الفيل الأزرق.. السير المتزن بين المأمول والناتج النهائي

  • مقال
  • 03:15 مساءً - 2 اغسطس 2014
  • 1 صورة



كريم عبدالعزيز ودارين حداد في لقطة من الفيلم

منذ صدورها وحتى لحظة كتابة هذه السطور، فجرت الرواية الثالثة للكاتب أحمد مراد "الفيل الأزرق" الكثير من ردود الأفعال حادة التباين لدى جمهور القراء بين احتفاء مُبالغ به، وهجوم مُبالغ به على نحو سواء، فمن ناحية، رفعها الكثير من الممتدحون لمصاف الروائع الأدبية الكبرى، وأصبغوا عليها مما ليس فيها، حتى استطاعت فعليًا أن تحجز لنفسها مقعدًا من بين المقاعد الستة لترشيحات جائزة البوكر العربية، ومن ناحية أخرى، حملها الكثيرون من منتقديها أكثر مما تحتمل، مع توقع من جانبهم أن تكون على خلاف ما هو منتظر منها فعليًا.

على المستوى الشخصي، قمت بقراءة الرواية بعد صدورها بعدة أشهر، ووجدت فيها عملا تشويقيًا جيدًا يحمل بداخله الكثير من المتعة لمن يقرؤه، ويساعد بشدة على تزجية الوقت، قد تحمل في جنباتها شيء من الاستعراض للعضلات اللغوية هنا وهناك، قد نختلف على بعض المنحنيات التي سارت فيها الحكاية، أو حتى على الطريقة التي انتهت بها الرواية والتي لم ترق للكثيرين كذلك، إلا أنني في المجمل وجدت نفسي مستمتعًا بالوقت الذي قضيته معها دون ندم على قراءتها.

لم يكن لرواية حققت كل هذا الصدى، وصارت حديث الناس والملتقيات في كل مكان، أن تفلت من فرصة استثمار نجاحها وتحويلها إلى عمل فني، وقد كان بالفعل، وذلك بعد أن تلقفها المخرج مروان حامد الذي وجد فيها مشروعًا سينمائيًا يحمل في جعبته الكثير من التحدي، خاصة أن الكثيرين قد قرأوا الرواية بالفعل، ويعرفون ما ستؤول إليه الأمور في نهاية الأمر، كما أن الرواية تنطوي في ثناياها على عدة تتابعات تحتاج إلى مخيلة بصرية غير تقليدية لكي يتسنى نقلها إلى الشاشة بما يتماشي مع كم الخيال التى تعتمل بها هذه المشاهد، ناهيك بالطبع عن حتمية إيجاد نقطة التقاء مع تطلعات جمهور الرواية، والذي يعد هو أكثر جمهور مترقب للجديد الذي سيقدمه للفيلم، والسؤال: كيف سيحقق مروان حامد هذه المعادلة الصعبة والمركبة في " الفيل الأزرق

جاء جزء كبير من الرهان الذي عقده "حامد" على فيلمه هو كيفية سرد نفس الحكاية المعروفة سلفًا على نحو بصري دون أن يتحول الأمر إلى مجرد "ترجمة بصرية فارغة" لها، وقد عمل مروان بالفعل على ذلك في عدة مناحي، كان أولها بالطبع التفاصيل الصغيرة التي يزرعها في أرجاء الأماكن التي يتواجد بها أبطال الفيلم، والتي تساهم في إثراء الصورة المتخيلة عن الحيوات المحيطة بالشخصيات الرئيسية: منزل الطبيب يحيى راشد ( كريم عبد العزيز)، منزل الطبيب شريف الكردي ( خالد الصاوي)، مستشفى العباسية، محل رسم الوشوم الذي تملكه ديجا ( شيرين رضا).

