Baby Driver... شيطان خلف عجلة القيادة

  • نقد
  • 11:12 مساءً - 24 نوفمبر 2017
  • 4 صور



لا شك أن مطاردات السيارات بالأفلام تُعد مصدرًا لا ينضب من المتعة بالنسبة لعشاق الفن السابع، وخلال القرن الماضي، حرصت هوليوود على تقديم مشاهد المطاردات التي تخص السيارات بكثافة ضمن موضوعات أفلامها المتعددة، خاصة أفلام الأكشن والجريمة، ولم تتوقف محاولات تطوير صناعة تلك المشاهد مع التقدم التكنولوجي في العصر الحديث، وذلك لضمان تحقيق إيرادات محترمة بجانب النجاح الجماهيري المؤكد، حيث تعتبر الأفلام التي تحتوي على مطاردات سيارات بمثابة مغناطيس بشري كبير، يجذب إليه كل من يمر بجوار السينما، لما تحمله من سحر يستميل عشاق السرعة الفائقة.

بالطبع المؤثرات البصرية، التي اقتحمت عالم صناعة الأفلام مؤخرًا، قامت بتسهيل مأمورية صناعة تلك المشاهد، حين خلطت الخيال بالواقع وحولت المستحيل إلى منطق، لكن الأساس يكمن في سيناريو المشهد الذي يجب حشوه بكمية لا بأس بها من المخاطر التي تجلب معها الإثارة بكل تأكيد، ثم بعد ذلك يأتي دور التصوير والمونتاج لخروج المشهد في أبهى صورة وأبدع حال، إلا أن كل هذه العقول والتكنولوجيا المسخرة لخدمة هذا المشهد لن تستطيع وحدها أن تحقق لك النجاح المنتظر بدون شيطان خلف عجلة القيادة، شيطان بالمعنى الحرفي للكلمة، تمامًا مثل "بيبي" من فيلم "بيبي درايفر".

عندما انتهيت من مشاهدة "بيبي درايفر"، جلست لاستعادة المشاهد التي احتفظت بها لنفسي داخل مخيلتي، فوجدت أن مشهد المطاردة في افتتاحية الفيلم هو الأكثر استذكارًا من بينهم، إنه ببساطة أحد أقوى وأرقى مشاهد المطاردات على الإطلاق، ثلاث دقائق من التجلي السينمائي ستصف لك مدى براعة السائق المتمكن "بيبي" الذي سيرغمك، لا شعوريًا، أن تهتم لأمره، حتى قبل أن تعرف عنه شيئًا، وسيجبرك، تلقائيًا، أن ترغب في مشاهدته يفلت من قبضة الشرطة، حتى وأنت تعلم جيدًا أنه يقوم بأفعال ضد القانون.

مشهد المطاردة العبقري

أتعلم لماذا يطلقون عليه "بيبي"؟ لأنه لايزال ينتظر نطق كلماته الأولى!!!

"بيبي" هو الاسم الحركي لسائق شاب ماهر، لا يتحدث كثيرًا، يستمع للموسيقى أينما حل وارتحل عن طريق العديد من مشغلات الوسائط التي تحتوي على كوكتيلات مختلفة للمزاجات المختلفة التي يشعر بها، لا يتوقف تقريبًا عن الاستماع للموسيقى حتى يخفف من حدة الطنين الدائم في أذنه، الطنين الذي خلفه له حادث سيارة عندما كان طفلًا صغيرًا، تاركًا إياه على قيد الحياة ووالديه في ذمة الله، وهو لا يستمع للموسيقى فقط بل يصنعها أيضًا، فيقوم بتسجيل المحادثات المثيرة التي تدور من حوله ويدمجها مع الموسيقى ليصنع منها أغاني من نوعية "الريمكس".

الموسيقى بالنسبة ل"بيبي" هي أسلوب حياة، تمثل له أحد ضروريات العيش، تمامًا مثل الطعام والشراب والهواء، لا يستمع للموسيقى وكأنها هواية عابرة أو عمل محبب يشغل به وقت فراغه، بل كنت أشعر بأنه يحاول التأثير على مجريات الأمور من حوله بواسطة الموسيقى، أتذكر المشهد الطريف في سيارة "بيبي" وتحديدًا قبل تنفيذ العملية الثانية، عندما كان أفراد العصابة على وشك الترجل من السيارة، فقام "بيبي" بتشغيل أغنية ما تتماشى مع إحساسه الداخلي بعملية السطو، لكن أفراد العصابة تجاذبوا أطراف الحديث قليلًا قبل أن يهموا مرةً أخرى للرحيل، ليستوقفهم "بيبي" ويسألهم الانتظار قليلًا حتى يتمكن من إعادة تشغيل الأغنية، ثم يمنحهم إشارة الإنطلاق في رتم محدد من الأغنية!!!

