نظرية "رحلة البطل".. الهيكل القصصي الواحد

  • مقال
  • 04:25 مساءً - 23 ابريل 2017
  • 1 صورة



جوزيف كامبل

هناك نظرية تتبناها النصوص السينمائية، التي تتمحور حول مغامرة ما لبطلها، يسعى من خلالها نحو هدف منشود، مفاد هذه النظرية أن هناك طريق قصصي واحد تسلكه جميع هذه الشخصيات في رحلاتها المختلفة الدوافع والأسباب، ومتوالية سردية واحدة تسري الأحداث وفقها.. كثيرون ممن يكتبون القصص والنصوص السينمائية، وممن يتابعون السينما ويشاهدون الأفلام، يعلمون ربما بالشكل الأوّلي لما تنص عليه هذه النظرية، المشكلة ليست في النظرية بشكلها الظاهري، الأمر بدأ عندما سمعت أحد المُحاضرين يقول على هامش علاقة النص السينمائي بالنظرية، والتي أعتقدت قبلها أنها -من عنوانها- تختص بـ(رحلة البطل) فقط: "نحن نسرد نفس القصة الواحدة بكل الأفلام.. بكل أنواعها وأشكالها.. لكن بألف طريقة مختلفة".

تفنن الكثيرون في شرح هذه النظرية ومكانها ضمن القالب القصصي للكتابة في النصوص السينمائية، لكن أول من أطلق هذا المصطلح هو كاتب وفيلسوف أمريكي يدعى "جوزيف كامبل" عام 1949، في كتابه "البطل ذو الألف وجه"، الذي يتناول نتائج مجهوداته بعد جمعه لمئات القصص مختلفة المصادر والمذاهب، الشعبية منها والدينية والروحية، والتي وجد أنها جميعًا متشابهة كبناء واحد للقصة، كوحدة بُنيوية، كهيكل أساسي لجميع القصص المسرودة في دواخله، قسم فيها رحلة البطل إلى سبعة عشر محطة قصصية متتابعة.. ولا يقتصر مفهوم البطل عند "كامبل" في إطار القصص الروائية، بل هو مصطلح عام لكل ما يستحق أن يلقب بهذا الوصف، كما هو مكتوب في السطور الاستهلالية لكتابه "البطل في الأساطير والأديان والحكايات الشعبية والتحليل النفسي والأدب".

بالحديث بشكل موجز عن تلك المراحل السبعة عشر، يمكن اختزالها في أربعة فصول محورية: (العالم التقليدي - المغادرة لتلبية النداء - البحث والاضطلاع بالمهمة - العودة للعالم التقليدي)، بدءًا بعالم البطل الاعتيادي، والشيء أو المشكلة التي تحدث فتُرغمه على الدخول في مغامرة من نوع ما لإنقاذ البشرية مثلًا، قبل أن يرفض النداء، وحالة الخوف والفضول تسيطر على المشهد، ثم يوافق على خوض المغامرة بعد أن يجد من ينصحه.. مرورًا برحلته (في العالم الخاص/الآخر) التي يواجه فيها أزمات حاسمة وصراعات نفسية متقلبة حتى ينتصر في النهاية.. وانتهاءً بعودته لعالمه المعتاد، ليجد نفسه شخصًا آخر بعد أن تحول وتغير نفسيًا وفكريًا بصورة جذرية، وقد ألهمته المهمة فلسفة حياتية جديدة، لتكمن العبرة المُستخلصة من الرحلة في المعضلة الأزلية بإيجاد التوازن بين الروح والجسد، بين الشكل والموضوع، الموازنة بين ما تريده (الرغبة) وما تحتاجه (الحاجة).. مفارقة الثنائيات (العيش/الموت - النظام/الفوضى - الوعي/اللاوعي) بعد أن علمت الكيفية لذلك وتغلبت على أكبر مخاوفك.

