"لا تطفئ الشمس".. ودَعها تخبو وحدها

  • نقد
  • 03:47 مساءً - 24 يونيو 2017
  • 1 صورة



أبطال مسلسل (لا تطفئ الشمس) في واحد من مشاهده.

مع اقتراب شهرنا الكريم وتأهب الجميع لاختيار المسلسل الذي سيكون بمثابة قطعة الحَلوى بين مشاهداتهم التي قد تتعدد، كان اختياري واضحًا دون تردد أو تفكير؛ فكنت انتظر منذ أمد عمل محمد شاكر خضير وتامر حبيب الجديد، وأخذ يُلازمني سؤالًا مُلحًا طيلة فترة انتظاري؛ تُرى كيف سيتفوقان هذه المرة عمّا فعلاه في مسلسلهما "جراند أوتيل" العام الماضي؟ هل من الممكن أن يتخطا ما حققاه من إبداع في فندقهما الغامض؟ هل من الجائز أن يُنحّوا نجاحهما الماضي جانبًا مفسحين الطريق لنجاح آخر أكبر وأكثر إبداعية؟.. أصدقكم القول، ساورني الشكُ كثيرًا أن يتفتق عن إبداعهما عملًا يفوق الفائت، لكني انتظرت ومَنيّتُ نفسي أن صناع عمل بجودة جراند أوتيل - على الأقل - لن يُخذلانا بجودة عملهما الجديد، وإن تراجعت عن جودة سابقهُ.

ثم حلّ الشهر الكريم، وجاء لا تطفئ الشمس يجيب عن أسئلتي على طريقته، فأجدني أتناسى كل أسئلتي مأخوذًا ومشدوهًا بتلك الحالة التي يضفيها المسلسل في حلقاته الأولى، لألمس سحرًا لم أعهده من قبل في أي عمل تليفزيوني عربي آخر، وليس "جراند أوتيل" فقط. فأجلس ثلاثين دقيقة أمام الشاشة مبهورًا بما يحدث، مُحلقًا مع أفراد تلك العائلة في كل لفتة تصدر عنهم، بينما أتلقى كل جملة حوارية تدور بين شخوص المسلسل فتنفذ إلى روحي دون عوائق. كل حركة، كل إشارة، وكل إيماءة، لها وزنها الخاص وتأثيرها الذي تتماهى معه روحك، فتصير أمنيتك الوحيدة أن تصبح واحدًا من هؤلاء، أن تكون فردًا في محيط هذه الأسرة البديعة، وتجد شغلك الشاغل طيلة مشاهدتك هو رجاء روحك المستميت بألا تنطفئ شمس هذه الحلقة.

حالة من السحر الخالص يصوغها حبيب وخضير في حلقات مسلسلهما العشرة الأولى، يرسمان شخوصهما بنعومة وتلقائية، يُضفرّان العلاقات بينهم بوعي، ويخلقان المواقف التي تفيض بجمال روح كل شخصية بمنتهى الصدق، فتشاهدهم مغمورًا بالسعادة، متأهبًا لكل صغيرة تبدو منهم لأنها ستُبهجك، ثم تشعر بأن الوقت مع هؤلاء ثمين، وجمال انقضائه يقبع بروحك فيمدّك بالرضا، لتبلغ مرتبة من الثقة في أن هذه الحالة البديعة المذهلة لا يمكن أن تفقد مفعولها أو تتراجع إبداعيتها؛ فحالة بهذه السحر وهذا التأثير لا يمكن أن يخفت بريقها ويصعب أن يؤول أمرها إلى الخِذلان، فهي ثابتة ولن يقربها آخر، حتى جراند أوتيل بفخامته لن يصمد أمام هذه الحالة الاستثنائية الفريدة متكاملة العناصر.

لا عنصر من عناصر المسلسل يفقد رصيده عندك، بدءًا من كتابة تامر حبيب الصادقة المتأنية والمُفعمة بالمشاعر والمواقف الفارقة، شخوصه الناضحين بالحياة، وعلاقاتهم التي تحب الانغماس فيها والتورط عن آخرك. مرورًا، بموسيقى أمين بوحافة الخلابة بطبعها، والتي تظهر دومًا في لحظتها المناسبة، فتُكثّف ما تشعر به وتؤكد ما يُعانق روحك. ثم التصوير الواعي الذي يعرف ما يرصده جيدًا، والمونتاج السلس الرشيق، إلى قيادة وإخراج محمد شاكر خضير، الذي لا يترك لك مجالًا سوى الإيمان بأنه موهوب للغاية، يعرف كيف يصنع روحًا فريدة لعمله وكيف يصقلها، كيف يخرج بأدق التفاصيل وأصدق الانفعالات من ممثليه، وكيف يُقحمك كمشاهد في أبسط مواقفه وأعقدها على حٍد سَواء.

