تحفة تورناتوري الجديدة... "أفضل عرض"

  • مقال
  • 05:28 مساءً - 10 مارس 2014
  • 4 صور



صورة 1 / 4:
(جوزيبي تورناتوري) مخرج الفيلم
صورة 2 / 4:
(جيفري راش) بطل الفيلم
صورة 3 / 4:
بوستر الفيلم
صورة 4 / 4:
فيرجيل في قصر كلير

"هذا المقال به حرق لأحداث الفيلم، يرجى القراءة بعد المشاهدة"

تحت مظلة النغمات العبقرية لـ( إينيو موريكوني)، يطل علينا المخرج الإيطالي العظيم ( جوزيبي تورناتوري) مرة أخرى في تحفة جديدة تحمل توقيعه ككاتب وكمخرج كما تعودنا منه بعنوان The Best Offer أو "أفضل عرض". قصة الفيلم حيوية للغاية، يدخلك تورناتوري في خضم الأحداث مباشرة، ويعرفك على الشخصية الرئيسية للفيلم محور الأحداث (فيرجيل أولدمان)، والتي يقوم بدورها الممثل المتألق دائمًا ( جيفري راش)، فيرجيل رجل غريب الأطوار، خبير متمرس في التحف والأنتيكات واللوحات الفنية، شهير جدًا في ذلك الوسط، ولديه شركة كبيرة للتقييم والبيع بالمزاد العلني. الفيلم يبدأ هادئًا للغاية، ويتضح منذ الوهلة الأولى أن فيرجيل يعيش وحيدًا سواء داخل منزله أو خارجه، ليس لديه زوجة أو أقارب، ولديه هوس شديد بجمع اللوحات الأصلية ذات القيمة العالية، خاصة اللوحات التي تكون مادتها الرئيسية امرأة جميلة، وهو يشتري تلك اللوحات - بمعاونة صديق له سرًا - من المزادات التي يقوم هو بها، وذلك بعد أن يقيمها بقيمة منخفضة أو يدعي أنها مزورة، وبالتالي فإن تلك اللوحات تدخل في مزاد علني تحت ما يعرف باسم "أفضل عرض"، أي أن أعلى ثمن يُدفع فيها يفوز بها مهما كان زهيدًا، ومن ثم يفوز بها صديقه (بيلي ويسلر)، ويحضرها إلى منزله في نهاية اليوم ويقبض عمولته، ويقوم بدور بيلي الممثل المخضرم ( دونالد سيذرلاند).

إن تلك اللوحات هي أعز ما يملك فيرجيل، هي ثروته الحقيقة التي ظل يجمعها طوال حياته، لذا يحتفظ بها معلقة على حوائط غرفة سرية ضخمة تقع خلف خزانته، مغلقة بباب إلكتروني مشفر بالطبع، لا أحد غيره على الإطلاق يعلم بتلك الغرفة، وهو يجلس فيها بالساعات على مقعد وثير، أحيانا يقرأ، وأحيانا يجلس ليتأمل وجوه أولئك الجميلات اللاتي ينظرن إليه من داخل تلك اللوحات، إنه يحبهن وهن يبادلنه نفس الحب على حد تعبيره، فهن يعوضنه كثيرًا عن حرمانه من الجنس الآخر، فهو لديه خوف نسبي من النساء، لا يستطيع التعامل معهن أو فك شفرتهن المعقدة، ولم يحب امرأة من قبل، بل لم ينم مع امرأة من قبل قط. ولم يكتفِ فيرجيل بموقفه من النساء، بل إن لديه موقفًا من البشرية كلها، وسواس قهري متقدم، يرتدي قفازين خارج منزله باستمرار، لا يكاد يلمس أحدًا أو أي شيء لا يخصه، ولا حتى بقفازيه، له طاولة خاصة في مطعمه المفضل، بل ويحتفظ بأوانٍ خاصة به في المطعم لا يأكل فيها غيره، لا يتحدث في الهاتف إلا في أضيق الحدود، ولا يحمل هاتفًا خلويًا ولا يعرف حتى كيف يستخدمه.