أرى أن ما توصل إليه "كامبل" مثيرًا جدًا على صعيد القصص المكتوبة صراحةً، يُناظر في توجهه مبدأ السببية ولماذا تحدث الأشياء من حولنا بهذه الطريقة؟ أشياء مثل كون الإنسان على حالته/سجيته هو نتاج مباشر للبيئة التي نشأ بها ولا يخرج عن هذا القالب أبدًا، أو عن ما وراء الواجهة في جمل نسمعها مثل "كل ما نعلمه هو فقط ما نعلمه".. تخيل أن رغم اختلاف الثقافات وتعدد الأجيال إلا أن عقلية هذا الإنسان واحدة، هناك شفرة جينية واحدة لـ(الشكل القصصي) الذي تخلقه أدمغتنا، نعم الحكايات تتغير، لكن ليس جذريًا، فقط من الخارج.. هناك عقل درامي واحد يبتدع كل تلك القصص، وهناك ما يسمى بـ(العقل الجمعي اللاواعي) تدرسه شركات إنتاج الأفلام لتجد القصة وطريقة سردها الأمثل بما يتناسب مع رغباتها الفنية من جهة، وبما يخدم مصالحها التجارية من جهة أخرى.. الأمر الذي يمكن تشبيهه بوجود "ويندوز" واحد في كافة الحواسيب الآلية المتعددة الصفات، كبيرة كانت أم صغيرة، حمراء أم سوداء، جميعها لها نفس التركيبة الجينية.. هذا أمر عجيب.

من هذا المُنطلق، هناك قصة مشهورة عن رجل كان يكره عالمه بكل ما فيه ويريد الهروب منه، فقرر أن يعزل نفسه تمامًا عنه وعن أخباره، والابتعاد كليةً عن الحياة المجتمعية المعروفة، والاعتكاف/التفرُّغ لتأليف كتاب -كنوع من الهروب الفكري- يناقش جميع تلك الأفكار التشاؤمية التي تضرب عقله، والتمني بالهروب من الواقع فعليًا أو رمزيًا، لعدم قدرته على العيش بالمفاهيم التقليدية للحياة وسط تغير طبائع الناس من حوله، وتبدل شكل الحياة. وعندما أنهى الكتاب قام بنشره، بعدها فوجئ الرجل أن كتابه لاقى نجاحًا جماهيريًا عظيمًا، وأن معظم الناس تصيبها نفس الحالات الشعورية التي أصابته، وترغب -هي الأخرى- في العثور على مهرب من ضغوط وأعباء الحياة اليومية، وربما اتباع نفس ما فعله.. ورغم أنه تعمد عزل نفسه في قوقعة خاصة لفترة طويلة وعدم الاختلاط أو التحدث مع أحد من جنسه، إلا أن هذا لم يعن ابتداع شيئًا ما خارج الصندوق، بل على العكس أصبح أكثر قُربًا للناس بتأثيره الشعوري في وجدانهم.. فمثل هذه القصص تؤكد فكرة (العقل الجمعي)، وأنه مهما تغيرت الظروف/المواقف، لازلنا على نفس الكوكب وأفكارنا لم تأتِ من عالم آخر.

لكن لما كل هذه المراحل؟ يجاوبنا "كامبل" في كتابه أن كل مرحلة وكل خطوة في هذه الرحلة هامة للغاية، هامة من حيث تكوين القصة نفسها، وأن كل مرحلة تعطي البطل وظيفة معينة تستكملها التالية منها، وهامة في التأثير التي تُحدثه في عقلية/لاوعي المُشاهد، فهي مأخوذة عن ظهر (التحليل النفسي).. حيث شيءٌ معين يحدث لتوصيل الشعور بحالة معينة ليخدم وظيفة داخلية معينة، وهكذا.. لكن في الوقت عينه ليست كل القصص -التي يقصدها كامبل- بها نفس النسق التصاعدي للحدث، فهناك من يركز على مراحل بعينها على حساب أخرى لخدمة رؤية وفلسفة صانع الأفلام هذا أو ذاك، وهناك من يغير في ترتيب المراحل لخدمة نوع القصة المطروحة، وهناك من يُهمّش مراحل كاملة لأنها لن تخدم الحكاية ولن تضيف لها الجديد، وهكذا.

