One Flew Over the Cuckoo's Nest.. تحليق داخل عِش المجانين

  • نقد
  • 05:02 مساءً - 27 يوليو 2017
  • 1 صورة



One Flew Over the Cuckoo's Nest

"متطوعون!! ماذا؟! متطوعون!! أنتم متطوعون! أيها الحمقى المعاتيه! يا لكم من سخفاء! بالله عليك بيلي.. اخبرني بأنك مُلزَم ها هنا.. هوّن الأمر عليْ يا فتى.. ماذا بكم بحق الجحيم! أتقبعون هنا برغبتكم؟! أتتذمرون من الأوضاع وكيف هي متسلطة عليكم، أتحنقون من سيطرتها بأقل التفاهات ومعاونة زبانيتها على قمعكم، ثم تخبروني أنكم هنا بكامل حريتكم! ماذا تفعل هنا يا بيلي؟! من المفترض أن تكون بالخارج تمرح هنا وهناك، تصادق الفتيات وتطارحهن الغرام. أتقبل بمصح عقلي بدلًا من تلك الحياة! ماذا بكم لعنكم الله! أتفضلون الغوص بهذا الجحيم عن مواجهة الحياة بالخارج! أتخشون المواجهة؟! لماذا؟ أتظنون بأنكم مجانين! كلا كلا.. كلا يا سادة، لا فرد من هؤلاء السائرين بالطرقات أقل منكم جنونًا.. بل أنتم أعقل وأكثر إتزانًا، بل جنونكم يا حفنة أوغاد في تفضيل هذا المستنقع عن الخارج الناضح بالحرية والحياة! لعنكم الله على ما تفعلون!".

كانت هذه هي الكلمات التى لفظها "آر. بي. ماكمرفي" وقد افتـُعَل بداخله بركان من الغضب تخالطه ثورة واستنكار وذهول، حين يكتشف أن جلّ زملائه بالمصح العقلي يُقيمون بين جدرانه بكامل إرادتهم، فقط لأنهم يخشون مواجهة الحياة خارج هذه الجدران! آر. بي. ماكمرفي الذي تدرك دون جهد طيلة مدة عرض الفيلم، أنه بركان حيوية لا مثيل له. تدرك أنه لا مثيل لإرادته، أو ذكائه وفهمه الحياة وفن عشقها، والتشبث بها مستمتعًا بكل ما يمكن الظفر به من براثنها. آر. بي. ماكمرفي الذي تقتنع تمامًا بأنه شخصية تحمل الحياة بين أضلعها، تحمل الإصرار بذرات دمائها، تحمل الكون بأسره تحت إبطها! يقينها بما تؤمن وتعتقد فوق كل شيء، وقادر على أي شيء. آر. بي. ماكمرفي الذىي تُدرك بأنه لا رادع لعشقه الحياة، وأنه شخصية عظيمة لا تتكرر بيسر. تُدرك أنه طار فوق عِش المجانين ليقتلع منه الجنون ويصُبه على عقلائه الزبانية الغير آمناء على ضمائرهم! تدرك أنه حلَّق داخل عِش المجانين ليقتلع منه القمع والسكون والجحود، تاركًا به معنى الحياة، غارسًا بين جدرانه شرايين الدماء، خلايا العقل، ونسائم الحرية ترفرف كما ينبغي للرفرفة أن تكون. تدرك أنه حَلَّق داخل عِش المجانين ليُعلمه كيف أن الحياة جنوناً يليق به عن الجنون ذاته! آر. بي. ماكمرفي الذى شق جليد السلبية ليتمخض بوليد الحرية والإيجابية والتطلع للحياة.

يبدأ فيلمنا منذ أولى لحظاته، بكادر لمنظر طبيعي شاعري يجمع عناصر الطبيعة مغلفًا بالسكون والهدوء، تعانقه موسيقى لابد وأن تسترعى انتباهك فتطرق عدة أبواب بداخلك، حتى أن طرقها يترك صدى يلُازمك خلال مدة عرض الفيلم، هذا الإيقاع الغامض الغريب الذي يحمل بين دقاته الإقبال على أمور لا تدري كنهها! إيقاع يحمل بقوامه غموضًا يُبطنه مُسيطراً عليه. ثم تأخذك الكاميرا إلى داخل هذا المصح ملاحقًا إياها ذات الإيقاع؛ لترى بنفسك هؤلاء القوم القاطنين بالداخل بإستغراقهم في غرابة المظهر و التصرفات. تباين غير عادي بين هناك وهنا؛ هذا المنظر البديع بتكامل عناصر الطبيعة في كل أركانه، ثم هذا المبنى الشنيع بقاطنيه غرباء الأطوار ومدى محدودية المكان وإثارته للنفور. مع ذات الإيقاع الغامض الرهيب في الخلفية، وكأنه يخطو على مهل منبئك بأنك مُقدم على ما هو غامض وسيلف رأسك معه إن لم يلتف كيانك.

