"Detachment": يا له من أسلوب سردي..!

  • نقد
  • 03:55 مساءً - 15 يوليو 2018
  • 1 صورة



كلمة «Detachment/ديتاتشمِنت» (المعجم الأمريكي): شعور أنَّك لم تعُد مُتوّرطًا في شيء ما، أو لم تعُد لديك اهتمام شعوري بشيء ما.

شاهدتُ هذا العمل منذ شهرين مضوا، ثم شاهدته مجددًا منذ قُرابة الثلاثة أسابيع وما زلت لا أعلم من أين أبدأ بالكتابةٍ عنه!، دوّنت الكثير من الأفكار التي أثارها الفيلم في ذهني والكثير من الملاحظات على عملية السرد ومازلت، لستُ مقتنعًا تمامًا. حاولتُ أكثر من مرّة أن أجلس على مكتبي وألّا أفعل شيءٍ سوى التعبير عمّا أثاره الفيلم فيّ، لكني رجعتُ في كل مرة خاسرًا. في المُشاهدة الأولى انبهرتُ تمامًا بالشكل السردي الذي انتهجه الفيلم، قُلت في نفسي حينها هذا واحدًا من بين خمسُ أو ست أفلام شاهدتهم يُعتبروا استثنائيين على المستوى السردي. وأما في الثانية، فقد قلّ هذا الشعور. ليس بسبب مُبالغتي في إعجابي بالسرد في المرّة الأولى، لكن ربما لأني في الثانية قد علمت اللُعبة منذ البداية، فتوجه تركيزي على أشياءٌ أخرى؛ كالحالة النفسية للأبطال، خاصةً الفتاة "ميريديث". أو الطريقة التي اختارها المخرج في هجائية الشباب الأمريكي المُعاصر، ومتواليات الحدث التي جعلت من تلك الهجائية أحد الزوايا في رؤيتي لهذا العمل ككل.. على أية حال، قد تبدو هذه الكلمات تقليدية لكنها بالنسبة لي حقيقية جدًا هُنا؛ هذا فيلمٌ مختلف وغير تقليدي على الإطلاق يا سادة.

لعل أكثر الأمور التي إذا دققت في (American History X) لذات المخرج ستُلاحظها، هي قوة أسلوبه السردي؛ قصة الأخوان ديريك وداني المحكيّة على لسان الأخير -الأخ الأصغر- في سرد كله عُبارة مقالة أو ورقة بحثية عليه أن يُسلّمها لأستاذه باليوم التالي من الزمن الفعلي للحكاية.

تنقَّل البريطاني "توني كاي" بذلك بين ثلاث فترات مختلفة تمثل أفكارًا فوضوية -لكنها مُخططة جدًا- تأتي في رأس الفتى المُراهق، وقد دعم هذا كثيرًا من قوة الحكاية المرويّة أولًا، وفي خلق إيقاعٌ عظيمٌ لها ثانيًا. بالنسبي لي هذا فيلمٌ يُدرّس على صعيد السرد، صحيح أن نوعية القصة ذاتها هي العامل الأكبر في تمتعه بالشعبية الكبيرة التي يمتلكها، أي أنّك تتذكر "أميريكان هيستوري إكس" من قصته المؤثرة، لا من سرده. لكن ورغم ذلك، يظل، لولا هذا النوع من السرد لما كان الفيلم ليسطُع بالشكل الذي نعرفه عنه.

هذا يُبيّن مدى اهتمام توني -منذ بداياته- بطريقة حكي قصصه، ربما في بعض الحالات، أكثر من القصص ذاتها. تخيّل مثلًا أن توني استعان بأستاذ مدرسة حكومية لم يعمل مُسبقًا في مجال الكتابة الفيلمية ليكتُب له سيناريو (Detachment) هذا !

قصة ديتاتشمِنت تدور حول مُدرّس بديل يُعرف بـ"هنري بارث"، يستلم عملًا جديدًا بمدرسة حكومية أمريكية، ويُحاول فعل جُلّ استطاعته لمساعدة -أو بالأحرى إنقاذ- طلابه، بأن يفهم عوالمهم وبيولوچيّاتهم، وعلى عكس الأساليب التدريسية التقليدية. هنري رجلٌ يعيش حياة وحيدة، تسيطر عليها ذكريات مؤلمة اختبرها في صباه.