البطل عند "كامبل" في إطار القصة هو ليس مجرد المفهوم التقليدي بالأذهان عن "المُنقِذ"، فيمكن أن يكون هناك أكثر من بطل في نفس القصة، بطل فعلي وآخر رمزي، وفي الكثير من الأحيان يتعرض البطل المساعد في أفلام الثنائيات التمثيلية لمصاعب أكثر مما يتعرض لها البطل الحقيقي/المُعتقد. وباعتبار أن في السينما كل من يقف أمام الكاميرا هو بطلٌ من نوعٍ ما.. فيمكن -إن لم يكن يجب- تعميم استخدام المصطلح، ولا بد من أن يتميز البطل بخواص -ليست جسدية- معينة حتى يعلم المُشاهد أنه هو الشخص المُنتظر.. من أهم تلك الأمور التي استوقفتني أمران على وجه تحديد: الأول هو ضرورة رفضه لنداء المغامرة في البداية.. ليست كـ"يجب ألا يبدو كأحمق يوافق على أي شيء" أكثر منها "يجب أن يتعاطف معه المُتلقي ويعلم أنه يخشى التغيير ويفتقد الثقة بالنفس".. والأمر الثاني هو مرحلة في منتصف المتوالية السردية تسمى باسم "بطن الحوت"، يُبتلع بها البطل في المجهول، ويتعرض للهلاك، كتعبير مجازي لما يمكن تسميته بـ"أشد مخاوف المرء تكمن في دواخله"، وعندما يفعل ويواجهها، يرى ما لم يكن يراه قبلًا، ويستغرقه الأمر تفكيرًا في مُجريات الأمور، فعندما يكون المرء في معدة حيوان سيرضى بالتأكيد بأقل الأشياء، وسيتمنى أن يعود للحياة التي لم يقدرها، وهذه نقطة التحول، وغالبًا ما تكون المنعطف الدرامي في القصة، المحنة الهامة التي يعتكف بها البطل في قوقعته ليواجه مخاوفه الحقيقية، لتظهر الإرادة في أعماقه، ومن ثم، البعث للحياة من جديد، كما في كبوة "بروس واين" في مشهد البئر بـ"The Dark Knight Rises".

هناك الكثير من الأفلام التي تجسدت فيها النظرية، ويمكن ذكرها لدى الحديث عن مراحل هذه الدورة القصصية الواحدة، خصوصًا الأفلام الجماهيرية التي أنتجتها أمريكا على مدار الأعوام الماضية، لعل التطبيق الأوضح والأمثل عمليًا للنظرية حدث في فيلم "المصفوفة The Matrix"، بعيدًا عن الإطار التصنيفـي/الأبعاد الدراميـة التي اتبعته هذه الأفلام في نسج قصصها، والتي تختلف في كل من نوعياتها وتيماتها عن بعضهما البعض.. الأمر يُسهَل رؤيته بالقصص التقليدية والمكررة، أو تلك التي لا تختبر الكثير من الغموض في وقائعها، لكن ماذا عن تلك الأفلام التي تتشكل فيها الدواخل في مسيرة البطل على هيئة رموز غير مباشرة؟ مثلًا في حالة "Cast Away" يظل البطل بمفرده على جزيرة نائية أغلب مشاهد الفيلم، وفي حالة الفيلم المثير للجدل "Interstellar" يدخل الدور العلمي أو الرحلة المليئة بالتفسيرات الفيزيائية كمكوّن أساسي في القصة، ما يُهمش عند المتابعين من حجم دور البطل وتأثيره. في هذه النوعية يكون رؤية الأمر أصعب بكثير من المعهود، وهو ما يصب في النهاية لصالح تفسيرات وتأويلات أوضح وأكثر شمولية للنظرية.

