Mother.. قصيدة مرئية وبروفة كابوسية لنهاية العالم!

  • نقد
  • 05:50 مساءً - 30 اكتوبر 2017
  • 4 صور



القصائد الشعرية العظيمة لا يليق أن تشرحها بكلمات نثرية، فهى تحوي الكثير من الرموز والمُحسنات البلاغية وجماليات الشعر من إستعارة وكناية، وما يستتر بين السطور وما يختبىء في بطن الشاعر من معان وأفكار!

وهكذا يمكن التعامل مع أحدث أفلام المخرج دارين أرنوفسكي الذي أثار آخر أفلامه "الأم" Mother جدلًا واسعًا بين النقاد بمجرد عرضه في مهرجان فينيسيا والحقيقة أن قراءة الفيلم برؤية سطحية ربما يسبب ارتباكًا لدى المُتلقي، والإنسان بطبيعته يكره مايصعُب فك طلاسمه، ويعجز عن كشف ألغازه، وإذا تعاملت مع "الأم" بإعتباره من أفلام الرعب، فتكون قد ظلمت نفسك وظلمت الفيلم أيضًا، ولكن برؤية أكثر تعمقًا، سوف تكتشف أنك أمام عمل فني بديع على المستوى البصري والموضوعي.

"الأم" من بطولة جنيفر لورانس وخافيير بارديم وميشيل فايفر وإد هاريس، مع المشاهد اﻷولى تتابع حالة كابوسية مزعجة لإمرأة محترقة لا تتبين ملامحها، ومنزل قد تحول إلى رماد ويد تمتد تحمل قطعة بلوريه من الألماس، ويضعها فى مكان مميز، وكأنها تحفة فنية نادرة، ثم يبدأ الحدث بامرأة شابة "جينيفر لورانس" تستيقظ من نومها، تنادي زوجها الذي لم يكن في فراشه، فنعتقد أن ما رأيناه قد يكون حلمًا أو كابوسًا، وأفاقت منه المرأة التي لم يمنحها السيناريو إسمًا، ويشار لها بوصفها "الأم" وهى زوجه حديثة لشاعر شهير "خافيير بارديم" يكبرها بسنوات، يشير له السيناريو بإسم "هو" تبحث عنه في أرجاء المنزل المكون من عدة طوابق، وتستعرضه الكاميرا أثناء بحث المرأة التي تفتح الباب، فندرك أن المنزل كائن في منطقة منعزلة عن العالم، وتحيط به مناطق خضراء على إمتداد البصر، وأخيرًا يفاجئها الزوج بقبله، ونكتشف أن يديه متسختان ببقايا رماد، وكأنه كان مستغرقًا في فعل شىء ما، ثم يتركها ليغتسل، وتنشغل الزوجة بطلاء حوائط وجدران المنزل الذي نفهم أنه تعرض لحريق في وقت سابق، ولكن الأمور لا تبدو كما على هذا النحو من الهدوء والسكينة، فمن الوهلة اﻷولى، تدرك أن هناك شيئًا غامضًا لا تتبينه، وملامح الزوجه تحمل دهشة دائمة، وكأنها تحاول مثل المتفرج أن تكتشف خفايا المنزل الغريب وخاصة وأنها عندما تضع يديها أو أذنيها على الحوائط، تأتيها أصوات قادمة من بعيد.

وتزداد الأمور غموضًا وتوترًا عندما يأتي زائر غريب للمنزل "إد هاريس" ويستقبله "هو" أو خافيير بارديم بترحاب ويُسمح له بالمبيت، مما يثير إنزعاج الزوجة الشابة، ولكن "هو" يتعلل بأن هذا الزائر من عشاق أشعاره وقصائده، وقطع مسافة طويلة فقط ليكون فى حضرته، ولا يتوقف الأمر عن هذا الحد، بل يطرق باب المنزل مرة أخرى، ويتضح أن زوجة هذا الغريب "ميشيل فايفر" قد أتت لتعيش معه في منزل الشاعر بدون أدنى معرفة سابقة، ثم يأتي أبناء الرجل ويتصارعان ويقتل أحدهما الآخر، وتدرك المرأة الشابة جنيفر لورانس، وندرك معها أن الأمور لا تسير وفق أى منطق وقد خرجت تماما عن السيطرة.