ثم تجد هذه الوافدة من الخارج إلى الداخل، باعثة بكل خطوة من خطواتها الثقة والجرأة، مُحملة بالحياة في قسماتها جميعًا. كأنها زائرة لمقابر موتى، لكن هدوء عجيب مع برود قاتم يجثمان على كيانها.

ثم بعدها هذا الشاب المكبلة يداه بالأساور الحديدية، يُلازمه بعض الرجال إلى داخل المشفى، تجده هو الآخر - رغم الحصار الذي يحيطه والأغلال التي تُقيده - مُحملًا بالحياة، لكن على نهج آخر، فالمرح والبسمة والإقبال على ما هو جديد يستعمرونه؛ هو غير عابئ بطبيعة هذا الذي يُقبل عليه، هي تجربة سيغتنم منها دروسه التي يدرك كيفية اغتنامها. إنه آر. بي. ماكمرفي المحكوم عليه بعقوبة، فبُعث للمشفى اختبارًا لقواه العقلية وملاحظته. بمجرد أن يخلصه الحارس من أغلاله، يخرج صوته لأول مرة بعد فيض من تعبيرات وجهه التي تغزل قوته، حيويته، جرأته، وإقباله. يخرج صوته مصحوبًا بحركات صبيانية لا يتقنها سوى المهرجين، فيثير دهشتك مع تساؤلك مع استلطافك، ليتعاظم هذا الاستلطاف حين يُدلف للداخل ويبدأ بالتعرف على زملائه بالمصح.

تجده يدلف متراقصًا متبخترًا على الأنغام الصادرة من المذياع؛ كأنه مقبل على قطع مرج أخضر أو تمضية نزهة خلوية! يدخل مُتبينًا هؤلاء القوم الذين سيعاشرهم لفترة، يتبينهم مقتربًا من كل شخص، ثم يشرع فى تبادل الأحاديث معهم ومشاركة المواقف.

نحن أمام سيناريو أستاذي بالمعنى الحرفي للكلمة، سيناريو يدرك كيف يرسم شخصياته بمنتهى الوضوح والدقة من خلال مواقف متباينة وردود فعل محكمة السياق من كل شخصية. كل هذا لا يخرج عن إطار قضية الفيلم ولا يخدش أجواءه لجزء من الثانية. سيناريو محكم ومتماسك، يخطو بك من موقف لآخر مشبعًا إياك بشحنة عاطفية وذهنية تفتح السبل لأخرى أكبر منها وأثقل وطأة؛ حتى أنك تجلس دون وعي لتشعر بأن هذا سيفعل ذاك ورد الفعل هنا سيكون كذا، هذه الشخصية ستضحك عقب هذه الجملة، أما تلك ستثور ثائرتها، بينما هذا سيستفز هذا، ذاك سيجبن ويحاول الاختفاء من الصورة، هذه ستحنق وتحاول ممارسة سلطتها لاستفزازه، هذا سيُبدي غير ما يُضمر.. و هكذا، أمتصور قدر عظمة أن يضعك سيناريو بهذه الحالة؟! أتدرك كيف يحتاج من الشاعرية والعمق والإبداع ليبلغ بنا كمشاهدين تلك الحالة. أنت تجلس مُلمًا بكل الأمور، مُعايش لكل المواقف، مُحبًا لكل الشخصيات وما يصدر عنها، بغض نظرك عن طبيعة التصرفات وفئتها أو كنهها. أنت فقط مستمتع للغاية؛ لإنك مقتنع بأن ذاك الشخص سيفعل هذا الفعل.. هذا الموقف سيستجلب ردود الفعل تلك.. كل هذا في بناء كان صرحًا بتماسكه وتشابكه؛ سيناريو ينضح بالعظمة في كل ذرة من ذراته.