دخل "بيبي" عالم الإجرام بقدميه، عندما ارتكب خطأً فادحًا بالسطو على سيارة أحد الأشخاص، اتضح بعد ذلك بأنها تعود لزعيم أحد عصابات السطو المسلح يدعى "دوك"، شاهده "دوك" يسرق سيارته ورغم ذلك لم يمنعه حينها، إلا أنه تتبع خطوات "بيبي" ليعلم حينئذٍ مدى براعته في قيادة السيارات، ويقوم باستغلاله في عمليات سطو مسلح منظمة يكون دوره فيها هو الهروب بأفراد العصابة من الشرطة، وهذه المهمات نظير التكفير عن الذنب الذي اقترفه في حق "دوك"، لكن كما جرت العادة في مثل هذه النوعية من الأفلام، حيث لا يمكن أبدًا افتراض حسن النية مع زعيم عصابة، فإن أحدًا ليس بالسذاجة إلى درجة تصديق أن "دوك" سيترك "بيبي" يرحل في حال سبيله بكل هذه البساطة إذا قام بتسديد كامل دينه، كل هذا يحدث في الوقت الذي يلتقي فيه "بيبي" بالإنسانة التي اضاءت له طريق المستقبل ورسمت له دربًا مستويًا.

الجانب المظلم في حياة "بيبي"

العلاقة الرومانسية بين "بيبي" و"ديبرا" كانت خفيفة على القلب، حدثت بشكل سريع في لقائهما الأول بدون أي تعقيدات أو تحبيكات، وإذا انتابك شعور بأن العلاقة بينهما فُرضت عليك بالقوة، فاعلم جيدًا أن هذا ليس عيبًا، بل ذكاء كبير من سيناريو الفيلم، فالقصة متعددة الشخصيات والحكايات والأحداث، ولا يوجد مساحة كافية لصياغة علاقة عاطفية بإحكام، بجانب أن الفيلم لا يتحدث عن الرومانسية في المقام الأول، ورغم كل هذه الحجج الغير واهية، فلا يمكننا أن ننكر بأن تلك العلاقة كانت مؤثرة بحق وفعلت مفعولها مع الجمهور، لذلك يجب عليك أن تتقبلها كما هي بدون أن تجادل كثيرًا.

العقل المدبر للعمل، "إدجار رايت"، هو ليس مخرج عابر، بل هو فنان يعشق السينما بحق، لديه حس سينمائي رفيع لا يملك معه إلا أن يترك بصمته الخاصة على كل أعماله، وهذا ما جعله يبتعد عن إخراج فيلم "Ant-Man" في اللحظة الأخيرة، وعندما سُئِل عن السبب قال إن الإجابة الدبلوماسية لهذا السؤال هو أنه كان يريد أن يصنع فيلمًا لشركة "مارفيل" ولكنه لا يعتقد بأن الشركة المنتجة كانت تريد حقًا أن تصنع فيلمًا للمخرج "إدجار رايت"، وفي تصريح آخر، قال بأنه لا يريد أن يكون مخرجًا يتم تعيينه من أجل القيام بمهمة ما، بل هو يحتاج لاستثمار عواطفه بالكامل داخل العمل، ومن حسن حظنا أنه ابتعد عن فيلم شركة "مارفيل" بعد الإختلافات المتعلقة بالنواحي الإبداعية، ليوجه عواطفه وجوارحه بالكامل إلى فيلم "بيبي درايفر"، ويحقق معه النجاح المادي الأكبر له، بإيرادات تجاوزت حاجز المائة مليون دولار، وهذا إنجاز ضخم بالنسبة لفيلم يحمل فكرة أصيلة، بمعنى أن الفيلم لم ينبثق من سلسلة أو مُعاد إنتاجه، علاوة على أن ميزانيته تكلفت 35 مليون دولار فقط، وهذا ما جعل شركة "سوني" تخاطب ود "إدجار" من أجل جزء ثاني مُحتمل، سأنتظره بشغف متوسمًا ألا يخذلني في النهاية، لكن العجيب في تلك المفاوضات هي أنها تتضمن اسم "كيفن سبيسي"!!