الأسلوب السردي: أين يكمن التميُّز ؟

يفتتح توني فيلمه بعدة لقطات متتابعة لوجوه مُدرّسين ينظرون مُباشرةً للكاميرا.. لا يخفى عليك أن هؤلاء مدرسين حقيقيين لا ممثلين، ربما بسبب طريقتهم الحقيقية جدًا في الحديث، أو سنّهم أو شكلهم ذاته، هو بذلك يريدَك كمُشاهد أن تعلم مقدار الحقيقية التي يُضفيها في عمله: نعم هذا فيلمٌ روائيّ، لكن الأحداث ليست كذلك تمامًا.

هذا الأسلوب تسجيليّ الطابع يستخدمه توني بكثافة على مدار فيلمه من خلال كلًا من؛ السرد المُباشر من شخصيته البطلة وتعقيبه على مواقف القصة، ليبدو الفيلم لنا كأنه استرجاع لأحداثٍ مضت من شخصيته. نُشاهد "هنري بارث" (أدريان برودي) في أول لقطة بالفيلم يقول جملة لا تمت بصلة لأي شيء، ويبدو أنها ليست من النوع التي تمهّد للقصة وأحداثها، بينما تُعطي لمحةً عن الشكل السردي الذي سيتبعه الفيلم. وثاني هذه الأشياء هي الكاميرا المحمولة والمتحرّكة المُستَخدمة على مدار الفيلم؛ حيث تُعطيكَ انطباعًا مبدئيًا بأنّك ستُشاهد فيلمٌ مختلفٌ في شكله، أي في طريقة تصويره، إلى أن تمر بضع الدقائق في الفيلم لتتأكد أنه مختلفٌ أيضًا في عمقه. ربما مشاهد المدرسة هي أكثر ما تلاحظ فيها مدى "حقيقية" الحدث الحاصل من خلال الكاميرا، حيث الكاميرا هي جزء من المكان ولا تشعر أبدًا أن هناك اصطناعًا يحدث على الشخصيات التي ترصدها.

بالمُناسبة، توني هو المُصوّر الرئيسي لأفلامه. يقول في أحد حواراته: "بشكلٍ ما، الكاميرا هي شخصية في المَشهَد. لذا، فالممثل ينظُر إلى الكاميرا، ويتحدّث إلى الكاميرا، بنفس الكيفية التي يتحدّث بها إلى الممثلين الآخرين".

هل يمكن وصف ديتاتشمِنت بالـ«تجريبي» ؟

قرأت فيما قبل عندما كُنت أبحث عن معنىً لمصطلح الـ"تجريبية" في السينما، أن الفيلم الذي يستحق وصفه بالتجريبي أو ما يتخذ نزعة تجريبية في صناعته، هو الفيلم الذي يهتم بـ«استكشاف الوسيط»؛ بمعنى أن همّه يكون متركزًا على مدى امكانية السينما كوسيط تعبيري أن يقول وأن يسرد، طارحًا بذلك سؤال: ما الذي يمكن تقديمه من خلال السينما ؟، ما الذي يمكن عرضه بواسطة الصورة ؟، أي أن اهتمامه هو الوسيط ذاته وقدراته وخصائصه المتفرّدة عن الوسائط الأخرى -كالأدب أو الموسيقى-، أكثر من كونه مجرد يبحث عن وسيلةٍ للتعبير عن أفكار مخرجه. هل هذا ينطبق على ديتاتشمِنت ؟.. بالنظر إلى الطريق الذي سلكه توني في حكي قصته عن طريق المَشاهد التسجيلية والسرد الحواري المُباشر وأسلوب الكاميرا، أعتقد أن الفيلم ينطبق عليه فكرة استكشاف الوسيط، حتى وإن لم يكن الفيلم "تجريبي" بالمعنى الاصطلاحي للكلمة التي ترتبط دائمًا بكلمة أخرى هي "طَليعيّ".

