أجورا

  • مقال
  • 04:07 مساءً - 7 نوفمبر 2014
  • 1 صورة



راشيل وايز في لقطة من الفيلم

رأيتُ في هذا الفيلم قصة البشرية.. رأيتُ سقراط والمسيح والحلاج وجاليليو، وجيوشٌ من جٌند النور، من فدوا الحقيقة بأرواحهم.. بينما كنت أمضي فى كتابة هذه السطور، كنت أطالع عبر وسائل الإعلام ممارسات الجماعات الدينية الجديدة بمنطقتنا العربية، من هدم لاّثار يزيد عمرها على اّلاف السنين في سوريا، ومن طرد وتهجير للمخالفين دينياً، وكذلك ذبحهم بأشرس السبل في العراق، ومن محاكم تفتيش تطارد أهل الفكر والإبداع الحر في كافة ربوع المنطقة.

إنها دائرة الزمن.. الدائرة.. الدائرة التي طالما حيرت "هيباتيا"، رأيت كل هذا في رائعة المخرج العظيم اليخاندرو امينابار " أجورا"، الفيلم الذي يتعرض لحياة الفيلسوفة المصرية "هيباتيا" والتي اُستشهدت على أيدي متطرفين مسيحيين في الإسكندرية.

يبدأ الفيلم ونرى "هيباتيا" -التي جسدتها ببراعة فائقة " راشيل وايز"- في الأجورا "الميدان" تدرس لتلاميذها الذين ينتمون لديانات ومذاهب مختلفه في جو يعكس الروح الكوزموبوليتية للإسكندرية القديمة، والتي تم محاكاتها بشكل ساحر، حيث بُنيت المدينة كديكور بمالطا.

ما تسعى "هيباتيا" لاكتشافه طوال الفيلم هو البحث عن الحقيقة، وإثبات كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وهو ما سيخالف بالطبع النظرة اللاهوتية التى يتكلم بها حراس العقائد.

يتصاعد المد المسيحي المتشدد باﻹسكندرية، وتنشب المعركة بين المسيحيين والوثنيين التي تم تصويرها من زوايا مرتفعة للغاية، أعطى إيحاء بصري يُشبه جحافل المسيحيين بإنها حيوانات متوحشة، ساعد في هذا أصوات الهمهمات المفخمة في شريط الصوت.

هلع "هيباتيا" الأكبر في تلك اللحظات العسيرة كان على الكتب والمكتبة، والجحافل على الأبواب.. ينجحون في اقتحام المعبد والمكتبة، يحطمون التماثيل والآثار القديمة، ويدمرون الحضارة الرومانية العظيمة وهم فى أقصى درجات النشوة، هاتفين باسم الرب! يقومون بعملية حرق الكتب في مشهد رائع بصريًا، يتم تصويرهم فى لقطة سريعة ومن زاوية مرتفعة للغاية أعطت لنا إيحاءً بصريًا قويًا بأنهم مجموعة من الحشرات، وتنتهي بصورة مقلوبة لهم أثناء نشوتهم بتمزيق الكتب.

تنجو "هيباتيا" وبصحبتها مجموعة كبيرة من الكتب، التي أنقذتها، وتصمم على السير في طريقها نحو البحث عن الحقيقة، تتحدث "هيباتيا" في أكثر من مناسبة عن فكرة الدائرة والمركز.. والدائرة هي رمز الكمال، نشعر أن لـ"هيباتيا" حضور روحي كبير ومعنى أكثر عمقًا وله أبعاد أخرى بخلاف كونها منارة الفلسفة والعلم.

هذه المرأة أحبها رجلان، أحدهما هو "أوريستس" الذي دخل لعالم الموسيقى ليتأمل تناغمها، لأنه يرى أن هذا التناغم الروحي العذب يقبع في معشوقته "هيباتيا"، والاّخر هو "ديفيس" العبد والتلميذ النجيب، والذي يدخل إلى المسيحية لرغبته في التحرر، والأكثر بهاءً في المسيحية من وجهة نظره كان الإيمان في مطلق يمكنه أن يحقق له المعجزة، بأن ينول "هيباتيا"!

