"الرياح الداكنة".. داكنة أكثر من اللازم

  • نقد
  • 08:18 مساءً - 19 مايو 2017
  • 1 صورة



ديمان زاندي في مشهد من فيلم (الرياح الداكنة).

تتعالى الزغاريد المُبتَهِجة حتى تُعانق بساط السماء، ملحوقة بالتصفيق والرقص مع أنشودات الأفراح العراقية، ثم تُفصح لنا الشاشة عن فتاة جميلة اسمها "بيرو"، تتحلقها قريناتها وصديقاتها متراقصات حولها، مُهللات باقتراب عُرسها، بينما هي مبتسمة تُجاريهن بنظراتها وقد تجَلَّت أحلامها الوردية على تقاسيم وجهها، وشاعت فرحتها باقتراب تحَقُقها.

ومن بين تلك الألوان الزاهية يطفح الأسود من دون دعوته؛ فنجد داعش تقتحم الصورة ويتوغل أفرادها مقتحمين القرية التي يُعَد العُرس بها؛ يضرب الرعب في قلوب الجميع، وتَنفَضْ الأحلام من حول العروس فتهروّل هي والبقية محاولين الفرار قبل أن تطولهم براثن داعش، ثم نجد الفتيات تختبئن بخندق ضيق وقد انسالت دموعهن المخلوطة بالفزع، حتى يصلهن الداعشيون ويسحبوهن - بينهن بيرو - لخارج الخندق مُكبرين حَمدًا على غنائمهم الجديدة وسباياهم؛ لنفهم بأسى أن الزغاريد التي كانت تلاطف عنان السماء، هبّت رياح داكنة تعصفها دون تمهُل.

بعدها نشهد أسيرات داعش في مزاد تُبَعّن ويشتريهن من يملك الثمن، ليصبح حرًا بما يفعل في مُشترَاه.. يُعدّد النخاس مزايا كل فتاة ويبرر سعرها بخصالها المتفردة حتى تجد بائعها، وحين يلحق الدور بالعروس، يتغزل بِسماتها الاستثنائية وأنها عذراء لم تُمَس بعد، فيتكالب عليها الراغبون إلى أن يحظى بها أحدهم، وتتحول العروس بيرو من فتاة أوشكت أحلامها على التحقق إلى فتاة أمست أسوأ كوابيسها - التي لم تَرِد بأبشع خواطرها - تتحقق بالفعل.

على الجانب الآخر، نجد عريسها "ريكو" يحاول أن يحفظ رباطة جأشه قدر إمكانه، ويدور بحثًا في كل مكان عن محبوبته آملًا إيجادها. ليصحبنا معه في رحلة بحثه تلك، بين مكان والآخر، إلى خيبة أمل والأخرى، حتى نعثر عليها أخيرًا عند مُجندات الحدود الفاصلة بين سوريا والعراق، لنلتقي بفتاة جديدة باتت في عالم آخر غير عالمنا، لا يصفو وجهها من الشرود، ولا تتأنى عيناها عن الصراخ المكلوم، وإن صدر عنها صوتًا يكون صراخها المصحوب بالبكاء العاجز؛ فقد تعرضت للكثير الذي يبدو عصيًا عن المداواة أو الالتئام.

هذه قصة فيلم الرياح الداكنة الذي عُرض بختام أيام القاهرة السينمائية. ولن يفوتنا أن الفيلم بدأ قصته بلحظة الذروة، وأقحمنا في أكثر محطاته إثارة للتوتر والانتباه، فإن كنا تعاطفنا أو أرهفنا حواسنا لما يحدث، فهذا لأن موقف البداية وحالته يستوجبان ذلك. لكن من البديهي بعد تلك الافتتاحية أن يحاول الفيلم توريطنا مع أبطاله، وإرشادنا لتفاصيلهم التي غابت عنا لنتعلق بهما ثم نأمل نجاتهما واكتمال قصة حبهما التي راقتنا احتفالاتها في بادئ الأمر، لكن هذا ما تجاوزه فيلمنا وأخذ يهروّل على بكاء تلك وانهيار ذاك، فضلًا عن رصد الدموع والعواء والنحيب بين هنا وهناك، لتجد نفسك أمام قصة محزنة بما يكفي، تخيلك لوزنها كفيل وحده بأن يصب عليك البؤس اللازم، لكن يُصر أصحاب القصة على أن ترى بنفسك حزن فوق أسى فوق نحيب؛ فينقلب الأمر، وتشعر بأن كل ما يفعلونه لاستجلاب تعاطفك ليس مطلوبًا وأن القصة وحدها كانت كافية لأفهم مأساويتها، فأنا بحاجة لأتعرف شخوص القصة حتى انخرط معهم فيما يحدث، أما أن تشيح بوجهك عن كل شيء لتنهال عليّ بالانهيارات والدموع التي حاقت بشخوصك طيلة مدة العرض، هو أمر سيبدو مبتذلًا واستبكائيًا.. فحتى في واقعنا اليومي، حين تخبر أحدهم خبرًا مُفجعًا تُدرك جيدًا مدى مأساويته، تُذيعه الخبر وربما تذكر باقتضاب حالة المُبتلَين به، لأن هذا وحده كافيًا. فأنت لن تُذيعه، ثم تلطم وجنتيك وتصرخ وتبكي وتولول طيلة اليوم حتى تضع المتلقي على مستوى فاجعة الخبر!

هذه هي أزمة الفيلم التي أنقصت أسهمه تمامًا؛ كان يملك قصة كفيلة بأن تتيح الكثير لصناعه أن يكون حالة يعيشها المُتلقي دون انفصال، ولكنهم عاكسوها برصدهم ما لا يُسمن أو يُشبع من جوع، حتى أنهم أهملوا تفاصيل - كان يهم المشاهد أن يعرفها - مثل كيف توصلت مُجندات الحدود لبيرو وتمَكنّ من نجدتها.

بل المحزن في الأمر، أن هناك بعض اللقطات والمشاهد التي تُشير بأن صناع الفيلم يملكون ما يقدمونه ويورطون به المشاهدين عوضًا عن الأسلوب الذي انتهجوه.. مثل مشهد بيرو حين أجلستها والدتها في المياه الساخنة تُحممها بعد العثور عليها، وبينما تصب السيدة المياه على ابنتها تخرج وتتركها لحظات تستبين فيها من وفد إلى المنزل، وتقترب الكاميرا ببطء من وجه بيرو، لنراها شاخصة ببصرها في الفراغ ويتصاعد بخار الماء الساخن متلويًا أمام عينيها، حتى يصبح مجال رؤيتها ضبابيًا بفعله، في إشارة ذكية بأن الفتاة لم تعد ترى في عالمها سوى ضبابًا التهم أحلامها.

لن أتطرق لتنفيذ المعارك المتواضع، لأن هذا ليس بالعنصر القيِّم في قصة فيلمنا، كما أن إمكانيات الإنتاج لن تدعمه أكثر من ذلك. لكن هي دراما الفيلم التي تستحق مُعاتبة صانعيها، لِما لجأوا إلى الطريق السهل برصد آهات وأنين الجميع بينما كان من الممكن أن يصقلوا قصتهم - التي تملك في جنباتها الكثير - بخلفيات وتفاصيل تنفذ إلى المتلقي.. فيلم الرياح الداكنة امتلك القصة المثيرة، ولكن عوضًا عن تدعيمها بالبناء الدرامي اللائق، أخذ يؤكد على أن رياحه داكنة بكل ما أوتيَّ من قوة.



تعليقات