وتبدأ الأحداث في تصاعد جنوني، ويتحول المنزل الذي اعتقدت الزوجة الشابة أنه جنتها إلى ساحة قتال مخيفة لقوى متصارعة من كافة الاتجاهات حتى أنك تسمع شعارات ثورة يناير "عيش حرية عدالة إجتماعية" وأشكال وأصناف شتى من صراعات البشر من كل الإتجاهات ويتحول المنزل إلى صورة مصغرة من الجحيم، والغريب فى الأمر أن الزوج الشاعر يستقبل الأمور بنوع من الهدوء النسبي، بينما زوجته الشابة لا تتوقف عن الصراخ، وأخيرًا تطرد هؤلاء الغرباء من منزلها، وتطلب من زوجها ألا يسمح مرة أخرى بوجودهم، ولكنه يتعلل بأنه يجد متعته في تواجدهم، فهم دليل على عشقهم له، واحتياجهم لوجوده، وهم يشكلون مصدرًا خصبًا لإلهامه الذي إنقطع بعد إحتراق منزله.

وتتصاعد الأحداث إلى نقطة الذروة بعد حمل الزوجة وإنجابها طفل ذكر، تخشى عليه من أبوه الذي يحاول انتزاعه من بين يديها، خاصة وأن الغرباء تزاحموا بجنون خارج باب منزلها وحاولوا إقتحامه ليلقوا نظرة على المولود!

الثلث ساعة الأخيرة من الفيلم تحتوي رغم غرابتها على إجابة عن بعض الألغاز والأسئلة التي ربما تكون قد مرت بمخيلة المشاهد، وإذا حاولت تجميع القطع الصغيرة والدقيقة المتناثرة طوال الأحداث، ووضعت كل منها في المكان المناسب، فسوف تصل الى الصورة كاملة التي أرادها المخرج دارين أرنوفسكى وهو في نفس الوقت كاتب السيناريو!

مدير التصوير ماثيو ليباتيك حقق من خلال الإضاءة المعتمة واستخدام الزوايا الضيقة ولقطات "كلوزات" لملامح وجه البطلة حالة من الغموض والتوتر، وبلغ حدًا من الروعة في مشاهد اقتحام آلاف البشر المتصارعين داخل مساحة المنزل، وكأنك ترى بروفة لنهاية العالم.

جينيفر لورانس تقدم أداءًا جيدًا وملامحها تحتفظ بمشاعر الدهشة والانزعاج وكأنها تعيش في كابوس مخيف لا تستطيع ولا تريد الخلاص منه، خافيير بارديم نموذج فريد ومختلف وعبقري في أداء شخصية الشاعر المبدع الخلاق الغامض الذي يخفي ويبطن أكثر مما يُظهر، ملامحه المنحوتة الخشنة، وصوته العميق مناسب للتصور الذي وضعه المخرج لشخصية "هو" وهى تجمع إلى حد ما بين الشاعر جبران خليل جبران، ودافيد كوريش مدعى النبوة الذي قتل هو ومؤيديه في مذبحة تمت في تكساس في عام 1993.

النجمه المخضرمه ميشيل فايفر في دور بمشاهد قصيرة ولكن أداء مخيف تبتلع جينيفر لورانس بكل ارتياح، نظرة غامضة تحمل تعال وتهكم وثقة، تتحرك في المنزل وكأنها تمتلكه، وتصرف بحرية ضد رغبة صاحبة المنزل التى تطالبها دومًا بعدم اقتحام خصوصيتها، ولكن دون جدوى.

فيلم "الأم" سوف يضاف إلى قائمة إبداع المخرج دارين أرنوفسكي، بل ربما يحمل المرتبة الثانية بين أفلامه بعد تحفته "المصارع"، وسوف يبقى الفيلم مجالًا للتأويل والتحليل والقبول والرفض بين النقاد والجماهير أيضًا، وأشك أن تتجاهله قائمة الترشيحات للأوسكار فى أكثر من عنصر من عناصره الفنية العديدة.


وصلات



تعليقات