يتناوله المخرج العملاق ميلوس فورمان؛ مخرج عبقري أدرك مدى عبقرية النص الذي بين يديه. أدرك كيف يلكز أقل الطاقات في كل ممثل من ممثلينه فيتفجرون بأقصى إبداعاتهم وأداءاتهم. مخرج صاغ لك عالمًا بأدق تفاصيله وأعجب شخصياته بما يحملون بينهم من تناقضات وتباينات، أو مشتركات تجعلك أنت نفسك واحداً منهم - ولمُ لا - بل تتمنى أن تكون معهم بين جدران المشفى لتشاركهم لحظاتهم، لتؤازر ماكمرفي، تشجعه على أسلوبه، جَلَّده، صموده، إصراره، ورباطة جأشه رغم كل شئ، رغم ضعف إمكاناته وسلطاته أمامهم. مخرج عاش عالم نصه بأدق تفاصيله فأقحمنا بداخله دون أي عناء أو جُهد يذكر.

بدءًا من السيد "سيفيليت"، بمكره وحبه لإثارة الفتن، أو المزاح استفزازًا للمحيطين..

مروراً بـ "بانسيني" المُرهًق دائمًا وأبدًا! رغم هذا نجده في أحد المشاهد يستعين به ماكمرفي أن يحمله على أكتافه حتى يتمكن من تعليم "الزعيم" كيف يلقي بالكرة داخل السلة. لندرك كيف أن مامكميرفي لا يعرف الاستحالة، لا يقنع باليأس.. الإصرار له كأكسجين يتنفسه، بل والأدهى هو قادر على بث الحياة بصخرة صماء.

ثم "تيبر" بردود فعله الهوجاء المثيرة لضحكتك.. إثارته استفزاز "هاردينج"، ثورته حين موقف السيجارة، هزات رأسه حين حاول ماكمرفي خنق الممرضة "راتشيد"، هزات رأسه حين حلق الزعيم بختام الفيلم خارج الجدران؛ هزات رأسه بكلا المشهدين تهتز معها روحك في إصرار عجيب دافعه كيانك رغبًة بتحقق ما تأمله! كريستوفر لويد كان جميلًا و ممتعًا رغم صغر مساحة الدور.

"هاردينج".. هدوؤه، برودة أعصابه، تظاهره بالحكمة وعلمه ماهية الأمور، سعيه لإثبات أنه المحق وإن كان على حساب تحلّي الآخرين بالسلبية المفرطة.. ويليام ريدفيلد أداه بامتياز.

"مارتيني" وعدم إقدامه على أي شيء، شغفه بأن يشاركهم الألعاب وإن كان لا يستوعبها. التهام تعابيره العبثية لوجهه في معظم المواقف، بسمته، براءته، وجهله بفظاعة الأشياء.. داني ديفيتو جميلًا جميلًا.

"شيزويك" وتردده في أن يكون إيجابيًا؛ جبنه البالغ في معظم الأمور، ثم تطلعه ليكون صاحب صوت، ميله لأن يثور ويملأ أرجاء المكان بصوته. شخصية لا بد وأن تستفز مشاعرك بشتى ألوانها. سيدني لازيك نقش اسمه بهذا الدور.

"بيلي بيبيت".. براد دوريف في أول أدواره على الشاشة ينتزع ترشيحًا أوسكاريًا بجدارة. هذا الفتى المتردد الذي يخشى صورته أمام والدته، هذا الفتى الذي يرى دومًا أن الوقت لم يحن بعد لفعل أي أمر من الممكن إنجازه! هذا الفتى الذي فقد الثقة بنفسه لدرجة أن حاول الإنتحار عدة مرات وحتى بها فشل! هذا الفتى الذي بلغ انعدام ثقته بنفسه أن أصبح متأتئًا متلعثمًا بكلامه، لا قوة له على إنهاء كلمة دون أن يقطعها ثلاث مرات على الأقل. هذا الفتى الذي عالجه ماكمرفي وأعاد له ثقته بذاته فجعله ينجز أمرًا ليس بهيِّن، ليعلن انتصاره على الجميع من خلال هذا الفتى، فنجده يتحدث قرب ختام الفيلم جملتين بمنتهى الطلاقة ودون أن يراوغه حرفًا خلالهما. هذا الفتى الذي جعل من الصراع بين ماكمرفي و زبانية المشفى صراعًا دمويًا لا مناص فيه من قتل ضمائرهم لنيل انتصار مزيف يُجنبهم جبروت ماكمرفي ودهاءه وحيويته.. براد دوريف في أجمل أدواره على الإطلاق.

