Dunkirk ... التحليق فوق شواطئ نولان

  • نقد
  • 05:26 مساءً - 28 يوليو 2017
  • 1 صورة



Dunkirk

وبعد 3 أعوام على فيلمه الأخير، يعود أحد أشهر مخرجي العصر الحالي، كريستوفر نولان إلى الشاشة الفضية. هذه المرة من خلال فيلم حربي واقعي يبتعد به عن أفلام الخيال العلمي والكوميكس التي اعتاد تقديمها خلال ربما العشرة أعوام الأخيرة والتي صنعت نجاحه بالأساس. تدور أحداث الفيلم هذه المرة في إطار ما يعرف بالإجلاء البريطاني من على شاطئ دانكيرك بين 26 مايو و4 يونيو عام 1940 في أعقاب الاجتياح الألماني لهولندا وبلجيكا وأجزاء من فرنسا.

يقدم نولان فيلمه من خلال ثلاثة خطوط درامية تدور في أماكن مختلفة بأحداث وأبطال مختلفين. يبدأ كل خط درامي في فترة زمنية مختلفة – بلمسة نولانية أصيلة – لتتقاطع وتتشابك الخطوط الدرامية ببعضها مع تقدم أحداث الفيلم. فالخط الدرامي الأول، يدور على الشاطيء وفي المرسى وتبدأ أحداثه قبل أسبوع من نهاية أحداث الفيلم. الخط الدرامي الثاني، يدور في البحر وتبدأ أحداثه قبل يوم واحد من نهاية أحداث الفيلم. أخيرًا، الخط الثالث وهو يدور في الجو وتبدأ أحداثه قبل ساعة واحدة من نهاية أحداث الفيلم. ولعلنا يمكننا مسايرة هذا البناء الدرامي وتأمل مبدئيًا كل خط درامي على حدة لعلنا نصل في النهاية لرؤية شاملة عن الفيلم.

لربما أكثر ما بدا غريبًا لكاتب هذا المقال، هو "شاطئ نولان". شاطئ نولان ربما لم يكن الأكثر واقعية بقدر ما كان يعكس رؤية نولان الفنية والإحساس الذي أراد أن يوصله لنا. فالشاطئ في فيلم دونكيرك كان شاطئ به مساحات كبيرة خالية، به الأفق واضح والبحر ظاهر وممتد. الشخوص على شاطئ نولان قليلة الكلام وقليلة الحركة، حركاتهم في أغلبها منظمة وميكانيكية، طوابير طويلة تنتظر دورها لركوب السفن المغادرة، معدات قليلة متروكة على الشاطئ ولكنها مرصوصة ومنتظمة. إن هذا يتناقض بشكل كبير مع واقع الأحداث التي يدور في إطارها الفيلم، يتناقض مع فكرة وجود 400 ألف جندي يتواجدون جميعهم في شاطئ مدينة واحدة محاصرين من كل الجهات ينتظرون دورهم في عملية الإجلاء. مع وجود أيضًا ما يقارب من 40000 أخرين يقاتلون الألمان داخل وعلى حدود المدينة. يتناقض أيضًا، مع حقيقة أن تقريبًا كل معدات هذا الجيش الضخم قد تركت على الشاطئ.

وهنا لمقارنة أعمق، يجب أن نستحضر شاطئ دانكيرك الآخر الذي قدم على الشاشة الفضية قبل عشرة أعوام من خلال الفيلم الرائع Atonement الذي رشح ل7 جوائز أوسكار. Atonement لم يكن فيلم حربي في الأساس وإنما قدم شاطئ دانكيرك في إطار مشهد قصير شهير للغاية. عامة، شاطئ دانكيرك في Atonement كان شاطئ فوضوي، مزدحم مجنون للغاية. شاطئ غير منظم ملئ بالمعدات التي يتم إعطابها، تتعدد فيه تصرفات ومصائر الجنود، بين الذين يقفون منتظرين دورهم في الإجلاء وبين الأخرين الذين يلعبون بجنون في بقايا قطع الملاهي الموجودة على الشاطئ وأولئك الذين يقفون تائهين يدخنون وحدهم في ملكوتهم وتلكم الذين "يقتلون الخيول" حتى لا يغنمها الألمان بعد رحيلهم. الاختلاف بين الشاطئين في Dunkirk وAtonement في الحقيقة ليس اختلاف في الواقعية فقط بقدر ما هو اختلاف في الرؤية الفنية. فالشاطئين امتلكا عناصر فنية قوية ولكن بينما قدم Atonement فكرة وإحساس "الضياع في الفوضى" وصغر الإنسان أمام ضخامة الحدث، ربما أراد نولان في Dunkirk أن يقدم فكرة "الضياع والعزلة" على الشاطئ. حيث الجندي، معزول، وحيد على الشاطئ وأمامه البحر مفتوح، حيث الحوارات قليلة في أغلبها وحيث يكون صوت أزيز الطائرات هو صوت الرعب الأكبر. إن الإنسان في دانكيرك نولان هو فريسة تائهة، تواجه المجهول والضياع وفي حالة هرب دائمة من صياديها اللائي لا تراهم ولكن تسمعهم فقط وترى ضحاياهم.