لنشهد أداءات تمثيلية فاتنة، فيؤكد محمد ممدوح من جديد أنه ممثل من العيار الثقيل، وأنه قادر على لمس جوارحك في كل فرصة تلوح له. ويباغتنا أحمد مالك بكاريزما رائعة في شخصية "آدم"، وأداء هو الأفضل بين أداءاته. وتنضم له في صف المفاجآت الجميلة ريهام عبد الغفور، في شخصية "أفنان" المتطرفة في تشددها دون أن تفقد اهتمامك في رؤيتها على الشاشة وترقب ما سيصدر عنها، حتى أنها تتفوق لتُشعرك بحنوّها البالغ من بين ملامحها الجامدة في مواقف عِدة. والجميلة الراقية الهاربة من عصور الأميرات أمينة خليل، في شخصية "إنجي" القادرة على مواكبة هذه وذاك، والموجودة دومًا لاحتواء الجميع. ثم جميلة عوض بطاقتها المعهودة وانفعالاتها المُحببة. وفتحي عبدالوهاب القادر على ترك بصمته في كل لحظة يظهرها على الشاشة. حتى الأداءات الأولى كان لها نصيبًا من التميز والفرادة، لتكون مريم الخشت في دور "شهيرة" من أكثر عناصر المسلسل جلبًا للسعادة بالنسبة لي؛ فهي صادقة، جميلة، قوية الشخصية، بالغة الرقة والحنو، كل مواقفها تنساب إليك وتدغدغ مشاعرك دون جهد أو تكلف. بالإضافة لـمحمود الليثي في شخصية "د. سعد"، والذي تنتظر ردود فعله المرتبكة أمام جبروت "أفنان" على أحر من الجمر.

كل عناصر المسلسل تتكاتف لتثبت لك أنها كفؤ لمعالجة رواية أنتجها قلم كبير مثل إحسان عبد القدوس، وكلها تتضافر لتنثر بروحك الشعور بالرضا وانتظار المزيد. ويستمر السحر الخالص الذي لا تشوبه شائبة طيلة عشر حلقات، فيبلغ ذروته في خاتمة الحلقة العاشرة، تحديدًا بمشهد عيد ميلاد أفنان؛ الذي يقوم آدم خلاله بتشغيل أغنية الطفولة المحببة لها وللجميع "رايح أجيب الديب من ديله"، وتصدح أنغام الأغنية، لتغني معها أفراد عائلتنا وقد غمرتهم النوستالجيا، ويبدأون في التراقص والتمايل يُمنًة ويساراً، فتخرج أفنان عن جمودها لتشاركهم الغناء بل تتقدمهم جميعًا في ترديد كلمات الأغنية، يلِفَّهُم الرقص وتعلو وجوههم الضحكات الرنانة، ويرصد الـ Slow Motion تعابيرهم المنتشية بالسعادة، ثم تدخل موسيقى أمين بوحافة لتضفي شجنًا عجيبًا على الحالة وتصنع مزيجًا فريدًا من المشاعر بين شجن وسرور، بينما تقترب الكاميرا من تقاسيم وجه أفنان التي أطلقت العنان لروحها، فأمست ترفرف برقصها متناسية الكون بمن فيه؛ تتواصل الأنغام "رايح أجيب الديب من ديله، واقلق نومه في نص الليل، وإن مقدرتش أجيبه هسيبه، وأرجع أقول ما لقيتلوش ديل، رايح أجيب الديب من ديله، بس على الله يكون له ديل، بس على الله يكون له ديل، بس على الله يكون له ديييييل"، في واحدة من أجمل المشاهد التي رأيتها على شاشة تليفزيونية على الإطلاق، طاقة حب غير مسبوقة، ودفقات عاتية من دفء أسري تتمنى لو دام أبدًا.