لاحظ مثلًا من الدقيقة الخامسة والنصف حتى السادسة من الفيلم في مشهد حوار مديرة المدرسة مع أحد المسؤولين؛ حيث يتعمّد توني بهدم قواعد السلاسة المونتاچية ويقوم -في تسعة عشر ثانيةً- بالقطع اثني عشر مرّة!. تشعر أن توني هُنا هو أحد هؤلاء الصبية المُراهقين الذين يودّون صناعة الأفلام، ويُجرّبون في كل شيء بالمونتاچ!، لا رجلٌ على مشارف الستينات -وقتها- قدّم فيلمًا يعتبره البعض الأفضل بين أفلام التاريخ كلها. هذا يُحدث إرباكًا للمُشاهد في الفترات الأولى تحديدًا من الفيلم، تجعله يسأل نفسه: أهذا خطأٌ فنيّ أم أنه شيء مقصود من المخرج ؟!. في الواقع هذا التشتت الأسلوبي لا يحدث فقط مع القَطَعات، لكن أيضًا في اختيار حجم اللقطات وزاويا التصوير، وتدريجيًا ستعلم أنه أقرب بأن يكون موود عام -مُتعمَّد- للفيلم. هذا فيلمٌ إذا شاهدته قبل أن تعرف حقيقة مخرجه ستظن أنه أولى التجارب الإخراجيّة لمخرج أوروبي شاب يملك الكثير من الشغف في جعبته، لا محالة !!

هِجائيّة الشباب

يبدو أن توني يشغله همّ شباب عصرنا، تحديدًا شباب المرحلة ما قبل الجامعية، حيث هي الفترة المصيرية التي يبدأ المرء فيها بالتشكُّل. ففي "أميريكان هيستوري إكس" جعل المدرسة الثانوية هي مركز الأحداث، والمكان الذي بدأ عندها كل شيء: الورقة البحثية. وأيضًا هي المكان الذي انتهى فيه كل شيء بالنسبة للأخ الكبير. في المُشاهدة الثانية لاحظت مدى تبلور هذه الفكرة في رأس توني حيث اختار على شخصيته البطلة أن تُدرّس فصلًا من مختلف الأعراق والجنسيات، المدرسة كلها في الواقع!، المدرسة مليئة بالأيدلوجيات والبشر القادمين من ثقافات مختلفة غير متجانسة مع بعضها. المدرسة هُنا هي شكل مُصغر للعالم المليء بهويّات مختلفة. هو بذلك يريد تعميم قاعدته/هجائيته لتشمل كل الشباب. هو يريد القول أن المُشكلة في الشباب أنفُسهم قبل أن تكون في المُدرّسين، شخصياته ظاهرة في الفيلم بلا مُبالاة ولا اهتمام بالحياة كالشخص الذي فقد شغفه في شئيًا ما كان يُحبّه، ولم يعد يكترث لشيء بعد الآن. يقول هنري في أحد عبارات الفيلم المؤثرة مُحدثًا تلاميذه: "لذا ولكي نحمي أنفُسنا، ولكي نُقاتل ضد استيعاب تلك البلاهة في عملية تفكيرُنا، يجب علينا تعلُّم القراءة. كي نُحفِّز ونُنشط خيالاتِنا، ولكي نُصقِّل وَعيُنا الخاص، جهازُنا الإيمانيّ الخاص.. نحتاج جميعًا مهارات لكي نصون ونحافظ على عقولنا".

هناك مشهد عبقري في الفيلم فيه تلخيص لهذه الفسلفة النقدية عند توني، حيث يأتي في الدقيقة الواحدة والأربعون ما يبدو أنه أحد المُدرّسين القدماء المُحالين للمعاش، يتحدث في تسجيلٍ صوتيّ -وبنبرة غاضبة للغاية- عن مدى بؤس الوضع التعليمي مع هؤلاء الشباب، ثمّ يُدمَج حديثه مع مقطع قصير لأحد خطابات "أدولف هيتلر" في مشهدٍ يُعبّر جدًا عن حجم الغضب الذي يَكنّه بعض المدرسين للشباب نتيجةً لتصرّفاتهم اللاعقلانية والبلهاء كما يقول.