بحر نولان لم يكن فيه من الجديد الكثير. ربما كان الاعتماد الأكبر على أحداث البحر في إعطاء الفيلم بعدًا دراميًا وأدبيًا أقوى وفي ربط الأحداث. ربما، كان على صناع الفيلم تحدي حقيقي في تقديم شيء جديد يختلف عما قدم من قبل في الأفلام البحرية الحربية وهى كثيرة وفيها أيضا من الجيد الكثير. مشاهد سقوط الطائرات في البحر، التصوير الخلاب وفكرة احتراق الزيت/البنزين على سطح الماء كان هو رد صناع الفيلم على التحدي. رد جيد ولكنه ليس الأكثر تميزًا ويبقى التصوير هو الأجمل في هذا الإطار.

على الجانب الأخر، فأجواء دانكريك نولان كانت هي الأجمل والأكثر تميزًا في الفيلم، وربما هى الإضافة الحقيقية التي يضيفها الفيلم للأرشيف السينمائي. مشاهد المعارك والمطاردات الجوية لم تكن فقط شديدة الجمال تصويرًا ولكنها أيضًا قدمت بشكل بسيط، سلس وواقعي يجعل المشاهد قادرًا على تتبع المشهد بسهولة وفهم أحداثه. المشاهد بدت واقعية للغاية، تصويرًا وأحداثًا وتمثيلًا. التوتر والضغط الذي يعاني منه الطيار، نقص البنزين، واقعية الطائرات، مسافات التصوير والمناورات، طريقة إصابة الطائرات والبحث الدائم للطيارين في الأفق كلها ملامح تدل بشدة على مدى جودة وواقعية مشاهد المعارك الجوية التي قدمت، كتابة، تصميمًا، تصويرًا وتنفيذًا. ربما يمكن القول بكل ثقة أن مشاهد المطاردات الجوية في دانكريك هي من ضمن الأفضل والأجمل على الإطلاق في تاريخ السينما، هذا إن لم تكن أفضلهم.

ربما نقطة القوة الأساسية الأخرى في الفيلم هي في كيفية تقاطع وتشابك الخطوط الدرامية للفيلم، وكيف نجح صناع الفيلم في تقديمها بشكل مباشر ومبسط لا يؤدي إلى "تيه" المشاهد بين الأحداث. إن من أجمل ما قدم في الفيلم هو كيف يتأثر الجندي على الأرض أو في البحر بما يدور في الجو، إن الفيلم يؤسس ويقدم بأقوى وأوضح ما يكون فكرة بطولة الطيار المقاتل في مواجهة الطائرات المغيرة وكيف أن بطولة وتضحية هؤلاء الطيارين تساهم في إنقاذ عشرات الأرواح على الأرض. على الجانب الأخر، ترى نظرة الجنود على الأرض لما يدور في السماء وكيف تكون الطائرات مصدر رعب وفزع أو حافز رافع كبير للمعنويات. هذه الأشياء، تقرأ عنها وتسمعها في شهادات الجنود في الكتب والوثائقيات ولكنها قليلا ما قدمت في السينما بهذه الجودة والدقة والتفصيل.

إجمالًا، فيلم جيد، ممتع ومتقن لنولان ولكنه ليس استثنائي. تميز الفيلم في الأساس كان في التصوير، الربط بين الأحداث ومشاهد المعارك الجوية، مع كون الأخيرة هى الإضافة الحقيقية والنقطة المميزة للفيلم سينمائيا. الفيلم لم يخلو من العيوب أبرزها عدم واقعية شاطئ دانكريك، من أول ما تم ذكره من بساطة العناصر على الشاطئ إلى الأريحية والحوارات الهادئة للضباط على المرسى. أيضا بعض المبالغات في تصرفات وانفعالات الأفراد بدون تبرير درامي قوي. عامة، يبقى الفيلم في النهاية جيد، ممتع ومتقن.

على مستوى أخر، الفيلم هو حدث مهم جدًا لنولان كصانع أفلام، لأنه أخيرًا يكسر بهدوء من خلال فيلم واقعي، بسيط وقصير، دائرة التوقعات المرتفعة والزائدة عن الحد لمتابعيه والتي كانت تتزايد بشكل مطرد ومخيف مع أفلامه الثلاثة الأخيرة وكانت توشي بعواقب وخيمة، فعند نقطة ما يصبح سقف التوقعات أعلى بكثير مما هو ممكن على أرض الواقع.

نقطة أخيرة تستحق الذكر، إن نولان ربما يكون تاريخيًا محظوظ، فإن الذاكرة تستحضر اليوم مخرج أخر كتب اسمه بحروف من ذهب في فئة سينمائية – الwestern تحديدًا – حلم وأراد يومًا أن يقدم فيلمه الخاص عن الحرب العالمية الثانية، ولكن الوقت والظروف لم تسعفه وتوفي قبل إتمام عمله. إنها ذكرى سيرجو ليوني وفيلمه عن حصار لينينجراد الذي لم يخرج أبدًا إلى النور. إن نولان وفيلمه Dunkirk اليوم بعيدًا عن أي اعتبارات، إنما يقدمون رسالة أمل إلى كل صناع السينما أنه يمكن ببعض النجاح وبعض العوامل الأخرى أن تتمكن من أن تصنع وتقدم فيلمك الخاص، خارج عن المألوف وعن المتوقع منك ونظريًا على حساب البعد الاقتصادي. فإن الأمل دائمًا، أن يتمكن كل صانع سينما أن يقدم عمله الخاص بعيدًا عن الضغوط بكافة أشكالها التي تقيد الإبداع النقي وتحيد وتمنع صانع السينما عن أن يقدم ما يشاء.


وصلات



تعليقات