"الكنز: الجزء اﻷول"... التاريخ كتاب والخيال فضاء

  • نقد
  • 09:15 صباحًا - 7 سبتمبر 2017
  • 5 صور



الكنز: الحقيقة والخيال- الجزء اﻷول

إنه لقدر أزلي على البشرية بأسرها أن يكون وسيلة تسجيلهم الرئيسية لكل ما مر عليهم من أحداث (التاريخ) وسيلة حمالة للأوجه على الدوام، لم ولن يخلو أي نقاش حول شخصية أو حدث تاريخي - مهما كانت درجة اﻹجماع - من تعارض أو تضارب وجهات النظر، سواء جاء هذا التضارب بناء على اﻷهواء السياسية أو التقلبات اﻷيدولوجية أو علاقات الانتصار والانهزام، فتقف رواية أمام آخرى، ووجهة نظر أمام نقيضتها التامة، مما يجعل من الاستحالة بمكان معرفة حقيقة ما حدث بالضبط -إلا في بعض الحالات- بالرغم من كون مهمة التاريخ هى محاولة استنطاق الحقيقة، ومن هنا تبرز وسيلة آخرى نشد بها اﻹنسان محاولة سد الفراغات في هذه الحكايات المتعارضة ووضع سيناريو مفهوم يمكن به استعياب أية حكاية تاريخية، وهى (الخيال).

مثال: انظر إلى حكاية جاك السفاح وجرائمه المتسلسلة التي أثارت الرعب في أوصال قاطني مدينة لندن في خواتيم القرن التاسع عشر واستهدفت باﻷساس بائعات الهوى، لا نعلم حتى اﻵن هوية القاتل الحقيقية، لا نعلم حتى إن كان مرتكب هذه الجرائم شخص واحد أم عدة أشخاص، لا نعلم حتى ما هو الحقيقي أو المتخيل عنه، وﻷجل كل هذا ال"لا نعلم" المحيطة به، بات من الطبيعي ظهور عشرات النظريات التي حاولت قدر المستطاع وضع تصورات منطقية لهذه الشخصية الغامضة والجرائم التي ارتكبتها.

وكما هو واضح من العنوان دون شك، فإن أحدث مشاريع المخرج شريف عرفة من خلال فيلمه الكنز : الحقيقة والخيال- الجزء اﻷول لا يسعى لتقديم وقائع تاريخية تنتظم في قصة درامية متخيلة، وإنما ينتقي من التاريخ ما يتماشي مع قصته الدرامية المتخيلة، مقيمًا مع ما هو منسوب للتاريخ أصلًا علاقات تتزاوج فيها الحقيقة والخيال بدرجات متفاوتة من قصة للآخرى بين الحكايات الثلاث التي نشاهدها ضمن أحداث الفيلم: حكاية الملكة حتشبسوت (حكاية تحاول أن تكون تاريخية صرف ضمن اﻷحداث)، سيرة البطل علي الزيبق (حكاية تمزج بشكل واضح بين الواقع والخيال)، حكاية رئيس القلم السياسي خلال حقبة حكم الملك فاروق (حكاية متخيلة بالكامل تتحرك ضمن وقائع تاريخية فعلية وحقيقية).

وبعيدًا عن ضم هذه الحكايات الثلاث داخل حاضنة أكبر (حكاية حسن بشر العائد من أوروبا خلال حقبة السبعينات، والتي لا تعد حكاية رابعة للفيلم بقدر ما هى امتداد طبيعي للحكاية الثالثة)، فالفيلم يعمل على مهمة أكثر صعوبة وهى إقامة ربط فائق بين ثلاث حكايات متباعدة زمنيًا ولا تجمعها أية روابط مباشرة (على غرار Cloud Atlas مع اختلاف النسق والحكايات بالطبع)، لكن في الوقت ذاته دون كشف لجميع الروابط التي تجمعهم انتظارًا للجزء الثاني المكمل للقصة التي نشاهدها في الجزء اﻷول، ولذلك يعمل الفيلم أكثر على الروابط غير المباشرة التي تجمع ثلاثتهم.

ربما يكون أكثر رابط واضح بين الحكايات الثلاث هو التوكيد على الهوية والقومية المصرية، وهو رابط لا يتعلق بالحكايات نفسها بقدر ما يتعلق بالهدف المرجو منها ﻷجل توصيله إلى المشاهد في أغلب اﻷحيان على نحو ملفوظ قد يصل ﻷكثر أشكالها مباشرة وعلى ألسنة عدد من أبطال الفيلم، متكئًا عليها لتكون ركيزة رئيسية للفيلم، لكنها ركيزة لا تخدم حكاية الفيلم بشكل كامل مثلما تخدم الهدف منه، وشتان الفارق بالطبع بينهما.