الوضع بائس... الحياة بائسة

"جميعُنا يحتاج شيئًا ما كي يُشتت انتباهُنا عن التعقيدات، وعن الواقع"

لكن رغم هذه الهجائية التي يتبعها توني إلا أنه لا يحاول أن يكون متشددًا فيها، فصفات الشباب ليست كل المُشكلة إنما جزءًا من تلك المُشكلة. يتضح ذلك في تجسيده لأفكار أن العالم ذاته أصبح بائسًا، الواقع ذاته أصبح سيء بطبعه. وحتمًا ما يجعل شابة لم تبلغ العشرين من عُمرها تنزوي في العمل كعاهرة ليس فقط رغبتها بجمع المال، بل لأنها لم تعرف معنىً للعائلة في الأساس، وهذا ما وجدت حالها عليه.. ربما التمثيل الأفضل لتلك الصورة عن الخراب الذي أصبح موجودًا في كل مكان، تجدها في البوستر الدعائي للفيلم المُعبّر للغاية عن فلسفته؛ فالعمل في نظامٌ مُدمَّر بالفعل، لن يُحقق أهداف العمل، بغض النظر عن الشخص وراء هذا التدمير.

هل يُلام الفيلم على عدم عُمقِه الدرامي ؟

مهلًا، ماذا؟..

أنا أقصد هُنا شخصية "هنري بارث" وأكاد أُجزم أنها السبب وراء حُب الكثير من أصدقائي لهذا الفيلم. تركيبة شخصية هنري فعلًا جذابة ومختلفة، وأداء برودي فيها يستحق التصفيق؛ هذا رجلٌ ينقُل إليك كل تفصيلة في مشاعره، لا يخفى عليك حجم الجرح والحزن الدفين الذي يملأ صدره. بالإضافة إلى كاريزمته وحضوره القويّ على الشاشة وتأثيره في الآخرين، هُنا شخص عاقل في عالم مجنون، شخص هادئ الطباع، مُتمهّل الخطوات، صوته الرزين يدل على شخص حكيم يمكن اللجوء إليه وقت الصعاب. "برودي" انغمس في الشخصية، واختبأ تحت جِلدها كما يقولون. لم أُشاهد الكثير من أفلام هذا الرجل لكني أعتقد أن هُناك مشتركات كثيرة بينه وبين شخصية هنري.

هذا من ناحية، من الناحية الأخرى فإن رسم شخصيته داخل الفيلم لم تتميّز بالعمق الدرامي الكبير رغم أننا نستجيب لحكايته من القصة، ومن الباك ستوري المؤلمة الخاصة به. لكن هذا يحدث بسبب أداء برودي نفسه لا من قوة تقديم هذا الجزء في القصة.. المهم من كل هذا سؤال: أهذا شيء سيء في النهاية ؟، شخصيًا ورغم كل الأمور التي أحببتها في شخصية هنري بارث، إلا أني لا أرى أنّها محور الحكاية التي أراد توني كاي تقديمها، هذا اتضح لي أكثر في المُشاهدة الثانية. صحيح أن الأحداث بالكامل نراها من عين هنري، إلا أنه في النهاية كان سببًا لحكي حكايةً أكبر منه، ألا وهي دوره في المنظومة التعليمية المؤقتة تلك التي من خلالها سيتمكن توني من التعبير عن ما في خواطره من أفكارٍ تجاه التعليم والشباب وكل هذا. وأظن أن الفيلم كان سيقع في فخ النمطيّة إذا صبّ اهتمامه لقصة هذا الرجل ذو الوجه الحزين والماضي المؤلم؛ لأن جزء كبير من قوة هذه الشخصية لا تأتي عبر أحداث الماضي المُشتتة في ذهنها، لكن من تفاعلها مع الأحداث الآنية.

هذا فيلم يبدو فوضويًا للغاية في شكله، لكنه مرتبًا ومنظمًا في حقيقته.. أستمر في سؤال نفسي: لكن لماذا هذا الأسلوب السردي بالتحديد يا توني؛ هل القصة هي ما دفعتك لذلك أمّ أنّك خططتَ لهذا قبلها ؟، وسواءً وجدتُ إجابةً على هذا السؤال أم لا، لا يتسنى لي إلا الإعجاب بالطريقة العجيبة والمبهرة التي اتّبعها توني في عمله غير المقدَّر هذا والذي أصرّ فيه ألّا يذهب في ميزانيّته أكثر مما في جيبه.. لذا، تحيةً حارّةً لك أيُّها اللندني البريطاني.

وصلات



تعليقات