من المعتقل إلى "الغيط"...الحلم لا يمكن سجنه

  • مقال
  • 04:04 مساءً - 23 يونيو 2012
  • 1 صورة



ربما كانت تلك الليلة أشد ليالي المعتقل برودة، حيث كان صرير الرياح كفيلاً بإصطكاك الأطراف من البرد، حيث لجأت أجساد المعتقلين إلى دفأ بعضها البعض وانضمت الصفوف فيما يشبه سرب النمل الذي يحاول الهروب من الماء، وارتفعت قبضات الأيدي إلى الافواه النافخة طلباً لقليل من القدرة على تحريك الأصابع، إلا أن تلك الكفوف مالبثت أن تناست البرودة ونالت دفئها من التصفيق الحاد له وحده، هذا المعتقل الذي هزم البرد بصوته وأداءه لدور عطيل في أحد المشاهد المسرحية الخالدة التي كتبها وليام شكسبير.
وبين التصفيق وإرتعاشة الأجساد "البردانة" بفعل البرد أو الإندماج مع المشهد، نال المعتقل على الشريف تحيته من زملاء العنبر بأحضان دافئة وبعض السجائر محلية الصنع.
وحده ذهب إلى "فرشة" نومه في العنبر، يحلم لأنه يدرك أن الحلم قادر على تخطي الأسوار، والسجان غير قادر على حبسه، ولم يكن يدري أنه في ظرف سنوات قليلة سيتخطى كل الأسوار ويحقق حلمه بالتمثيل.

*****
لم ينم يوسف شاهين في تلك الليلة التي أنهى فيها قراءة سيناريو فيلم الأرض، كان يرى أبطاله يروحون ويجيئون أمامه، رأي محمود المليجي في شخصية محمد أبو سويلم من اللحظة الأولى، كان يعرف قبل أن يقرأ أن عزت العلايلي سيؤدي دور عبدالهادي، اقتحم يحيى شاهين رأسه عندما سمع في خياله الشيخ حسونة يتكلم، لكنه نهائياً لم يصل إلى دياب، بات ليلتين يفكر إلى أن يأس ولكنه قرر أن يسند الدور لوجه جديد، بشرط أن تتطابق ملامحه مع الفلاح المصري الذي لم يتلق تعليمه ولم يغادر قريته، يشبه طين تلك الأرض، ويشبهه طينها.
ذلك الفلاح الذي عندما ذاق "الطعمية" اعتبرها ترفاً يحوذ عليه ابناء "البندر"، ذلك الفلاح المخلص لأرضه أكثر من حياته، ذلك الفلاح المضلل الذي وإن صارت الطعمية لا تبهره الآن، وصار إخلاصه للأرض مدفوناً في ضواحيها، إلا أنه ما زال مضللاً يستمع إلى رأي محمد افندي حتى الآن.

******
عاد على الشريف إلى منزله ذلك اليوم في حالة ذهول، تاركاً باب الشقة مفتوحاً وسلسلة مفاتيحه التي تحمل مفتاحاً واحداً تتدلى من "كالونه"، واسرع تجاه المرآة ليتأمل ملامحه مرة أخرى... 36 عاما رأى فيها تلك الملامح كل يوم، تلك الرأس "المدورة" التي تحتل مقدمتها جبها عريضة يحرسها بلا كلل زوج من الحواجب الغليظة، تحتهما زوج من الأعين الضيقة التي كثيراً ما عايره بها صديقه خالد محيي الدين وانها دليلاً على الغباء، ,انف عريضة تناسب غلاظة تلك الشفاه التي تساندها، بينما حرص على أن يكون شاربه وسيطاً بينهما...أدرك ساعتها وللمرة الأولى لماذا صرخ يوسف شاهين "أهلاً يادياب" عندما رأه اليوم.
نظر إلى أصابع يده ثم ابتسم للمرآة ، فهو اليوم قد وقع عقد فيلمه الأول، ونجح الحلم في تخطي كل الأسوار حتى سور المستحيل.

******

ربما رحل على الشريف عن عالمنا، ولكن دياب باق... والصول عبدالجبار باق...ولكن لنا مع الصول عبد الجبار جولة أخرى.

وصلات



تعليقات