فمثلًا إذا ما اتفقنا أن ثلاثية الفضاء الأعوام الأخيرة (Gravity وInterstellar وThe Martian) هي أفلام متشابهة في الإطار التصنيفـي لها.. فنجد أنه رغم اختلاف كل من: أشكال المعاناة التي يتلقاها أبطال هذه الأفلام في رحلاتهم (جسديًا ونفسيًا)، الدوافع الأساسية، الساحة المكانية قلب الحدث، والزمان.. نجد أن الهيكل الأساسي لجميع هذه الأفلام واحدًا، الحبكة واحدة (النجاة)، وهي البذرة التي تحيطها الأحداث الفرعية.. ربما يعارضني أحد من محبي كريستوفر نولان قائلًا: "لكن ليس من المنصف وضع Interstellar بالمقارنة.. فهو ليس فيلمًا يتحدث عن النجاة، بقدر ما كان تطبيقًا لنظرية السفر عبر الزمن بأفلام الألفية الجديدة!".. أو يقول آخر ممن رأى الكثير من هذه النوعية: "ليس صحيحًا.. Gravity لا يعد فيلم خيال علمي من الأساس.. هو دراما واقعية تدور في الفضاء!".. أتفهم هذا.. وأتفهم أنه من الخطأ تمامًا المقارنة من الناحية الأسلوبية للمخرجين، لكن كموضوع، كقصة، وكتتابع السرد للأحداث وتوالي النكبات للشخصية البطلة، كالطريقة التي تنتهي بها هذه القصص على الشاشة.. لكن إذا نظرنا بشكل موضوعي للنهايات في الأفلام الثلاثة، فأنها تكاد تكون متطابقة، وبالميل قليلًا للاعتبارات الاستراتيجية: (كيف تجذب الجمهور لقصتك مع عدم الإخلال باتباعك لأسلوبك الخاص؟)، أعتقد من هذه الزاوية فأن Interstellar هو أكثر اﻷفلام الثلاثة قربًا للحديث عن النجاة.

بالتأكيد هذا ليس حصرًا، فهذه أفلام ذات طابع مغامراتي هدفها تجاري قبل أي شيء، وليس غريبًا أن تتأثر النصوص السينمائية بهذا التطور الرهيب وتتشابه لهذه الدرجة، ففي فترة بدايات انتشار مصطلح "رحلة البطل" بأمريكا أوائل الخمسينات، كانت لشركات إنتاج الأفلام النصيب الأكبر من الفائدة، فظهر -وربما لأول مرة- ما يعرف باستراتيجيات هوليوود التجارية، الطرق التي يتم بها صياغة القصص لكي تبدو مشوقة في إطارها التسويقي، وكان أول من استغل الفرصة وطبق هذه الاستراتيجيات هو جورج لوكاس في ثلاثيته الأولى من "حرب النجوم"، النظرية يمكن تطبيقها حرفيًا على الأفلام الأولى، وتدريجيًا ظهرت الأعمال المتكررة على نفس المنوال، "إنديانا جونز" و"هاري بوتر" فيما بعد.

لعل من الناحية التأسيسية للقصة، الأمر لا يتسم بالمفاجأة أو التجديد، حيث الوتيرة السردية التي اعتدناها عن افتتاحيات القصص بالأفلام، التي نشاهدها: (عالم محدد له خواصه تدور به الأحداث - مشكلة ما تحدث - تداعياتها وآثارها على المحيطين - ومن ثم الشروع في إيجاد الحل)، شيءٌ لا يقتصر فقط على من ينشد قصص الرحلات البطوليّة، لكنه أيضًا الشكل البُنيوي التقليدي والمُتوقع لغالبية من تربى على مختلف أنواع الحكايات، الرائع في الأمر هو التفاصيل الدقيقة التي تحدث عنها "كامبل" بإسهاب في كتابه عن المراحل الوسط التي يمر بها البطل في رحلته، وتناغمها مع طول الخط التتابعي للأحداث من المرحلة الأولى للأخيرة، منها على أقل ذِكر بدء الحدث/الفيلم وانتهائه من نفس النقطة المكانية، كذلك هناك تعريف لعددًا من الشخصيات التي يقابلها البطل في رحلته، أمثال (المُحفز - المُحتال - المُعلم.. إلخ)، فإذا ما وضعنا عددًا من القصص السينمائية، المشهورة على الأقل، أمامنا، ونظرنا عن كثب للمتواليات السببية للحدث، والنمط الذي تتشكل عليه الدواخل والمفآجات التي تقابل الشخصية الرئيسة في رحلته، لوجدناها متشابهة إلى حدٍ كبير بصورة صارخة ومدهشة، وبوجه شديد وخاص في الأفلام الهوليوودية التجارية.