ولكن في المقابل، هناك روابط آخرى تخدم أكثر حكاية الفيلم، بل وتغري أصلًا بالمقارنة بين تجلياتها عبر الحكايات الثلاث، فنجد في البداية رابط (السلطة في مقابل الفرد) بأكثر من شكل وأكثر من نمط دون اشتراط التقيد بالشكل التقليدي لهذا الصراع، فقد يغدو الصراع دائرًا بين السلطة الحاكمة ممثلة في حتشسبوت التي تولت الحكم لتوها وبين السلطة الدينية، أو الصراع بين الفرد والسلطة بأكثر أشكاله كلاسيكية في قصة علي الزيبق، أو حتى صراع السلطة مع سلطة أعلى منها على نحو غير مباشر مثلما نرى في علاقة رئيس القلم السياسي مع الملك.

أما الرابط اﻷكثر بروزًا في اشتراكه بين الحكايات الثلاث، فهو مرور كل حكاية بقصة حب محرم مجتمعيًا: الحب بين حاكمة (حتشبسوت) ومحكوم في القصة اﻷولى، حب على النمط الشكسبيري يجمع بين شاب وابنه ألد خصومه في القصة الثانية، حب بين رجل نافذ من عائلة عريقة وبين مطربة ملاهي ليلية وافدة من بلاد الشام في القصة الثالثة.

وفي مقابل الجفاف البادي في طريقة عرض القصة اﻷولى الخاصة بالملكة حتشبسوت (ﻷسباب عديدة سنتطرق إليها في الفقرات التالية)، تنجح القصتان الثانية والثالثة في الوصال مع المشاهد أكثر بكثير، المسألة ليست لها علاقة بتبدل مزاج المشاهد وقبوله في السنوات الأخيرة لمشاهدة أعمال بعيدة زمنيًا عن عصره الحالي، وإنما في تقديمها بشكل يناسب ذهنية المشاهد المعاصر بما يتفق مع مفضلاته ومع صوره الذهنية المحببة عن هذه الحقب الزمنية.

للتوضيح، واسمحوا لي بالحديث عن الحكايات بعكس ترتيبها الزمني داخل الفيلم، بالنسبة للحكاية الثالثة، فإن تشكيل حكاية متخيلة بالكامل عبر ملابسات وأحداث تاريخية حقيقية (فترة حكم الملك فاروق، اغتيال أمين عثمان، نشاط جماعة اﻹخوان المسلمين اﻹرهابية) منح صناع الفيلم حرية كبيرة في الحراك الدرامي وفي التركيز أكثر على أجواء هذه الحقبة أكثر من التركيز على الوقائع نفسها مما يحقق أهداف الفيلم الرئيسية بأكبر قدر ممكن (أجواء العمل المكتبي، نمط الحياة المنزلي، حياة الملاهي الليلية...الخ)

كما يترك الفيلم نفسه في هذه الفترة بالذات للروح الغنائية التي قامت عليها أفلام حقبة اﻷربعينات، حين يكاد لا يخلو فيلم في هذه الحقبة من اﻷغاني، وهو ما تحققه أغاني ومونولوجات الملهى الليلي بالضبط في الحكاية الثالثة كمًا وكيفًا، مع التركيز أكثر على التصوير الداخلي والاهتمام أكثر بمناطق عيش اﻷثرياء على غرار أفلام نفس الفترة حين كانت الرقابة وقتئذ تمنع تصوير المناطق الشعبية سينمائيًا.

ينعكس هذا الاستسلام لروح الحقبة على قصة الحب المتشكلة بين بشر (محمد سعد) ونعمات (أمينة خليل) من حيث دخول العامل القدري فيها واختلاف المكانة الاجتماعية لكليهما (رئيس القلم السياسي/مغنية في ملهى ليلي) واختلاف اﻷصول الجغرافية (مواطن/وافدة)، باﻹضافة لجاذبية العلاقة أصلًا بسبب تخيلنا على مدار النصف اﻷول من الفيلم لما يكون عليه حال شخصية صارمة بالغة الجدية (بأداء من محمد سعد يعد هو اﻷفضل على اﻹطلاق بين كافة أداءات الفيلم) عندما يستسلم ﻹغواء العاطفة والحب.

