيّل "عمرو القاضي" نفسه مع عائلته متحلقين ابنه الوليد أثناء احتفالهم بمرور أسبوع على مولده. ولم يتمكن مخرجنا أيضًا من تجنب خطأ المُحاكاة أو التمسح بعمل عالمي آخر وهي مُحاكاة مثيرة للدهشة والشفقة معًا بالواقع، ولا أدري سببها مع اختلاف الإمكانات الصارخ بين العملين؛ فتشاهد أثناء غرق السفينة بعض اللقطات التي تُجاهد للتحلي بروح مشاهد غرق السفينة في فيلم Titanic، ومع فارق جودة العناصر تصبح العملية مثيرة للسخرية بدلًا من التأثر، فِعوضًا عن تسخير الإمكانات المُتاحة لخلق ما يستلزمه المشهد، تم دفع انتباه المُشاهد للعمل الآخر وشعوره بضآلة ما يتابعه، ولا أدري غاية للجوء صُناع العمل لمثل هذه المُحاكاة. وحتى مشاهد غرق السفينة في فيلمنا على حِدة لم تكن مقنعة بالنسبة لي.

في ظل العوامل السابقة لم تُتَح الفرصة أيضًا لنشاهد أداءات تمثيلية تضاهي أهمية موضوع الفيلم، سواء محمد علي أو محمد مهران أو عمرو القاضي وسائر الممثلين، لم تكن هناك مساحات تجعلنا ندرك لأدائهم تأثيرًا يتمكن مِنا، فكل ممثل أدى ما هو مطلوب وفقًا لِما سمح به النص لا أكثر. كما ترددت أقاويل عديدة عن مدى جودة تصوير الفيلم وجمال بعض كادراته، وأنا لم أشعر بهذا أو ذاك، وقد أعزو الأمر إلى فقدان اكتراثي بالفيلم في مرحلة مبكرة منه لما لمسته من ضعف النص وافتعال الحوار وغياب الإحكام عن عناصر أخرى.

الفيلم مقبول بالكاد ويمكنني اعتباره سيئًا إذا ما قارنت جودته بميزانيته الضخمة، فخمس وعشرين مليون جنيه كانت تسمح بأن نشاهد أفضل مما رأيناه بدرجات وخاصًة أن الفيلم لا يضم نجوم شباك يطلبون أجورًا ضخمة. ولا يصح أن نحكم على فيلم بأنه جيد لمجرد انه تطرق لموضوع مختلف أو ذو أهمية، بل بالعكس لا بد وأن يكون التناول بذات قيمة الموضوع حتى لا تتسع الفجوة بينهما ويطفو الضعف على السطح، فأهمية موضوع أي فيلم لا تشفع له ضعف نصه أو ارتكانه للفكرة التي يناقشها، وبإمكان بقية العناصر أن تسحب الموضوع - رغم أهميته - للقاع وتُغرقه معها دون فرصة إنقاذ. ولذلك أرى أن فيلمنا بالمستوى الذي قُدم به لم يبلغ برّه التاني أو حتى برّه الأول.



تعليقات