هذا السرد البديع يوحي لنا وكأن "هيباتيا" هي مركز الوجود والجميع يدور حولها، راودتني خيالات صوفية وأنا اتلقف تلك المشاهد، تخيلت "هيباتيا" ترقص رقصة المولوية الصوفية، تقف في منتصف الدائرة موضع الشيخ، ترقص وتتواجد ويرقص المريدون حولها، تتلقف النور من السماء بيمينها لتروي العاشقين بيسارها، قد كانت ترى أن الدائرة هي الحق، وأن إيقاع الوجود يكمن في الدائرة، وهكذا رأى الصوفيون أيضًا.

بتولي "سيرل" أمر كنيسة الإسكندرية تبدأ حقبة مريرة في تاريخ المدينة العظيمة، يطارَد اليهود ويفتَك بهم فى مشاهد وحشية، تعترض "هيباتيا" بشدة وتستشعر هذا الخطر الضاري على الإنسانية، تدخل في مناظرة مع رجل دين أحب أن يحرجها كعادة حراس العقائد طوال التاريخ، ويسألها عن إيمانها؟ فتجيبه: "اؤمن بالفلسفة"، في هذا الطقس الجنوني، وفي أحلك الظروف وأشدها قتامة تظل "هيباتيا" مجذوبة تجاه النور الذي يراودها دوماً، نور الحقيقة.

ولم تزل تنظر للسماء فـ"هذا الفيلم إهداء لكل من نظر للسماء" كما قال المخرج اليخاندرو امينابار، مازالت تلك الجميلة تتأمل وتفكر في الكون الذي يحويها، وتحتويه، لم تهتم بأن تعيش ملذات الدنيا، اهتمت بأن تبحث عن النور وأن تدرك السر "عندما اعرف السر واكتشف اللغز سأغدو بقبري امرأة سعيدة"، هكذا قالت "هيباتيا" في ليلة مقمرة.

"سيرل" يجمع المسيحيين وينطق ببعض النصوص من الإنجيل فى سياق ملفق يدين به "هيباتيا"، ويطلب منهم الركوع لهذا الكلام، لأنه كلام الرب، يركعون جميعاً إلا "أوريستس" العاشق، يقول له هذا ليس كلام الله "أنا مؤمن ولكني لن اركع لهذا الكلام"، فيتم إهانته وتكفيره ورجمه بينما هو يصرخ "أنا مسيحي مثلكم"، لا تلتفت "هيباتيا" فهي تدرك أن الملتفت لا يصل، وتصل، تصل لحقيقة دوران الأرض وفى مشهد بديع تقف في خشوع أمام نور الشمس، وتفيض عيناها بالدموع، يقررون قتلها باعتبارها كافرة ساحرة، يشبعونها ضربًا، ويمزقون ملابسها حتى تتعرى تمامًا، يستعدون لتنفيذ حكم القتل، فيدخل العاشق "ديفيس".. يقترب منها.. يلامس جسدها العاري.. تبدي له سلاماً كبيراً.. يتذكر عدة مشاهد تجمعهما، تضع يدها على وجهها لتكتم أنفاسها، يساعدها ويضع يده على يدها وكأنهما يمارسان الحب، تموت "هيباتيا" قبل أن يأتي البرابرة ويرجمونها.

أرادت أعين أمينابار الشاعرية أن تنقل لنا هذه النهاية التراجيدية التي تليق بأسطورة كـ"هيباتيا" بشكل أكثر رومانتيكية، وأخف قسوة من المشهد الحقيقي الذى حدث لها، ولينتهي الفيلم كما بدأ، بلقطة لكوكب الأرض تستعرض كرويته، احتفاءً وانتصارًا للحقيقة العلمية على حساب نظرية الكنيسة، وتمجيدًا وتقديسًا لـ"هيباتيا".. وكل "هيباتيا".



تعليقات