The Pursuit of Happyness.. عن المعاناة الحياتية اللامنتهية

  • نقد
  • 05:39 مساءً - 11 اكتوبر 2017
  • 1 صورة



"لا تدع أحد أبدًا يقول لك أنك لا تستطيع فعل شئٌ ما، ولا حتى أنا، لديك حُلم ما، عليك أن تحميه.. هؤلاء الذين لا يستطيعون فعل شئٌ ما بأنفسهم يودون القول لك أنك لا تستطيع فعله أيضًا، إذا أردت شئٌ ما في الحياة.. إذهب واحصل عليه"

إذا أردت أن أتحدث عن المصطلح الشائع (المعاناة الحياتية) أو إذا ما سمحتُ لنفسي بالتفكير قليلًا بمشاكل الحياة المعيشية وما يأتي في طريقها من تعبيراتٌ ومفاهيم، فلن يجول في مُخيّلتي أكثر صدقًا من التعبير بـThe Pursuit Of Happyness، هذا الفيلم الذي بين كل الأفلام ذات الطابع التحفيزي التي شاهدتها يومًا، ومن بين كل القصص المُلهمة التي رويت عليّ عبر شاشة السينما، أجده يتربع على قائمتي من الأفلام (الواقعية) التي تتحدث عن السمة الواحدة الأساسية لحياتنا التي نعيشها ونختبر الجديد فيها يومًا بعد آخر، وهي كونها (قاسية) و(صعبة) بشكلها المجرد، دون أي توجهات داخلة عليها، هذه السمة التي نختبر أبعادٌ جديدةٌ لها كلما كبرنا في السن.. كلما خرجنا من مرحلة كوننا صغارًا يافعين يأتي الطعام إلى أفواهنا، إلى المرحلة الجديدة والمُخيفة لكوننا بالغين، وباب المستقبل أمامنا مفتوحٌ على مصراعيه.

أكثر ما يُسحرني بهذا العمل ويجعله عاطفيًا جدًا لي في كل مشاهدةٍ جديدةٍ له، هو حقيقة كونه مُقتبسًا عن القصة الحقيقية لـ(كريس جاردنر)، الرجل الذي ظل طوال حياته يعاني ويعاني حتى الخلاص، يبحث عن مصدر رزقٍ ثابت لإشباع الأمور الأساسية في بيته، ومعها يبحث ويختبر ويستكشف ويتحرى عن ماهية (السعادة).. ماذا تمثل له، وكيف تتشكل، أهي مقتصرة على المال فقط؟ هل السعادة الحياتيّة (حقيقية) رغم كونها مؤقتة؟ أم هي زائفة لأنها كذلك؟

القصة يمكن النظر لها بشكل أوّلي أنها تنقل معاناة البشر في الحياة، إلا أنها لا تخلو من الطابع الفلسفي بداية من عنوان الفيلم، والأسئلة الفلسفية التابعة عن معاني الأشياء من حولنا ومعها معنى الحياة ذاتها.

فلسفة المخرج الإيطالي جابرييل موشينو بعرض صورة كريس للجمهور من خلال كون الشئ الأساسي الذي يحدث في الواجهة هو (تعاسة كريس) سيرًا في طريق الحياة الشائك وتقلباتها الدرامية المفاجئة، لهو شيئاً لم نعتده من الأفلام ذات الطابع التوثيقي بنقل قصص أبطالها للشاشة الكبيرة، كأن كريس في هذه الحالة لم يستطعم إلا اللون الحياتي القاسي البائس، الممزوج بنفحاتٌ من الأمل التي من صعب حقًا أن تجدها في مثل المواقف التي إختبرها الرجل، من المستحيل على أقوى الرجال أن يُكملوا إذا ما أُغلقت جميع الأبواب في وجوههم، هذا ما يحدث مع كريس هنا.

روعة الفيلم الحقيقية تكمن في الكمّ الهائل من الطاقة التحفيزية التي تضرُبها في صميم المتفرجين، في كل مُشاهدةٍ للفيلم أخرج بنزعة إيجابية غريبة أعجز بها عن الفرار من مُقارنة أحوالي الحياتية (السيئة) بما عاناه وما أختبره شخصًا مثل كريس جاردنر، هذا أحد أعظم الأفلام التحفيزية على الإطلاق، لا يوجد إثنان يمكن أن يتجادلا في هذا الأمر، الأثر العميق الذي يتركه في المُشاهد يجعل كل شئ في الحياة سهلٌ للغاية!، يجعلك تعيد ترتيب الأمور مع ذاتك بعد أن رأيت أحد أكثر القصص إلهامًا على الإطلاق، هناك العديد من المشاهد القوية في تاريخ السينما التي تلتصق بالذاكرة ويصعب نسيانها وهذا الفيلم لديه الكثير منها، أنت تشاهد شخصًا يقاتل من أجل ما يريده، حربٌ بينه وبين من حوله للحصول على أقل الأشياء التي توفر له حياة معيشية طبيعية، فكرة تصوير فيلمٌ عن هذا الموضوع هو شيئًا عظيمًا وجنونيًا في حد ذاته، يتطلب مخرج مُحنّك وشغوف بما فيه الكفاية لمواجهة الأزمات التصويرية والكتابية التي تستوقفه لينقل هذه القصة العجيبة للناس، وممثل يفهم ما يجب القيام به ويعلم تمام العلم كيف ينسلخ خلف الشخصية المؤداة، أداء ويل سميث هنا من أروع ما شاهدت.