فيرجيل شخصية معقدة جدًا، شخصية رتيبة ومتشككة للغاية، لا يخالط أحدًا ولا يأتمن أحدًا غيره على الإطلاق، كيف يمكنك سرقة شخص مثل هذا إن أردت؟! لقد وجد بيلي الإجابة عن هذا السؤال ببساطة في أن يستغل نقطة ضعفه لأجل أن ينتزع منه كل شيء يملكه، حرفيًا كل شيء وحتى آخر قطرة. بيلي هو الوحيد الذي يعلم أن فيرجيل يقوم بجمع تلك اللوحات الأصلية، لوحات تقدر بملايين الدولارات، خطط للأمر بأكمله بعناية شديدة، لا سيما وهو أكثر شخص في العالم يعلم كيف يفكر فيرجيل، يعلم كيف يمكن أن يخرجه عن تركيزه، يعلم كيف يمكن أن يخرجه عن طبيعته ورتابته وهوسه، يعلم كيف سيجعله يكشف الغطاء عن أعز ما يملك عن طيب خاطر. لعب بيلي على وترين لا ثالث لهما، أما الأول فهو فضول فيرجيل سواء بشكل عام أو فضوله بشكل خاص للتحف والأنتيكات واللوحات الفنية القديمة، وأما الثاني فهو النقص الذي يعاني منه من ناحية النساء والحب. لكن ليت الأمر كان بتلك السهولة، فأي محاولة للتقرب من فيرجيل من قبل أي فتاة ستكون مشكوكًا فيها وواضحة الزيف، فكان الحل أن قام بيلي وأعوانه بعمل سيناريو كامل محكم حول فيرجيل، فعلى قدر تعقيد وصعوبة شخصية فيرجيل كان تعقيد وصعوبة وإحكام الخطة التي وضعوها لسرقته، كان ولابد أن يحصل فيرجيل على "أفضل عرض" ممكن.

