"مخدومين".. اختلاف المنظور قد يُفسِد للود قضية

  • نقد
  • 11:23 مساءً - 17 مايو 2017
  • 1 صورة



مشهد من فيلم (مخدومين).

هذا واحد من الأفلام الذي يُربكَك أمرها وتُصيبك بالحيرة حين تحاول الحكم عليها، فهو من جانبٍ يُخلِص لقضيته وأسلوب المعالجة الذي انتقاه لها ويعرضها من المنظور الذي ارتضاه دون أن يَحيد عنه لأي سبب، ومن الجانب الآخر قد يَفقد فئات عِدة من المشاهدين لمخالفته المنظور الذي توقعوه وتبنيه منظورًا قد يرونه مُضجّرًا أو أبعد من غيره في عرض القضية ومناقشتها.. فتجد نفسك أمام معادلة مُستعصية الحلول، فالفيلم -فنيًا- اختار هدفه وأتقن أسلوب العرض الذي رآه صانعه ملائمًا لرؤيته، بينما عديد من المشاهدين سيرون أن الفيلم حدد الهدف في مرمى التصويب، وبدلًا من أن يقتنصه بإحكام أخذ يصوّب مرارًا وتكرارًا بعيدًا عنه.

يُناقِش فيلم "مخدومين" للمخرج ماهر أبي سمرا - الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان أيام القاهرة السينمائية - مهنة الخدمة في المنازل المتفشية بالعاصمة اللبنانية، والتي أفسحت لها مجالًا كبيرًا في المدينة، ويتضح لنا من عنوان الفيلم أن المخرج يقصد عرض القضية من جانب المخدومين ومنظورهم لا من جانب الخادمين، وتلك هي النقطة التي خلقت معادلة الفيلم المُربِكة.

يبدأ ماهر فيلمه بمشاهد متكررة تستعرض بعض المخدومين الذين يتحلّق خُدّامهم حولهم، وكأن على رؤوسهم الطير، فالمخدوم يثرثر عن واجبات الخادم ومتي يكون مُرضِيًا له، بينما خادمه يقف بجواره دون وجود، لا يزيد تأثيره عن قطعة ديكور. ويختار "أبي سمرا" في بداية فيلمه مخدومة بعينها، تتحدث - ولا يُمكنك أن تُخطئ تَعالي لهجتها - عن أن الخادم الجيد هو الذي ينجز أعماله ملتزمًا الصمت حتى أنك لا تنتبه لوجوده لحظة، وتثرثر - دون أن تتخلى عن تعاظمها - عن تاريخ عائلتها في امتلاك الخادمين ومهارتهم في محو كينونة الخادم وتجاهله لمعاونته على اعتياد إنجاز مهامه دون أن تصدر عنه همسة؛ وأنت كمشاهد تضايقك السيدة بصَلفها وطريقة حديثها ثم تتوقع وتتهيأ لأن القادم سيكون عرض لعدة خادمين يقع عليهم هذا التسلط المُرهِق، وحالات متباينة توضح لنا سطوة المخدومين عليهم.

لكن الفيلم يُخالف المنظور الذي تأهّبت له، وينتقل كليًا داخل مكتب متخصص في توفير الخادمات الأفريقية والآسيوية للعملاء ميسوري الحال، ينتقل الفيلم للمكتب ويستقر هناك. فتمر قرابة الأربعين دقيقة ونحن داخل المكتب دون أن نبارحه! بل نشهد "زين" مالك المكتب ومساعدته "آمال" يديرون صفقاتهم عبر مكالمات هاتفية، ما بين شكاوى عملاء واستفسارات متباينة وطلبات خادمات من عملاء آخرين. مكالمة وراء الثانية وشكوى تلو أخرى، وتفسير بعده تفسير يتلوهم زين لذاك ولتلك، حتى أنه يشرح خارطة صفقاته على زجاج مكتبه؛ ومن أين تأتي الخادمات وبمَ تمر رحلتهن وأين تنتهي، يُدلي زين بكَم هائل ومتخصص من المعلومات – التي لا تهمك وقد تراها بعيدة عن توريطنا في قضية الفيلم - لدرجة قد تشعر معها أنك تتلقى درس جغرافيا وإحصاء. أربعين دقيقة تقريبًا يقبع بنا الفيلم خلالها داخل المكتب، وهي المسألة التي تسببت في فقدان الفيلم لمشاهدين عِدة - وأنا منهم - لشعورهم بأن هناك سُبُّل عديدة أكثر إثارة للفضول وأدنى لقضية الفيلم عن تلك.

