لحظات انتحارية... وبراح متناقص

  • نقد
  • 01:54 مساءً - 17 مايو 2017
  • 1 صورة



لحظات انتحارية

حتى بعد مرور سبع سنوات كاملة على ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، لا تزال وقائع هذه اﻷيام ماثلة في كل اﻷذهان حتى مع اختلاف الرؤى والتأويلات حولها وحول ما دار فيها، أو حتى مع تبدل المشاعر نحوها مع اتساع المسافة الزمنية يومًا بعد يوم، وهو ما يسمح برؤية أكثر عقلانية وأكثر شمولًا بحيث يشمل الصورة الكاملة للحدث وليس جزء مقتطع منه، مع الابتعاد أكثر عن الرؤية العاطفية للحدث التي اصطبغت بها عشرات اﻷعمال الفنية التي تناولت فترة الثورة وما بعدها، وهو ما يدفع بالتالي بالبحث عن زاوية مختلفة وجديدة وطازجة تقوم بتوظيف الحدث بدون أدلجته أو تناوله بنكهة عاطفية استنزفت من قبل عشرات المرات.

قد يتخيل المشاهد للوهلة اﻷولى بعد مرور مشاهد ما قبل التترات Avant-Titre ضمن أحداث فيلم "لحظات انتحارية" أن هذا الفيلم سينضم بسهولة إلى رتل طويل من اﻷعمال حاولت مواكبة حدث الثورة أو على أقل تقدير تسجيل المواقف واﻵراء من منظور صناع الأفلام حول هذه الفترة، لكن مع التقدم في المتابعة، يدرك المشاهد سريعًا أن هذا الفيلم يحمل شيء من الاختلاف عن كل ما سبقه.

بالعودة مجددًا إلى مشاهد ما قبل التترات، تبرز أمامنا صورة السماء مسيطرة على كامل الشاشة مع دخول صوت الطائرة ودخول مجسم صغير للطائرة إلى الصورة السابقة، لنجد مروة "دنيا ماهر" وهي تلعب بمجسم الطائرة على نحو طفولي صرف، واثقة من خطتها التي تسير حتى اﻵن على ما يرام، حتى حينما تتمنى الموظفة لها عودًا حميدًا من الرحلة إلى إستراليا، فترد بسرعة وثقة أنها لن تعود من هذه الرحلة، ونراقب أشيائها وهي تتناقص شيئًا فشيئًا من مكتبها لتحل مكانها في حقائب السفر بالتزامن مع صعود التترات، حتى هذه اللحظة يتحقق البراح حقيقة ومجازًا، بصريًا ودراميًا كذلك، المجال اﻵن مفتوح أمامها على مصراعيه لتكون كما تريد.

بعد التترات، ينقلب الحال دراماتيكيًا من الاتساع إلى الضيق ويظل هكذا حتى قرب خواتيم الفيلم، خاصة مع انحسار مواقع أحداث الفيلم في مكان واحد تدور فيه أغلب اﻷحداث، وهو منزل والدة مروة التي تموت فجأة قبل سويعات قليلة من رحلة مروة المقررة، مع إضافة حدث الثورة نفسه، باﻹضافة إلى كون الشقة نفسها مطلة بشكل مباشر على ميدان التحرير، ما يجعلها بجدارة في قلب اﻷحداث، ناهيك عن تزايد هذا الحصار الذي يحيط مروة بعد انقطاع الإنترنت وخطوط الهواتف النقالة عقب جمعة الغضب.

هذا الحصار بالطبع يخرج الجميع -وليس مروة فقط- عن حالتهم الطبيعية، خاصة مع التحام الخاص بالعام في لحظة غير اعتيادية في حياتهم جميعًا، ويتناقص معه حجم اليقين في كلتا الناحيتين، وهو ما يُترجم في تصرفات مروة بالانكفاء على الكنبة برفقة شال على الكتف على الرغم من برودة الجو مع تشغيل المراوح طوال الوقت في الشقة بما يتناقض مع الحالة الجوية وذلك بسبب وجود جثة اﻷم في الشقة، أو في هرولتها المستمرة بدون توقف بين جنبات الشقة، أو بين الباب والشقة مع حلول ضيوف.

وعلى نفس النسق، يتشارك بقية اﻷبطال نفس الحالة من عدم الاتزان واختلال منظومة الحياة بالنسبة لهم حتى ولو كانت عن غير قصد، وهو ما يُترجم هو اﻵخر من الخارج، مما يضع بقية الشخوص على تخوم الكاراكتر سواء من الصفات الشخصية أو من التصرفات: خالة نزقة تدخن سجائرها بحامل سجائر كلاسيكي حتى تكاد تبدو كامرأة قادمة من الأربعينات، جارة مصابة بالخرف تسكب المياه دومًا في حقيبتها، جار يعزل نفسه عن العالم داخل دورة المياه التي يبيت في مسبحها.

هذه الحالة بأكملها (وضعية الشخصيات + الورطة الدرامية + المستويات العامة والخاصة الفريدة للحدث) كانت تملك بذرة صالحة لصناعة عمل كوميدي خالص، وليس فقط عمل تختلط فيه الكوميديا بالدراما كما بدا في المعالجة اﻷخيرة، وربما لو كان قد أعيد كتابة العمل من جديد، كان سيحمل نزعة أكثر سخرية مع صيغة قادرة على الوصول إلى شريحة أعرض من المشاهدين، خاصة مع امتلاكه كل المقومات لتقديم ذلك، باﻹضافة إلى عدم انشغال الفيلم بتسجيل موقف ما من حدث الثورة نفسه، وهو ميزة إضافية تحسب للفيلم، حتى لا ينشغل باﻷدلجة على حساب الحالة الدرامية.

ومع علمي بظروف صناعة الفيلم، إلا أن تصويره بكاميرا الديجيتال مع استخدام مشاهد مصورة مسبقًا ﻷحداث الثورة قد أعطيا الفيلم صورة قد تدفع من يشاهد الفيلم للوهلة اﻷولى للشعور بأنه يشاهد فيلم موجه حصرًا وقصرًا لجمهور المثقفين، بينما كان في حقيقة اﻷمر يمكنه أن يضم جمهور أكبر، خاصة لو كان بحث مليًا عن صيغة مناسبة تتفق مع حس السخرية الواضح الذي يملأ الفيلم وتكبته الصورة والمعالجة الدرامية.



تعليقات