Wings Of Desire.. ورأس برلين المزدحم باﻷفكار

  • نقد
  • 10:52 مساءً - 5 نوفمبر 2016
  • 1 صورة



Wings Of Desire

عندما وضع الكاتب اﻷيرلندي جيمس جويس داخل رائعته الروائية "عوليس" حجر اﻷساس لتيار الوعي أو ما يسميه الكثيرون بالحوار الداخلي، كان "جويس" ينشد تجاوزًا كاملًا للإتكال على الحدث في صورته الخام أو الحدث كما يبدو لنا نحن الناظرين من الخارج، كان "جويس" يعلم جيدًا أن هذا الحدث قد سبقته الكثير من الانفعالات واﻷفكار قبل اﻹقدام عليه، وهو ما يجعل من هذه الانفعالات واﻷفكار هي اﻷساس لتحريك الدراما، وليس الحدث الخارجي كما كانت العادة.

ويعد فيلم Wings Of Desire للمخرج والكاتب اﻷلماني فيم فندرز محاولة بالغة التميز لاستعارة تقنية تيار الوعي تلك من اﻷدب وتطبيقها سينمائيًا، حيث تتميز حكاية الفيلم باتساع القماشة والرقعة لدرجة تشمل معها كامل الحيز المكاني الذي تشغله مدينة برلين وتمتد حتى إلى سمائها، كما تتسع لتشمل كل أناسها وبشرها وحتى ملائكتها.

يختار كاتبا الفيلم فيم فندرز بصحبة الروائي النمساوي بيتر هاندكه، منطلق الحكاية في الفيلم من منظور الملائكة، حيث يتحول الملكان داميل وكاسيل "برونو جانز وأوتو ساندر" إلى كائنات كلية الرؤية وذات قدرة على النفاذ بين جميع الحواجز والاستماع إلى كل التيارات التي لا تنتهي من اﻷفكار المزدحمة في رأس كل مواطن وحتى مهاجر في برلين، وهو ما يصبغ على العمل صبغة كرنفالية لكن بدون تكوين شبكة ضخمة من العلاقات الإنسانية بقدر ما هي تعامل مع كل شخص بمفرده في تيار وعيه، وهو ما يفسر المنطق الاستعراضي للتصوير حين تجوب الكاميرا كل اﻷرجاء صعودًا وهبوطًا، داخليًا وخارجيًا، داخل الغرف المغلقة وعلى الطريق.

تك الحالة من انعدام الحوار على نحو شبه كامل بين شخصيات الفيلم - إلا في بعض اللحظات النادرة جدًا - لحساب السيطرة الطاغية للمونولوجات سواء داخليًا أو إلى شخص آخر بدون رد من الشخص اﻵخر يضفي حالة من انكفاء كل شخص في هذه المدينة على مشاغله وهمومه الخاصة مما لا يساعده على كسر وطأة هذا الانشغال بالتشارك مع اﻵخرين أو بالتحاور، مما حول برلين إلى مدينة كبيرة مأهولة بالوحيدين والمنعزلين، وحتى من يفد إليها يتطبع بنفس طابعها مثلما نرى مع لاعبة اﻷكروبات التي يغرم بها الملاك "داميل" ويرغب من أجلها في التنازل عن أبديته.

أما عزلة الملكين فهي تسير بمنطق مختلف، بالرغم من التشارك مع عالم البشر وقدرتهما على التأثير فيه بشكل خفي وغير ملموس، إلا أنه لا يتم بشكل فيزيقي، وهو ما يصنع حائلًا أمام الشعور بنفس المشاعر البشرية الطبيعية من اللذة واﻷلم والهوى، وهو ما يفطن إليه الملاك "هاميل" الذي تعب من حياته اﻷبدية الرتيبة عديمة اﻷلوان التي تسبق فيها سطوة اﻷفكار كل شيء آخر.

في غالبية أحداث الفيلم المصورة باﻷبيض واﻷسود، دائمًا ما ستجد أصوات اﻷفكار داخل الرؤوس تسبق رؤيتنا لهؤلاء اﻷشخاص أو للحيز المكاني الذي يتواجدون فيه مثل مشهد المكتبة على سبيل المثال، مع اتباع الكاميرا لمنهج المسح والرصد أكثر من التفاعل مع الشخوص لحساب مكانهم في حيزهم المكاني، بينما يأتي اﻷمر على النقيض في جميع المشاهد الملونة، خاصةً بعد تحول الملاك "هاميل" إلى آدمي، حيث يصير استشكاف المحيط المكاني ومفرداته البصرية واللونية أكثر أهمية من الانشغال بتيار اﻷفكار، حتى أن منطق الكاميرا ينحو في بعض اﻷحيان نحو التتبع Tracking Shots.