في ذات الوقت لا يمكنك أن تَعيب على ماهر أبي سمرا منظور عرضه، فالرجل اختار أن يعرض قضيته من وجهة نظر المخدومين، واتّكل على إقحامنا في بيئة توظيف خادميهم لتتناوب علينا صفقات مختلفة وعملاء متباينة الآراء والمتطلبات، فالرجل انتقى أسلوب معالجته وأخلص له رغم علمه المُسبَق بأنه قد يفقد قطاع عريض من المشاهدين بإخلاصه لذلك المنظور، وهذا فنيًا يُحسَب له. ولكن سنختلس وقفة في معالجته لمنظوره الذي انتقاه، فهو مثلًا أحب أن يعرض القضية من جانب المخدومين، واختار متعمدًا أن يلغي وجود الخادمين تمامًا من محيط فيلمه، فكل ما يأتينا عنهم إما عن لسان زين أو عن لسان أحد العملاء، هو مُصر أن يعلن قضيته بعيون المخدومين ولن يستجلب ردود الفعل المعتادة بأن ينهال علينا بالخادمين الذين عصفت بهم قسوة مخدوميهم.. جميل، نقاشنا في المعالجة، لماذا نقضي ثُلثي الفيلم وأكثر داخل مكتب توظيف الخادمات، وتمر علينا أوقات عِدة في تفاصيل لا جدوى ولا طائل منها نسبيًا، بينما كان من الممكن أن تعرض لنا بيئة التوظيف وطبيعة إتمام الصفقات، ثم تنقلنا لمخدومين آخرين - مثل السيدة المتغطرسة التي بدأت بها فيلمك - وتعرض علينا أقاصيصهم ومتطلباتهم في خادمهم؛ فلا كنت حِدت عن منظورك الذي اخترته لعرض فيلمك، ولا كنت فقدت مشاهدين وخسرت اكتراثهم بعد حصارهم داخل مكتب التوظيف طيلة هذه المدة.

كاميرا الفيلم كان لها دورها في أن يستغلها أبو سمرا في تدعيم منظوره لعرض القضية، فاستعاض بها عن رصده الخادمين أو تسجيل أحادثيهم عما يٌلاقوه من صعوبات، وأخذ يتلصص بكاميرته في تؤدة على شُرفات عدة، ثم يغوص إلى الداخل ليعرض بعدسته كيف يمكن أن تكون شقة المخدوم متسعة وبها أماكن قد تفيض عن حاجة أصحابها، ولكن تبقى للمخدوم - رغم كل شيء - غرفة ضيقة خانقة بالكاد تتسع له ولمتاعه إن وُجد؛ فأحسن ماهر استخدام كاميرته في خدمة ما يرنو إليه.

فيلم مخدومين يطرح قضية قد تكون غائبة عن البعض، ويٌعانق تفاصيل قلما يتعرض إليها الآخرون، ويختار صانعه عرض القضية من المنظور الأصعب - والذي قد لا يُلاقي استحسان مُشاهد يرغب في أن يتورط بالفيلم - ويُخلُص تمامًا في ذلك، قد نختلف بأنها الطريقة الأفضل أو الأكثر استجلابًا لانغماسنا في الفيلم، وقد نختلف بأن الفيلم قد ينجح في الظفر بحب المشاهدين لمتابعته حتى النهاية، ولكننا لن نختلف على أن صانعُه أخلص لوجهة نظره التي رآها مناسبة لعرض قضيته، وأنه أحسن استغلال أدواته الفنية لخدمة غرضه

وصلات



تعليقات