"الزعيم برومدن".. ويل سابمسون في دور خلده التاريخ. الأصم الأبكم ذو الجسد الضخم المخيف، بتعبيرات وجهه الجامدة الغير آبهة بشيء. هذا الرجل الذي تحاشاه الجميع فأصر ماكمرفي على مصادقته وإقحامه معهم في نشاطاتهم، لنجده يركض معهم فى مباراة كرة السلة وقد شعر بقيمته وأنه عنصر الفوز، مرتسمة على وجهه ابتسامة تصب عليك أجمة السعادة من كل صوب واتجاه. الزعيم الذي يجبره ماكمرفي بحسن معاملته و لطفه معه أن يكشف له سرًا وأده لسنوات خارج وداخل جدران المشفى. الزعيم الذي حطم جدران عش المجانين، و رفع راية النصر بإسم ماكمرفي رغم كل شيء. الزعيم الذي رفض أن يترك ماكمرفي أسيرًا لعِش المجانين بعد أن حَلَّق داخل جدرانه، أبى أن يفوته كقطعة شطرنج يحركونها كيفما أرادوا، فحرره ثم حرر ذاته ليعلن أن ماكمرفي هو الملك، هو المنتصر، وهو حامل إكسير الحياة في منفاها، حتى بعد غيابها عنه هو شخصيًا. دور لا يمكن أن تشاهده وتنساه ما حييت.

"الممرضة راتشيد".. لويس فليتشر وواحد من أروع الأدوار النسائية على الإطلاق، وأحد أكثر أدوار الشر إتقانًا بالتاريخ. أنت ترى إمرأة لم تعهد بنساء الكون مثل تسلطها واستغلالها لما تتمتع به من نفوذ حتى تفرض سيطرتها على المرضى وتضيق عليهم الحصار وتُحكم قبضتها على أعناقهم حتى بأتفه الأمور. لويس فليتشر هنا بعيدة كل البعد عن أي مبالغات في تعبيرات وجهها أو تصرفاتها الشريرة التي تدفع المشاهد لمقتها، بل هنا هي تنتهج أسلوبًا قديرًا بهدوئها وجمود أعصابها، ونفاذ نظراتها المحقونة بقوة الشخصية والهيبة والقوة. في كل لحظة تفاجئك بمدى تسلطها، عنفوانها، وعشقها للسيطرة دون أي تطرق للسبل أو الوسائل وبقمة الهدوء! دور عظيم، مشاهدها مع جاك نيكلسون خصيصًا كانت تحلق بها إبداعًا. مشهدها حين حاول خنقها وزوال بؤبؤا عينيها مع احتقان وجهها، واحد من أكثر المشاهد التي لامست بها اجتهاد مؤديته على الإطلاق.

"آر. بي. ماكمرفي".. جاك نيكلسون في أعظم أدوار الفن السابع بالنسبة لي، قد أكتب عنه كتيبًا بهذا الدور.. جاك نيكلسون هنا هو آر. بي. ماكمرفي شحمًا ولحمًا ودمًا وكيانًا. قيل أنه عندما هاتف منتج الفيلم الممثل مايكل دوجلاس جاك نيكلسون ليعرض عليه النص، أخبره جاك: "سيكون أول أوسكار أناله عن هذا الدور يا مايكل". و إن دل ذلك على شيء يدل على مدى ذكاء ممثل مثله وكيف له أن يُقدّر عظمة نص مثل هذا، وكيف له أن يخرج شخصية كهذه على الشاشة. كل لحظة يؤديها جاك نيكلسون بهذا الفيلم Master Scene؛ مشاهده مع الممرضة، مع الزعيم، مع بيلي بيبيت، ردود فعله مع مارتيني وشيزويك، ردة فعله حين لاحظ هاردينج سعيدًا بأن ماكمرفي سيتناول الدواء رغمًا عنه، ردة فعله حين كشف له الزعيم عن سره، ردة فعله حين اكتشف ما فعله بيلي بنفسه قرب ختام الفيلم وتصرفه مع راتشيد، ردة فعله بجلسات التصويت، تأديته للمباراة وتعليقه عليها أمام شاشة التلفاز الخالية من الحياة، مشهد صدماته الكهربية وما تلاه من خدعة سلكها فانطلت على زملائه والممرضة ليباغتهم بعاصفة من الضحك تجعلك تحلق بسماء المتعة معه كمشاهد. و لفظه جملته: "أنا الآن مشحون بالشقاوة - بعد صدمه بالكهرباء - وأي فتاة تضاجعني، ستومض وتضيء وتخرج النقود كماكينة القمار". في واحد من المشاهد التي لا تنسى. مشهده وهو يعلم الزعيم كرة السلة متجاهلًا سماجة الحارس أو تعليقاته المحبطة، مُصرًا على أن يشاركهم الزعيم اللعبة. كل لحظة يؤديها جاك نيكلسون بهذا الفيلم عبقرية تامة، عفوية غير مسبوقة. يتحداك أن تشهده بهذا الدور دون أن تقع في غرامه.