بيلي كان قد قدم فيرجيل إلى شاب من طرفه يدعى (روبرت) في مقتبل العمر يملك متجرًا لبيع وإصلاح كافة الأدوات الإلكترونية والميكانيكية، يقوم بدور ذلك الشاب الممثل ( جيم ستورجس)، وتقريبًا هذا أول فيلم مهم يشترك فيه، وإن كنا قد شاهدناه من قبل في الفيلم التجاري المتوسط ( 21). تم إيهام فيرجيل تمامًا بأن هذا الشاب خبير في النساء، يجيد التعامل معهن ببراعة، ويحبون التقرب إليه، وله علاقات عدة. من ناحية أخرى قامت شابة تدعى (كلير) غريبة الأطوار بدورها باستئجار فيرجيل كي يقوم بتقييم محتويات القصر الذي تعيش فيه وورثته عن والدها، والذي يفيض بالتحف واللوحات والأثاث القديم وكل ما يسيل له لعاب رجل مثل فيرجيل. تقوم بدور كلير الممثلة هولندية الأصل ( سيلفيا هويكس). تعاني كلير من مرض شديد الندرة، ألا وهو رهاب مواجهة العالم الخارجي، لا يمكنها رؤية أي شخص أو الخروج من منزلها، ولا حتى يمكنها الخروج من غرفتها إن كان هناك أحد متواجد في القصر، عمرها 27 عامًا، لم تر أحدًا ولم يرها أحد قط منذ 12 عامًا حتى والديها كانا نادرًا ما تراهما، وإن حدث وأن رأت أحدًا أو خرجت من المنزل يحدث لها حالة من الفزع الشديد قد يؤدي إلى شلل وإغماء. امرأة بهذا الشكل العجيب تتعامل مع فيرجيل بشكل مختلف وغريب، لا يراها، فقط يتحدث إليها إما في الهاتف أو من وراء حائط غرفتها، كل هذا كفيل بأن يثير جنون فيرجيل وليس فضوله فحسب. أضف إلى هذا أنه في كل مرة يذهب فيها فيرجيل إلى قصر كلير يجد تروسًا وقطعًا معدنية صغيرة قديمة ملقاه هنا وهناك وكأنها تناجيه وتداعبه، وكأنها أحجية زمنية خلابة قد تثمر شيئًا ذا قيمة عظيمة، وربما يكلل جهوده طوال السنين السابقة في جمعه للنوادر التاريخية العتيقة. بالطبع يأخذ فيرجيل تلك القطع إلى روبرت ويكتشفان سويًا أنها جزء من آلي ناطق معجزة، صُـنع في القرن الثامن عشر على يد المخترع الفرنسي (جاك فوكانسون)، فيرجيل كان مهتمًا منذ صغره بذلك الآلي العجيب، وكان متلهفًا بشدة لتجميع باقي القطع ليرى ذلك الآلي متجسدًا أمامه مرة أخرى، ناهيك عن الرقم الفلكي الذي سيقدر به مثل ذلك الآلي إن تم تجميعه من جديد بالفعل. فيرجيل كان يذهب لقصر كلير لأجل الأمرين معًا، لأجل كلير نفسها بسبب فضوله الشديد حولها وحول حالتها، وبسبب تجميع قطع ذلك الآلي. لقد تعاطف كثيرا مع كلير وحالتها، وأعجب بها وأصبح يميل إليها ويحاول مساعدتها في الخروج من حالتها الغريبة، بل خبأ نفسه ذات مرة في القصر حتى يمكنه أن يراها لأول مرة على الإطلاق دون أن تراه. بالطبع فيرجيل لم يكن يفقه شيئًا في عالم النساء، فكان يلجأ إلى روبرت أيضًا فيما يخص علاقته بكلير بما إنه خبير في تلك الأمور، وذلك بجانب موضوع الآلي، فأصبح روبرت فجأة بمثابة الناصح الأمين له في أهم أمرين في حياته في تلك الآونة. كلير من جانبها كانت تتودد إليه تارة، وتغضب منه تارة بسبب حالتها الغريبة وعدم استقرارها النفسي، لكنها كانت تثق فيه ثقة عمياء وأعطته مفاتيح القصر كله كي يأتي في أي وقت ويتجول فيه كيف يشاء، وهو استغل ذلك بالطبع في البحث أكثر عن باقي القطع الناقصة من ذلك الآلي. أول اختبار من كلير لفيرجيل كان عندما علقت على صبغه لشعره، فورًا قام فيرجيل بإزالة الصبغة إرضاءً لها رغم غضبه الشديد ساعة تعليقها على ذلك الأمر. لم يصبر فيرجيل على عدم رؤيتها مرة أخرى، وقرر التخفي ثانية كي يراها، فتشعر كلير بأن هناك أحد في المنزل فتنهار وتهرع إلى غرفتها، يسرع فيرجيل خارجًا من القصر، فتتصل به كلير مستنجدة به كي ينقذها، يعود مرة أخرى للقصر ويحاول تهدئتها ويعترف لها أنه هو الذي كان هنا لأنه لم يستطع الصبر على عدم رؤيتها، تثور كلير وتطرده من القصر، ثم تعود وتناديه مرة أخرى وتستسلم لرغبته، وأخيرًا تخرج من غرفتها وتكشف عن نفسها بشكل كامل لأجله، لقد أحب فيرجيل كلير وتعلق بها بشدة، وهي أصبحت متعلقة به أيضًا، لتكون بداية قصة حب بينهما غير تقليدية بالمرة. حان وقت الاختبار الثاني، فجأة اختفت كلير من القصر بلا أي أثر، قلب فيرجيل القصر والمنطقة حوله بمساعدة روبرت وخادم كلير بلا جدوى، أصبحت حياة فيرجيل مظلمة فجأة، ملأتها الفوضى بسبب اختفاء كلير، هذا رجل محب فعلًا، القصر فارغ وهو لم يبالِ بباقي قطع الآلي المخبأة في غرفة كلير في القصر، كل همه كان أن يجد كلير، أن يجد محبوبته وكفى، لقد اختار الحب وكلير على حساب هوسه، لقد وقع في الشرك أخيرًا وبشكل كامل. وجد فيرجيل كلير أخيرًا بمساعدة خادمها في غرفة سرية في القصر كانت مختبئة بها، لقد أيقن كلاهما أن لا حياة لأحدهما دون الآخر. وهنا يبقى فقط أمر وحيد، أن تشفى كلير على يد فيرجيل، وهو ما تم بالفعل وبشكل طبيعي وعفوي ورومانسي للغاية، دبروا له حادث اعتداء أمام قصر كلير، يتصل بها وهو ينازع أمام القصر كي تخرج لتنقذه، وبالفعل تخرج وتذهب به بنفسها إلى المشفى، وتشفى هي الأخرى من مرضها على يديه، لقد ابتسمت له الحياة أخيرًا، وأصبح كل شيء في أبهى وأكمل صورة، لا يريد شيئًا آخر من الدنيا.