لكن في ذات الوقت لا يمكننا المبالغة والقول إن جميع القصص متشابهة حرفيًا، وإن كانت القصة في طورها البنائي تتأثر بشكل أساسي بالعوامل الخارجية من الجمهور وطبيعة الثقافة منبع الحكاية، واختلاف المعتقدات والمفاهيم حول الفن وما يتضمنه، ودور الحكايات (الشعبية قديمًا/الروائية حديثًا) بتنوع أشكالها في المجتمعات، حتى وأن فرضنا وتشابه هذا، فليس هناك مُخرجان متطابقان تمامًا في عرضهما للقصة الواحدة، فكُلٍ له أسلوبه الخاص، وكُلٍ له الطريقة التي ينظر بها لتناول القصة في شكلها السينمائي/البصري على الشاشة، والذي هو النقيض الأسلوبي للشكل الأدبي/الكتابي لروايتها في صورة كلمات، لذا فهناك دائمًا هذا القدر من نسبية الحدث.

وسبب الربط بين السينما والحكاية، هو أن الحكايات الشعبية هي الفن الجماهيري الأول الذي كان سائدًا فيما مضي، بدايةً بأساطير مثل "إيزيس وأوزوريس" في المجتمع المصري الفرعوني، وهو ما كان يسمى بالفن التحتي لاقتصار مفهوم الفن المدعوم حكوميًا على الطبقات البرجوازية آنذاك، وبمرور الأزمنة أصبحت السينما هي الوريث الرسمي والشرعي للحكاية أو الحدوتة، التي أصبحت تسمي فيما بعد بالقصة، ومن ثم، تشعَّبت منها الآلاف من الأنماط، واختلطت ببعضها البعض، وأصبح الكثير منها مُهجن ليس له قواعد تصنيفية ثابتة، روايات وقصص قصيرة ونصوص سينمائية، حتى المقالات، أصبح الكثير منها يأخد الطابع السردي للحكاية، ومؤخرًا الأغاني القصصية، وأقصد بهذا المصطلح الأغاني الداخل عليها عنصري القصة القصيرة كتابيًا والفيلم القصير بصريًا، كنوع مُهجن من الأفلام القصيرة على هيئة فيديوهات غنائية، أو المؤلف فيها كلمات الأغنية بنفس كيفية الطابع الشعري لوحدة الوزن والقافية، للتعبير عن البواطن، كأغاني الراب والبوب ذات النزعة التحفيزية.

حسب خلفيتي المعلوماتية المتواضعة وحسب ما قرأت، هناك نوعان رئيسان من خط سير الأحداث في أي قصة، الأول يُعرف بـالسببي أو بـالمستقيم، وهو التقليدي/الكلاسيكي في بناء أي قصة حيث حدث مسبب للحدث التالي، بشكل سلس وواضح حتى نهاية الفيلم، والثاني يعرف بالهندسي/اللاطولي، وهو ما يكون فيه التنقل زمانيًا ومكانيًا بين الأحداث لخدمة ما تتطلبه القصة. ما أريد توضيحه هو أن نظرية رحلة البطل تتبع السرد الخطي السببي في بناء القصة ذاتها، لكن ليس بالضرورة أن تتبعه كأسلوب للحكي، هي مجرد مجموعة من المتواليات الدرامية موضوعة في نسق سردي معين، من المُفترض أنها موجودة في جميع الأفلام ذات القصص الكبيرة، أو العظيمة، أو بالأحرى الهادفة. لكن كيف توجد؟ وأين توجد؟ وما هي طبيعة القصة المنسوج في إطارها تفاصيل المتوالية؟ بعيدًا عن الشكل البديهي الذي بدأ وانتهى إليه الفيلم، هنا يكمن التباين.