يعيب هذا الخط افتعالية تقديم شخصية الرئيس الراحل أنور السادات ضمن سياقها، وافتعالية أدائها الذي بدا كأن ممثلها يحاكي أداء أحمد زكي ﻷنور السادات، وليس أداء لشخصية أنور السادات نفسها.

أما عن الحكاية الثانية التي تدور أحداثها خلال العصر العثماني بين سوريا ومصر، فهى تحمل كوكتيلًا دسمًا ومتجانسًا يليق بأسطورية وشعبوية حكاية علي الزيبق بين عموم المصريين، مزيج هائل من الرومانسية الفياضة والقدرية وقيم الفروسية والشجاعة والغنائية والحركة وحتى الكوميديا، بل أكاد أجزم أن هذه الحكاية هى اﻷخف ظلًا بين الحكايات الثلاث، وأظن أن جملة مثل "لو الحب فيه خشا، الناس مش حيعملوا اللي بيعملوه بعد العشا" ستتحول مع الوقت لجملة أيقونية ومتداولة بمنتهى السهولة.

يعرف هذا الخط كيف يصل لمشاهده المعاصر دون إخلال بطبيعة عصره، والانتقال بحساب من حالة ﻵخرى بتقديم يليق بالفعل بحكاية شعبية تصلح للمشاهد اﻵن مثلما كانت صالحة للمتلقين في العصور السابقة بالوسائل الفنية المتاحة، وعلى الرغم من ارتكاز الحكاية أصلًا على تيمة الانتقام، إلا أنها تشكل فقط خلفية الحكاية بدون طغيان على المزيج الدسم الذي يتمتع به.

يخدم هذا الفصل ويشكل إحدى مناطق قوته الكيمياء العالية بين نجمي الحكاية محمد رمضان وروبي كحبيبين منذ اللحظة اﻷولى من خلال مشهد المغازلة في السوق الذي يحمل خلاصة روح القصص من هذه النوعية، وهو ما سيتذوقه المشاهد لو تناول هذه الحكاية من نفس منظورها الأفقي.

ووصولًا إلى الحكاية اﻷولى الخاصة بالملكة حتشسبوت، فهى الحلقة اﻷضعف في الفيلم قاطبة، هذه الحكاية تنطلق فحسب مما يعرفه أي قاريء عنها وعن فترة حكمها دون أية مسحة من الخيال تنطلق بالحكاية لما هو أبعد من سرد وقائع، حتى تشعر كأنها مكتوبة آليًا دون أي روح، أو ربما بروح كتاب التاريخ المدرسي أكثر منه بروح الدراما، وحتى سرد الوقائع على لسان الكاهن اﻷكبر وأتباعه جاء فائق الابتذال بشكل لا يليق بروح الفترة.

وحتى عندما ينطلق ﻷبعد من قيود الحكاية، يوقعه هذا في مشاكل استعياب روح الفترة الفرعونية، فيكفي أن هذه الحكاية تستخدم على الدوام لفظة (الفرعون) مع أن اللفظة جاءت تالية على هذه الفترة برمتها بتأثير توراتي تزامن مع بداية اﻷديان اﻹبراهيمية والتي كان أولها الديانة اليهودية.

ناهيك عن عدم التوفيق أصلًا في اختيار هند صبري للدور الذي احتاج لكاريزما أعلى ورشاقة أكبر تتناسب مع طبيعة الشخصية التي تجيد المبارزة بالعصا، باﻹضافة إلى عدم تناغمها مع سمنوت (هاني عادل) وافتعالية التمهيد لقصة حبهما على عكس طريقة تقديم قصة حب علي وزينب في الحكاية الثانية، فالحكاية اﻷولى بأكملها كانت تتوسل ﻷن يعاد كتابتها مجددًا واختيار ممثلين أكثر ملائمة للحكاية.

لكن مع ضعف الحكاية اﻷولى ووجود ملاحظات على الحكايات الثانية، لا ينفي ذلك الطموح الكبير الذي يغلف هذا العمل، وتحقيقه للكثير من أهدافه المنشودة، ورؤيته المختلفة على السينما المصرية في رأب الصدع بين الحقيقة التاريخية والخيال الجامح، وسعيه للوصول إلى معادلة جديدة في النظر للتاريخ وسرده.




تعليقات