"بيلي محدثًا فيرجيل: المشاعر مثل الأعمال الفنية تمامًا، يمكن تزييفها لتبدو وكأنها أصلية، لكنها في الحقيقة مزيفة. كل شيء يمكن تزييفه يا فيرجيل، السعادة، الألم، الكراهية، المرض، الشفاء... حتى الحب."

لقد قلبوا حياته كلها رأسا على عقب وجعلوه يقع في الحب، جعلوه أسعد رجل في العالم، وجعلوه يصدق الخدعة بأكملها ويفعل كل ما يريدونه بإرادته هو ودون أن يشعر، أخرجوه عن طبيعته ورتابته وهوسه، وفي النهاية وبعد أن اختار كلير والحب على حساب هوسه وعمله ولوحاته، كشف عن أعز ما يملك لحبيبته المزعومة، لقد أصبحت هي هوسه، لقد أصبحت هي أعز ما يملك، لم يصبح يبالي بلوحاته سوى بوجودها المادي حولهما، بل لقد قرر التقاعد واعتزال الوقوف في المزادات العلنية، سافر إلى آخر مزاد في لندن، مزاد الاعتزال، يعد الثواني والدقائق بلهفة كي يعود لحبيبته ويعيش معها في سعادة أبدية ما تبقى له من عمر، وإذا به يعود إلى منزله وحبيبته، ليجد أن كل شيء قد اختفى، ثروة لوحاته التي ظل يجمع فيها طوال حياته ضاعت بأكملها، حبيبته المزعومة رحلت هي أيضًا، وتركوا له فقط لوحة رخيصة رسمها له صديقه بيلي كي يتذكره بها دومًا.

تدهورت حالة فيرجيل النفسية والجسدية بعد ما حدث، انهار تمامًا وأخذ وقتا طويلًا كي يتعافى من الصدمة، لم يكن في وسعه اللجوء إلى الشرطة بأي حال من الأحوال لأن تلك اللوحات غير موجودة بشكل رسمي أصلًا، مشهد تحديقه في لافتة مركز الشرطة يمثل كل نواحي الأسى والألم والحزن.

سيناريو الفيلم كان محكمًا وشيقًا جدًا، التفاصيل كانت دقيقة ومتماسكة، ورغم أن الشخصيات كانت قليلة في الفيلم فقد تم الاهتمام ببنائها وتصاعدها الدرامي بشكل ممتاز. التصوير كان جيدًا جدًا أيضًا، زوايا الكاميرا وتصميم المشاهد واللقطات كان موفقًا جدًا، وأمتعنا بكدرات غاية في الروعة تكاد تنافس جمال اللوحات الموجودة في الفيلم. ولا أنسى الإشادة بالمونتاج والديكور، خاصة الديكور الذي كان مبهرًا وموافقًا لأحداث الفيلم بشدة. طبعا إخراج تورناتوري لا غبار عليه، قدم رؤيته للشخصية المصابة بالهوس في شكل متكامل، التحول الذي حدث في شخصية فيرجيل تم معاجلته بحرفية عالية، وساعد أداء جيفري البديع في خروجه بهذا الشكل المبهر، أيضا وُفق تورناتوري في تقديمه لشخصية كلير ومرضها النادر، شخصية صعبة ومعقدة سواء على المخرج أو الممثل، لكن سيلفيا قامت بأداء رائع ورفيع المستوى في الحقيقة. أيضا تحضير تورناتوري للخدعة في آخر الفيلم كان جيد البناء والتوقيت، وأمتعني جدًا كمشاهد.

الملفت للنظر في فيلمنا هنا أنه على عكس الطريقة الأمريكية، لا يوجد طاولة يناقش عليها بيلي وأعوانه خطة سرقتهم لفيرجيل، ولا يوجد مشهد لهم وهم يحتفلون بنصرهم وغنيمتهم في النهاية، هم ببساطة تبخروا، اختفوا من العالم بأسره دون ترك أي أثر ومعهم ثروة لا تقدر بثمن. تورناتوري في جراءة وذكاء شديدين يجعلك تشعر شعور فيرجيل بالضبط، يجعلك تتساءل أين ذهب أولئك اللصوص؟ كيف فعلوا كل هذا؟ ولماذا؟ ولا يريحك تورناتوري أبدا، إنما يتركك حائرًا حيرة فيرجيل، يترك لك المجال والخيال لتبني وتفسر ما حدث أنت بنفسك، وهذا ما زاد الفيلم روعة وجمالًا في نظري.



تعليقات