منحى آخر يعمل عليه "حامد" بثقة، وهو كسر حدة اعتماد الحكاية على مجريات الأحداث أكثر من الشخصيات – والتي تعد طبيعة متجذرة في هذا النوع من الحكايات - والاقتراب أكثر من الشخصيات، لا سيما من خلال المشاهد الحوارية التي يفسح لها "مراد" و"حامد" مساحة زمنية جيدة ومرضية خلال فترة عرض الفيلم، بالإضافة إلى الاعتماد المكثف على اللقطات القريبة والمتوسطة في هذه المشاهد، ليساعد في ذلك على الاقتراب أكثر من خلفيات هذه الشخصيات، وعلى وجه الخصوص العلاقة التي تعود بعد انقطاع دام لسنوات طويلة بين الطبيب يحيى وبين لبنى الكردي ( نيللي كريم). لكن يظل الاختبار الأصعب على الإطلاق أمام "حامد" هنا هو تتابعات الهلاوس البصرية التي تنتاب الطبيب يحيى بعد تناوله حبوب الفيل الأزرق المخدرة، والتي أفرد لها "مراد" مساحة كبيرة من أحداث روايته، والتي تعتمد في سردها على القدرات الكبيرة للعقل الباطن على الانطلاق، وكانت المفاجأة أن "حامد" نجح في تقديم هذه المشاهد بشكل فاق كل التوقعات، المسألة لا تقتصر بالتأكيد على الاستخدام الأنيق للمؤثرات البصرية على نحو غير مسبوق في تاريخ السينما المصرية، بل على تقديم هذه التتابعات كذلك من خلال جرعات بصرية مكثفة وصادمة، منتقلا فيها بين الزمان والمكان على نحو عاصف وجنوني.

لكن مع ذلك، فقد كانت أكثر الأشياء إزعاجًا في الفيلم، والتي كان تحتاج فقط لحلول بصرية معادلة فحسب، هى فواصل التعليق الصوتي التي تظهر فجأة وعلى نحو خاطف بين الحين والآخر من أجل إبراز ما يفكر به الطبيب يحيى أو ما يقرأه، والتي من الواضح أن "حامد" قد حاول تخفيفها قدر الإمكان، حيث لم تظهر التعليقات الصوتية بصوت الطبيب يحيى التي سمعناها في الإعلان الأول للفيلم.

على صعيد النص السينمائي، والذي تصدى لكتابته "أحمد مراد"، فقد نجح على نحو كبير في تقليص الهوة بين النص الروائي والسينمائي، ونجح في الوصول لكافة المشاهدين بكفاءة كبيرة، سواء أكانوا من قراء الرواية، أو الذين لم يقرأوا منها حرفًا واحدًا حتى، بل والأكثر من ذلك، أن "مراد " يحاول التدارك هنا بوضع حلول درامية وبصرية لعدد من الإشكاليات التي طالتها عدد هائل من الانتقادات، وعلى رأسها الخاتمة التي جاءت في الفيلم أكثر منطقية واتساقًا مع طبيعة شخصية الطبيب يحيى، كما يحسب له التركيز بشكل أكبر عما كان في الرواية على الخط الدرامي الذي يشك فيه الطبيب يحيى في احتمالية كونه مريضًا بالسيكزوفرينيا من عدمه.

وبعد تألقه الموسيقي على مدار شهر رمضان الفائت من خلال المسلسل التليفزيوني " السبع وصايا"، وفي تعاونه الثاني مع "مروان حامد" بعد ( إبراهيم الأبيض)، يعود هشام نزيه للتألق مرة ثانية هنا، وبمنهاج مختلف تمامًا، حيث تعمل الموسيقى هنا على نحو كامن، وفي مستويات منخفضة، ودون التصريح عن نفسها على نحو مباشر أو صارخ، ودون الطغيان على كيان المشهد، حتى أن المشاهد قد لا يلحظها إلا مع التدقيق، لكن كل ما يختزنه "نزيه" بموسيقاه طوال الوقت يصرح عن نفسه على نحو حر ومتفجر في تتابعات هلاوس عقار الفيل الأزرق.

إجمالا، لا يكمن نجاح "الفيل الأزرق" فقط في عدم تخييب ظن قراء الرواية المخلصين، بل في تجاوز توقعاتهم على نحو كبير، وهو الأهم، والنجاح على نحو موازي في منح الكثير من المتعة البصرية والذهنية للذين لم يقرأوها، وهو بالتأكيد المطلوب من عمل ينتمي لفئة التشويق والإثارة النفسية.



تعليقات