وبعدما تبلغ ذروة الشعور بالدفء الأسري وتغلبك حالة المسلسل الساحرة، فتمتلئ بثقتك في أن هذه الحالة ستكون من أعظم ما عاهدت على الشاشة، تسلك الرياح مجراها المعتاد وتأتي بما تمقتُه السفن.. لم تنجرف دفة المسلسل للتراجع سريعًا، فكان الإيقاع متماسكًا لحٍد ما في الخمس حلقات التي تَلَّت العشرة الأوائل، وكان عبير الحالة التي صنعها المسلسل لا زال يُلطِّف الأجواء، لكن بدأ ينتابني الشعور بأن الأمر لم يعد بسلاسته المعتادة، وأن الإيقاع يُجاهد في الحفاظ على مكانته عندي، فأخذت أمنّي نفسي بأن الأمر وارد في حلقات المنتصف، أحزنني أن الثقة التي مدتني بها الحالة البديعة للمسلسل بدأت تتهاوى، لكن ارتكنت إلى أن الأمر وارد، خاصًة وأن الأحداث لا زالت تجلب الاهتمام. لكن بعد نقطة انتحار آدم وحبيبة وتتابعاتها، بدأت الدفة تتراجع دون تمهل، وبدأ سحر الحالة ينقشع بلا هوادة؛ فشرع المسلسل يفقد روحه خطوة بعد خطوة. الأشخاص الذين ارتبطت بهم، بدأوا يزيدون غرابة وانعدام منطقية، دفء الأسرة الذي كان موجودًا حتى في مشكلاتهم وصراعاتهم سويًا، بدأ يزول وإن التمّوا جميعًا في ذات الغرفة، أحداث لا تدري ما جاء بها والأدهى أن صُناع المسلسل لا يمنطقوها لك بالشكل الكافي، حتى الأداء التمثيلي الذي كان يأسرك في أدق تفاصيله، أمسى متكلفًا وربما يثير ضيقك. وبعد أن كانت الأمور تنفذ لروحك دون عوائق، أمسى أسلوب "جعلوه فانجعل" يُسيطر على الأمور رويدًا رويدًا، ويرهقك التساؤل عما أودى بنا للتحول من البساطة والتلقائية التامة إلى الغرابة والخروج عن المنطق الذي عهدناه دون مبرراتٍ تّذكَر، فلا تجد جوابًا، وتشعر كأن صُناع المسلسل ذهبوا ليأتون بالذئب من ذيله كما تقول الأغنية! فعجزوا بطبيعة الحال.

تتوالى الحلقات وتنقشع الشمس التي كانت تمدّك بالدفء، وتخبو أشعتها كل حلقة عن سابقتها، فتحزن أن حالة بمثل هذه العظمة آلت إلى مثل هذا الحال دون سبب تفهمه، تطورات عجيبة في خطوط المسلسل، وليس العجب في كينونتها قدر ما هو عجبًا في أسبابها التي تغيب عنك ولا يهتم صناع المسلسل بتقديمها إليك أو حبكها كما يلزم، فتشعر بشخوص المسلسل أغرابًا عنك بعدما كانت الألفة هي السمة التي تجمعكما. ويغلبك الأسى أن سحر البداية الخالص باتت تكسوه الغيوم. وأن الشمس التي سطعت بحلقات المسلسل الأولى أمست تتوارى دون الاكتراث لشغفك بها، حتى يحل محل ثقتك الكاملة في الحلقات الأولى، شكَّك في أن شمس المسلسل ستختفي بالنسبة لك من قبل حتى أن يبلغ نهايته.

تمنيت كثيرًا أن اكتب هذا المقال عقب الحلقات العشرة الأولى، وأنا مشدوهًا مفعمًا بسحر الحالة الاستثنائية الفريدة التي صنعها المسلسل، لكن أبى القدر أن يحدث هذا. ثم فكرت أن أترقب نهاية المسلسل، لكن حزني على تراجع حالته دفعني للخوف من أن تُجهز النهاية على ما بقي مِن المسلسل في روحي؛ فبعد أن أفعمنى المسلسل بالدفء والحب في حلقاته الأولى، تراجع وظهر جراند أوتيل بفخامته وصمود حبكته من جديد، وبعد أن كنت أشاهد الحلقة راجيًا ألا تنطفئ شمسها، صرت أتابعها مترقبًا غيابها. والأنكى أنني لا أجد مبررات لصُناع المسلسل؛ كيف يصنعون مثل تلك الحالة ثم يُفرطّون في فرادتها بهذا الشكل المُحبط الغريب؟! لكن تقديرًا لهذا الجمال الذي تعبأت به روحي خلال الحلقات الأولى، سأحاول التعلق ببعض الأمل الزائف؛ ولن أطفئ الشمس، بل سأترقبها تخبو وَحدها.



تعليقات