على مدار الأحداث، يحقق الفيلم حالة فريدة من التصالح بين اﻷضداد المختلفة، على كل اﻷصعدة سواء على مستوى الدراما أو على مستوى الصورة أو حتى شريط الصوت، وكأن المدينة كانت تحاول أن تنفض عن نفسها ما ارتكبته السلطات النازية من حماقات عديدة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وما تلاها من هزيمة قصمت ظهر الدولة اﻷلمانية.

هذا التصالح نلمسه بشدة في حالة التراسل بين زمني الماضي والحاضر، بين الحاضر البرليني وقتئذ، وبين ماضيها مع خواتيم الحرب العالمية الثانية، حين تحولت برلين لمدينة من اﻷطلال والخرائب، فهذا الماضي لا يغيب عن أفق المدينة فقط ويلازمه جنبًا إلى جنب، ولا يغيب عن أفكار قاطنيها مثل الكاتب المسن الذي يحاول مطاردة حكاية جديدة تجد أصدائها في ذلك الماضي البعيد.

شكل آخر من التصالح يحققه الفيلم حين يزاوج بين واقع المدينة وبين إعادة تمثيل واقع المدينة حتى مع الانشغال بالهموم اﻵنية، فخلال الفيلم الذي يشارك في تصويره النجم اﻷمريكي بيتر فالك الذي يظهر بشخصيته الحقيقية خلال اﻷحداث داخل إحدى المعتقلات النازية، نجد أنفسنا بين ممثلين يجسدون أدوار المعتقلين اليهود والضباط النازيين من حقبة ماضية لا تفارق الذاكرة لشدة تأثيرها بالرغم من كل المحاولات، لكنهم في الوقت ذاته يفكرون في مشاكل حياتهم الواقعية خارج موقع التصوير.

يبرز شكل ثالث من هذا التصالح على شريط الصوت حين لا تنفرد اللغة اﻷلمانية بكل حوارات الفيلم، فتخصم منها الإنجليزية شطرًا لا يستهان به في جميع مشاهد بيتر فالك، ومشاهد الحفلات الغنائية، والفرنسية في مشاهد لاعبة اﻷكروبات، ناهيك عن شذرات هنا وهناك من التركية واليابانية واﻹسبانية والعبرية، مما يمثل قطيعة مع الماضي ذو الصوت اﻷوحد خلال الحقبة النازية في سبيل التوجه لصيغة أكثر كوزموبوليتانية.

أما أكثر أشكال هذا التصالح بروزًا وسطوة، فيأتي من خلال الدراما في قصة الحب تلك التي تجمع بين كل اﻷضداد الممكنة: ملاك مع بشرية، منتمي للحيز المكاني في مقابل سيدة وافدة إليه، رجل راغب في النزول للأرض مع البشر في مقابل امرأة راغبة في الصعود للسماء على المستويين الفعلي والمجازي، وهذا الفارق اﻷخير يؤكد عليه دومًا المخرج بصريًا أكثر من مرة حين يتطلع الملاك "هاميل" من موقعه في اﻷرض إلى "ماريون" وهى تمارس ألعابها اﻷكروباتية في أعلى مستوى موجود في خيمة العروض، أو حين تظهر للمرة اﻷولى في الخيمة وهي ترتدي فوق ظهرها جناحي ملاك من الريش بينما يقف "هاميل" وكأنه بشري عادي يراقب العرض، وكل من نفس منظور اﻵخر.

"Wings Of Desire" لا يقدم مجرد قصة حب أو مجرد قصة مدينة أو مجرد رحلة وعي، بل هو كل ذلك وأكثر، ويحاول أن يجمع كل مفردات الحياة بشكل مكثف على نحو يجيده كل من اﻷدب والسينما خالقًا حالة شاملة من المواءمة بين منطقيهما مثلما فعل التركي نوري بليغ جيلان بعدها بسنوات في رائعته Winter Sleep المستند إلى قصتين من قصص اﻷديب الروسي انطوان تشيخوف.



تعليقات