فمثلًا يمكن أن تسري القصة وفق نظرية كامبل بالظبط بالرغم من موت البطل، أو فقدانه لشيء كبير في خاتمة القصة، إذا ما كان موته هذا لإنقاذ عائلته مثلًا، أو للدفاع عن وطنه، فهو موتًا رمزيًا له معنى آخر لـ"البطولة" في نفس المُشاهد، أو أن تستحوذ الميلودرامية على المشهد بأن يكون يوم وفاة العجوز هو ميلاد لابنه المُكمِل لمسيرته، أسطورة البعث بعد الموت على سبيل المثال، فتبقى الحكاية في إطارها المرغوب/المُخطط، ويكون الانتصار هنا روحيًا، ومفهوم الموت ليس حقيقًا ضمن قاموس القصة، وبهذا تكون القصة قد مرت على جميع المحطات المنشودة. فهذه هي القصص في النهاية، التغيير بالمُسميات واللعب بمقاليد الحكاية، هناك دائمًا بعض الموتيفات الصغيرة تلك التي قد تقلب الأمور رأسًا على عقب.

وبالحديث عن النهايات.. ففي نهايات أفلام الرحلة البطولية عادةً ما يتم الإشارة إلى الهدف من الرحلة أو الدرس المُستخلص بعبارة مباشرة أمثال: "كل شيء سيكون على ما يرام" أو "عش كل يومٍ كأنه الأخير" أو "لا تحزن.. فقد فعلت كل ما بوسعك"، أما بالنسبة للنهايات بوجه عام، فعبارة "العبرة بخواتيم الأمور" ربما تكون صحيحة في عالم الواقع، لكن في العالم السينمائي الوضع مختلف إن لم يكن مناقضًا للواقع، النهاية ليست المُعضلة وليست الشيء المُنتظر من القصة في الأساس، ليست النتيجة لشيء في بعض الأحيان، فكما كانت الأسئلة تؤرقني قديمًا، أصبحت الإجابات عليها نسبية وغير منطقية إلى حدٍ كبير الآن: (هل نهايات الأفلام هي ما تخبرني عما يجدر بي أن أفهمه من الفيلم؟ عما يريده المخرج أن يظل عالقًا في عقل الجمهور ضمن منظور القصة؟ هل يمكن الاعتماد عليها كليًا للتمييز بين الحبكة الرئيسة والأخريات الفرعية؟). ما علمته أنها ليست بهذه المعادلة السوية، ففي غالب الأوقات تحكمها الدواعي الإنتاجية بشكل كلي إذا ما كانت ضمن مخطوطة ما يريده الجمهور، وهو أمر مؤسف للغاية صراحةً، الشيء الذي ربما زاد من الاهتمام بنظرية كامبل نظرًا للنهايات المتشابهة الشكل/المختلفة المقصد.

أول ما خطر على بالي وقتما بدأت التحري عن موضوع "جوزيف كامبل" هو: ألن يجعل هذا الأمر من الأفلام التي نحب مشاهدتها متوقعة الأحداث ومملة المتابعة؟ وهو سؤال في محله، لكن كما قلت الأسلوب والكيفية هي كل شيء في عالم القصص، فسماعك لقصةٍ جيدة من راوٍ سيء، يختلف عن سماعك إياها من راوٍ جيد، على اختلاف الظروف التي تسمع/تشاهد بها هذه القصص، فنحن نهتم بالأسلوب قبل أي شيء، المعاني نفسها والآثار التي تُحدثها في أعماقنا تختلف حسب المستوى الذي يصل إليه المخرج من الحس الفني بنسج الخيوط المتباعدة في العمل الواحد. يقول المخرج الفرنسي جان رينوار في هذا الصدد: "ما يهمني هو الطريقة التي يفسر فيها الفنان الحياة.. إن شخصية صانع الفيلم تهمني أكثر من الأشياء التي ينسخها".