لكن عند الكثيرين ما يميز الفيلم حقًا هو العلاقة نادرة الحدوث بين أب وإبنه على الشاشة، لا أعلم كم فيلم كان به علاقة والد بإبن حقيقيين بينهما كيمياءٌ وانسجامٌ قويٌ لهذه الدرجة، علاقتهما هي محور الأحداث كلها والشئ الذي يواصل كريس تلقيه لصفعات الحياة من أجله، العنصر الوحيد المُبهج في فيلمٌ ليس أليماً ومحزناً بقدر ما هو واقعيًا وصادقًا، من هذا المنطلق يمكن النظر للفيلم بأنه عن روح الأبوّة والدور الحياتيّ للأب في سبيل أسرته، وحجم ما يعترضه وما هو مستعد لفعله من أجل توفير حياة هنيئة للأبناء.

نرى كريس منذ مشهد البداية إلى النهاية وهو يفعل شيئًا واحدًا، يُصارع ويقاوم مشاكل الحياة على أمل أن كل شئٍ سينقلب ويصبح جيدًا يومًا مُستقبليًّا ما، يسير نحو المجهول متمسكٌ بحب كبير لإبنه ذو الخمس سنوات، يصارع ويصارع بكل ما أوتي من قوة، وفي المقابل تسقطه ضربات الحياة أرضاً مرة بعد الأخرى، يقاتل من أجل الظفر بوظيفة لتسديد إيجار المنزل والديون المتأخرة، يقاتل لإصلاح وبيع أجهزة المسح الضوئي التي لا تفارق يده أينما ذهب، يقاتل من أجل نيل الإعجاب برؤسائه في العمل، يفعل كل هذا وحده بدون مساعدةٌ من أحد، وعندما يتقرب إلى زوجته محاولًا تفريغ بعض من مشاكله اللامُنتهية لها ترد عليه قائلة "لا أُبالي بأمرك"، وترحل من البيت للحصول على وظيفة أفضل بعد أن إكتفت العيش في هذا البؤس الحياتي الخانق.

في أحد مشاهد الفيلم يغني كريس بالكنيسة مع ذويه من أبناء الطبقة الكادحة الفقيرة أغنية روحانية تناشد فيها الرب بعدم تحريك الجبل والمساعدة في تسلقه، كلمات هذه الأغنية مؤثرة جدًا ليس فقط للرمزيات المرتكزة ورائها، لكن أيضًا لكونها أتت في أحد منعطفات الفيلم وأضافت لسياق القصة المزيد من القوة، فهي تُشبّه رحلة الحياة برحلة تسلق جبلٌ ما، والرجّات بالمصاعب والعقبات، بها كل المعاني التي تحدّث عنها الفيلم، رحلة الحياة ذاتها هي رحلة من البؤس والمعاناة، رحلة لابد من خوضها والتعايش مع تقلباتها الدراماتيكية، والنجاح بها تمثل -بشكلٍ ما- فكرة بلوغ المبتغى وربما الحصول على السعادة الأبدية.

الأسئلة التي كانت تعصف برأس كريس عن أننا فقط نطارد السعادة ونلاحقها ونسعى ورائها وليس لنا أن نمتلكها كُليًّا وهنا تكمن العبرة كلها، كما يقول المثل الشهير: "العبرة من الرحلة ذاتها وليس الوصول للهدف"، أو كما يقول الآخر عن مبدأ الإستمرارية: "الوصول للنجاح سهل.. لكن المحافظة عليه هو الصعب"، تأتي هذه الإجابات لكريس -كما تأتي لنا- وسط المواقف الحياتية المتضاربة، لا من ليلةٍ وضُحاها ولا من موقف حياتي واحد.

تجربة مشاهدة الفيلم كمثل تجربة الحياة نفسها، تموت وتُبعث بها للحياة من جديد، إذا سألني أحدهم عن فيلم يستطرد مشاكل الواقع ربما يأتي في ذهني فيلمًا آخر غير هذا، لكن إذا ما كان السؤال به شيئًا من قبيل (المعاناة)، لا أعتقد أن هناك ما يسبق هذا الفيلم لأفكر به، هذا فيلم لكل المُكافحين في الحياة، لكل من لهم هدفٌ يريدون تحقيقه، لكل من فقد الطريق في لحظةٍ ما وسأل نفسه (ماذا أفعل هنا حقًا؟).. (كيف أستطيع أن أُكمل الآن؟)، لهذا السبب كُلّّما امتلكتني حالة من الإحباط أو اليأس أذهب سريعًا لمُشاهده هذا الفيلم، ليُخبرني أن كل هذا هراء، وأني لم أصل قريبًا حتى مما يسمى بالمعاناة الحياتية الحقيقية.



تعليقات