هو الفيلم الذي استحق بجدارة أن يكون من الجامعين النوادر للخمس جوائز الكبرى. فحين تسألني عن أفضل فريق عمل تمثيلي برأيي في أفلام الفن السابع، دون ذرة تفكير سألفظ لك أنه فريق عمل هذا الفيلم. حين تسألني عن أفضل أداء سينمائي برأيي، دون تفكير سأخبرك عن جاك نيكلسون وآر. بي. ماكمرفي.

حين تسألني عن أفضل خاتمة لفيلم من وجهة نظري، سأخبرك أن فيلمنا هذا خاتمته فريدة استثنائية شاعرية لدرجة لا يمكن احتمالها، خاتمة تحمل قدر من العمق والمعاني والمرادفات يخترقك فيغربل أعماقك؛ شاعرية لا قبضة لها و لا وعاء يتسع لفيضها، خاتمة تحرر ذاتك معها إلى ما بعد الأفق!

حين يسألني أحدهم عن ترشيح لفيلم، فأول ما يتبادر لذهني فيلمنا هذا، فأرشحه بملء فمي، لا يشوبني شك بأنه لن ينال من متلقي الترشيح. أرشحه وكلي ثقة أن هذا الفيلم لن يغادر كيان متلقيه ولو بعد حين.

حين تسألني ما هو الفيلم الذي يعد من الإجحاف ألا تقيمه بالعلامة الكاملة، أجيبك باطمئنان أنه فيلمنا هذا؛ فلا أبالغ لو قلت أن 90% من مشاهد هذا الفيلم تعد "Master Scene" بالنسبة لي، لقد أولجت القرص المدمج الخاص بالفيلم منذ أيام في المُشغِّل، ناويًا أن أشاهد عدة مشاهد أحبها منه لدفع الملل عني، فوجدتني انجرف مع الفيلم كاملًا ولا أغلقه إلا بعد لحظة خاتمته، وبعد أن حررني من كل قيد وكل شعور سلبي يُخيم عليْ. رغم أن مشاهداتي تجاوزت العشر مرات له. فمن يفوت مشاهدة الفيلم حتى الآن، قد فاته ما لا يمكن تعويضه، فاتته تجربة ورحلة زاخرة بالحياة، العمق، الجمال، التباين، والشاعرية.

فيلمنا عن آر. بي. ماكمرفي؛ الذي رفض القمع ورفض سلبه حريته وتحريكه كقطعة شطرنج لا تأويل لها، أو صوت مسموع يصدر عنها. ماكمرفي الذي تحدى زبانية المكان بأسره وتفوق عليهم! فعندما عجزوا أمام إيمانه بالحياة وقدرته العقلية الرهيبة في التعامل رغم تفوق إمكاناتهم المادية وسلطاتهم؛ لجأوا لأن يسلبوه قوته بالطرق الملتوية التى أجازتها لهم سلطتهم وتعفن ضمائرهم، ورغم ذلك انتصر آر. بي. ماكمرفي من خلال الزعيم، بل الأدهى هو أن حرره الزعيم قبل أن يحرر ذاته، وأعلن راية نصر ماكمرفي، النصر الذي حطَّم جدران العِش وخرج مُحلقًا في الفضاء.

آر. بي. ماكمرفي الذي حلَّق داخل عِش المجانين ليُبدل جنونه بجنون الحياة.



تعليقات