أصبحنا نعتمد بشكل كبير في وقتنا الراهن على السينما لسماع الجديد من الحكايات، إلا أن السينما في ذات الوقت هي لغة صورة بالأساس، وهو ما يعني أن أي عمل فني/سينمائي يتكون من علامات ودلالات لها تأثيرات متشابهة على نفس المُشاهد، ولها علاقات ببعضها البعض تتجاوز عبر لغتها البصرية الموضوع الذي جاء منه الفيلم، تتجاوز الفنان والأغراض، وتشكل معنى وتفسيرًا مختلفًا تمامًا عن العالم الذي جاء منه المخرج من جهة، والعالم الذي كان يقصد المخرج إنشاءه حول العمل من جهة أخرى، ومثل هذه الأشياء التي تحدث في تطور القصة ومنظورنا نحوها، أراه ليس بالشيء الهدام لها، باستدعاء الرتابة والملل، أكثر منه البناء لسعة أفق وحدس قوي، وتوسع في المستوى الفكري لمتذوق السينما المعاصر. وربما أملًا في تحسين نوعية وشكل كتاباتنا القصصية في الوجهة المستقبلية، فيُقال: "معرفة المزيد هو دائمًا أفضل".

تعرضت النظرية لانتقادات عدة من قبل العلماء والمؤرخين، منهم من قال إن مصطلح (الرحلة البطولية) هو مصطلح فضفاض، وأكثر تعميمًا من أن يكون ذو فائدة في عالم الرواية، وآخرون عارضوها بحجة أن النزوع نحو تقسيم الناس بناءً على أعراقهم وجيناتهم هو بلا شك أشد عيوب التفكير المتعلق بالأساطير، فيما رأى آخرون أن تقسيمات "كامبل" محاطة بالغموض لدرجة تجعلها بلا معنى وتفتقر للحجة العلمية التي تدعمها، أما المُختصون بالعلوم الإنسانية فقد أكدوا أن النظرية غير مُرضية من وجهة النظر الاجتماعية، وأن أسلوب "كامبل" التحليلي هو أسلوب مجرد، وخال من سياق الأنثروبولوجيا الوصفية. أعتقد أن الأمر في المُجمل يميل إلى الافتراضات ووجهات النظر أكثر من كونه يسير وفق منهج علمي صريح، نعم لا يمكننا إثبات ذلك، لكن لا يمكننا نفيه أيضًا.

في النهاية، فأن "رحلة البطل" هي رؤية فلسفية تعكس وجهة النظر الآدمية لواقع حياتنا، هي دورة حياتنا ذاتها بمنظور فلسفة الاستمرارية والامتداد، البنى الدائري للقصص الذي يحكمه الوقت كنمط الساعة الرملية، البطل الذي يجد شيئًا ما ويبحث عنه، البطل الذي يفعل الصواب ويعطي لحياته قيمة أكبر، كل شخص منا بطل بطريقةٍ ما، بطل حياته الأول، بارع في شيءٍ ما لا يماثله أحد فيه، نحن نتماهى في حب الحكايات ليس انتظارًا لما ستؤول إليه الخاتمة، لكن لأنها تعطينا المعاني في سياق القصة نفسها، نرى أنفسنا خلف تلك الشخصيات البطلة فيما ستواجهه وفيما ستتعرض له. "كامبل" كان يقصد بالنهايات السعيدة للقصص نهايات صيرورة الحياة ذاتها، النهاية الواحدة لجميع القصص الحياتية، توضيح كيف أن تكون الحياة ذات معانٍ مختلفة بمنظور كل شخصٍ فيها لكنها جميعها ذات قيمة واحدة بالمنظور الأعلى الواحد، كيف لنا أن نؤسس كل تلك القصص المتشابهة العجيبة بناءً على نظرتنا الحياتية الذاتية البحتة. هي نظرية تُمثل خطوة كبيرة في فهم المُحتوى الفيلمي القصصي والحكم عليه، هي في حد ذاتها يمكن اعتبارها قصة بطريقةٍ ما، قصة تتبع نفس النهج الأسلوبي في ما تنص عليه بواقع أنها تحتمل العمومية، لذا أكانت نظرية، قضية روائية، قصة، أو أيًا كان، هي في النهاية متروكة للمُشاهد/للقارئ أن يحكم هو عليها، وأن يصفها كيفما شاء.



تعليقات