The Salesman.. وقائع ما حدث على مسرح فرهادي

  • نقد
  • 11:48 صباحًا - 9 فبراير 2017
  • 1 صورة



The Salesman

من يشاهد أفلام الكاتب والمخرج اﻹيراني أصغر فرهادي، لن يغفل انشغال "فرهادي" في كل نصوصه السينمائية بفكرة المنظور الذي تتخذه أي من قصصه، والذي يكفل بتغيير وجهة النظر نحو نفس القصة بشكل تام طوال فترة المشاهدة، مما يحرك سير الحكاية من خانة الحقيقة إلى خانة وجهة النظر، وتبيت معها الحقيقة شيء نسبي ﻷقصى درجة، وما يساعد على عملية التحريك هذه هو أننا لا نرى كل تفاصيل الحكاية بأعيننا، فدائمًا ما تكون هناك تفاصيل غائبة، فيأتي هنا الخيال محاولًا استكمال ما كان ناقصًا من القصة، ووضع تفسير لما يصعب فهمه أو استيعابه.

من هذه التفاصيل الغائبة -كما هي عادة فرهادي- ينطلق فيلمه الجديد The Salesman، لكنها هذه المرة لا تنفرد وحدها بكل منطلقات الحكاية، بل يضيف إليها فرهادي مكونات آخرى تجعل من فكرة منظور الحكاية أكثر تركيبًا من ذي قبل، فاﻷمر هنا لم يعد متعلقًا فقط بالمنظور، بل بالوسيلة التي نراها عبرها، وهو ما يؤكد عليه فرهادي بصريًا في التتابعات اﻷولى للفيلم حين يتركنا أمام اﻹعدادات الجارية لخشبة المسرح الذي يمثل على خشبته كل من الزوجين عماد ورنا "شهاب حسیني وتيرانيه عليدوستي"، مزاوجًا بين وسيلتي المسرح والسينما من أجل توصيل حكاية بهذا التركيب.

بعد تتابعات إعدادات خشبة المسرح، يعيدنا المخرج مرة أخرى إلى بطلي القصة الرئيسيين اللذان يمران بأزمة عاصفة حين تنهار أجزاء من البناية السكنية التي كانا يسكنان بها، وتنهار معها اﻷرضية الرئيسة اللازمة لاستقرار عيشهما، فيصير لزامًا عليهما البحث عن شقة جديدة ليعيشان فيها.

مع الوقت تتحول هذه الشقة الجديدة إلى مسرح أحداث يوازي مسرحية "موت بائع متجول" للكاتب اﻷمريكي آرثر ميلر، التي يمثلها الزوجان على المسرح، والواضح أن "فرهادي" لا يصنع على اﻹطلاق ستارًا حديديًا بين عالميهما، وهو ما يتبدى في أكثر من مشهد مع حضور المشاغل الخاصة بكل من المنزل والمسرح، مثلما حين لا تستطيع "رنا" استكمال دورها بعد إصابتها، أو حين تلجأ مع زوجها للمسرح بعد تصدع منزلهما اﻷول.

في الشقة الجديدة، هناك حكايتان تسيران جنبًا إلى جنب مع محاولتهما للتأقلم مع أوضاعهما الجديدة: حكاية الاعتداء الذي تعرضت له "رنا" داخل المنزل من قبل مجهول، وهي حكاية تحمل في داخلها نفس "فرهادي" المفضل، حيث نشهد حادثة لم نر لحظة وقوعها نفسها رؤيا العين، لكننا في الوقت نفسه نرى آثارها المباشرة على الجميع، ويتكشف الغطاء عنها رويدًا رويدًا، ولحين حدوث ذلك، يتم التعويل كثيرًا على الخيال لاستكمال التفاصيل الناقصة للبحث عن تفسير متماسك لما حدث لـ"رنا".

أما الحكاية الفرعية الثانية، فهي حكاية السيدة التي كانت تقطن الشقة قبلهما، ومع كل يوم تؤجل استلام ممتلكاتها التي خصصت لها غرفة كاملة في الشقة وترفض في الوقت ذاته أن يقترب أي شخص منها، الفيلم لا يعطينا معلومات تستحق الذكر عن هذه السيدة المجهولة التي لا نراها حتى نهاية الفيلم، بل أن "فرهادي" يقدم مسألة عمل هذه السيدة في مجال الدعارة على أنه افتراض أكثر منه معلومة مؤكدة، مؤكدًا أكثر على وجهات النظر وليس الحقائق، بل أن الزوجين أنفسهما يصيغان الكثير من الافتراضات بناءً على ما رآه كل منهما من متعلقاتها، وحتى في لحظة مهاتفة صاحب الشقة لها، لا نسمع صوتها، بل نعرف ما قالته على لسان صاحب الشقة نفسه.

ووسط كل هذا، لا ينسينا "فرهادي" المشاكل التي تواجه "عماد" نفسه سواء في المسرح أو في عمله بالمدرسة، الذي يواجه أكثر من تحدي على أكثر من صعيد، فرغبته في معرفة هوية المعتدي على زوجته تحوله إلى شخص آخر لكن دون انسلاخ كامل، لكنه في نفس الوقت يتحرك من الغضب الشديد إلى الرغبة في الانتقام بأي ثمن، وهذا التحول في شخصيته نكتشفه عن كثب في تعامله مع طلابه في المدرسة، انظر مثلًا الفارق في تعامله مع سخرية الطلاب في بداية الفيلم، وتعامله في موقف التاكسي الذي عقب عليه أحد تلاميذه، وتعامله الصارم مع تلميذ قام بتصويره بكاميرا الهاتف النقال.

هناك نقاط تلاقي تنشأ طوال الوقت وتتطور بين "عماد" وشخصية "ويلي" التي يؤديها "عماد" في المسرحية، كلاهما يبحث عن التحقق بطريقته الخاصة ومن موقعه الخاص، كما أن كلاهما يحاول استعادة ما فات من أحداث بشكل يقع فيه تداخل بين الذاكرة الحقيقية وبين الذاكرة المشتهاة، وهو ما يزيد من الطبقات التي يتكون منها سيناريو هذا الفيلم، ويؤكد على قصدية اختيار وتضمين هذه المسرحية بالذات ضمن بنية الفيلم.

ومع كل هذه الخطوط، هناك مسألة يلقيها "فرهادي" في طريقه بحيث تبدو وكأنها عفوية لكنها ليست كذلك، وهي مسألة العلاقة مع السلطة الممثلة هنا في الرقابة، ففي عمله بالمدرسة لا يتم الموافقة على مجموعة من الكتب التي أوصى بها لطلابه، كما تواجهه في المسرحية مشكلة طفيفة مع الرقابة في إحدى المشاهد.

هذه العلاقة مع الرقابة التي كانت من المفترض أن تقيد "فرهادي" كذلك من تضمين مشاهد قدر من الحميمية المفترضة بين زوج وزوجته يتم التحايل عليها سينمائيًا بتغيير زاوية الصورة بحيث يبدو وكأنه يربت عليها مثلًا أو شيء من هذا القبيل في المشهد الذي كانت تبكي "رنا" فيه من فرط حرنها على ما جرى لها.

"فرهادي" يصعد هنا في فيلمه الجديد لمستوى جديد أكثر تركيبًا من ذي قبل، وقد يصير هذا الفيلم هو حجر اﻷساس لمرحلة جديدة في تاريخه الفني تتطور فيها قدراته أكثر فأكثر على السرد ولا تكتفي بما تحقق بالفعل في أعماله السابقة.

وصلات



تعليقات