بشكل عام، مبدأ الجمع بين الإخراج وكتابة السيناريو، أُتاح الفرصة لـ"رايت" لكي يعمل بحرية ويطبق أسلوبه بأريحية، وهذا ساعده على إختيار الشخصيات المناسبة التي تمنح العمل واقعية إضافية، فمثلًا "آنسل إلجورت" الذي جسد دور البطل "بيبي" هو بالفعل يعزف على الموسيقى الإلكترونية الراقصة "دي جيه مان" في الحفلات الأمريكية، بالإضافة إلى الاختيار المميز للرجل الأصم الأسود الذي جسد علاقة صداقة ساحرة مع "بيبي"، وإذا استشعرت صدق أداؤه، فلا تتعجب حين أخبرك أن هذا الشخص لم يتعلم لغة الإشارة من أجل أن يقوم بهذا الدور، لأنه بالفعل أصم ويستخدمها في الواقع، الشئ الوحيد فقط الذي يؤخذ على "رايت" أنه دائمًا ما يكتب شخصياته الأنثوية بسطحية شديدة ويكون تركيزه الأكبر على الشخصيات من الذكور.

أعجبني سيناريو الفيلم عندما يتلاعب بمشاعر المشاهد تجاه بعض الشخصيات بالعصابة، باستثناء "باتس" الذي لابد وأن تكرهه، أيضًا بصورة إيجابية "دوك"، فهو لطالما كان داعمًا لبيبي، حتى حين وجه إليه تهديدًا في حالة رفض العمل معه، فقد كان التهديد يحمل أسلوبًا رقيقًا، لكن المقصود بالتلاعب هنا يكمن في شخصية "بادي"، الذي كان يساند "بيبي" دائمًا ضد الشخصيات الشريرة، ويستمع إلى الموسيقى معه، قبل أن يفقد حبيبته "دارلينج" بسبب عناد "بيبي"، لتنشأ بينهما عداوة فورية.

حتى الآن كل شئ يسير على ما يرام، فلا توجد مشكلة من تحويل الحليف إلى منافس أو المنافس إلى حليف، بل أعتقد أن هذا يصب في صالح الشق الدرامي، خاصةً إذا حمل هذا التحول أسباب منطقية مثلما حدث مع "بادي"، لكن نقطة خلافي مع الفيلم هي تقديم شخصية ما بشكل مكثف في بداية الفيلم لتجعل المشاهد ينتظر المزيد منها قبل أن تفاجئه بعدم ظهورها مرة أخرى، نعم، أتحدث عن "جريف"، الذي جسد شخصيته الممثل "جون بيرنذال"، وهو أحد معالم الشر في العصر الحديث للسينما، وبالرغم من تقديمه بطريقة مميزة، ومنحه مساحة جيدة مع عدد لا بأس به من الحوارات الساخنة، في مدة لم تتجاوز اثنتي عشرة دقيقة فقط، وهي المدة التي تم خلالها إنجاز عملية السطو الأولى، إلا أنه خرج بعد ذلك من باب المصعد، , ولم يعد للفيلم مرة أخرى، ما هذا العبث بعقول الجماهير؟؟ انتظرت "جريف" ليطل علينا مرة أخرى لكن بلا جدوى، كنت أشعر بأنني لم أكتفي بعد من الشخصية، وتوقعت أن يشكل ثنائيًا شريرًا رائعًا مع "باتس"، خاصةً أنهما يشتركان سويا في مشاعر من الكراهية والحقد تجاه "بيبي"، إلا إذا كان هذا الظهور يحمل غرضًا في نفس "رايت"، وكان تقديمه لهذه الشخصية ليس إلا تمهيدًا لظهور أكبر في الجزء الثاني غير المؤكد حتى الآن، فحينها سأرسل اعتذاري الصادق للمخرج وسأقر بعبقريته أمام الجميع.

إذا لم تروني مجددًا، فهذا يعني أنني ميت

النهاية لائقة وتحمل معاني ورسائل عميقة مضمونها هو أن المجرم يجب أن ينال عقابه في نهاية الفيلم، حتى لو كان انسانًا جيدًا بشهادة الشهود، وحتى إذا أحبه الجمهور، فالمجرم بشكل عام لا يخطئ في حق نفسه فقط بل في حق المجتمع ككل، وحتى تستقيم الحياة الاجتماعية، فلابد أن يتحمل مسئولية أفعاله طالما أنه كان يتميز بالعقل والحرية حينما اختار هذا الطريق بإراداته الحرة، لكن من جهة أخرى، فلابد أن يتساوى هذا العقاب مع حجم الجرائم المقترفة وسلوكيات المجرم، والعقوبة التي قلصتها المحكمة من مؤبد إلى إمكانية إطلاق سراح "بيبي" بعد 5 سنوات هي عقوبة مقبولة، وتنعش آمالنا في مشاهدة جزء ثان سيواجه تحدٍ كبير لتكرار نجاح نظيره الأول.

أشعر بالإمتنان لهذا الفيلم لأنه قدم لي كمية من المتعة لم أحصل على مثلها من فيلم آخر، الأحداث مرضية ومشبعة، وكان من الممكن تقديمها للمشاهد على طبقٍ خالٍ من الموسيقى، لكن الموسيقى ذهبت بالفيلم إلى مستوى فني أعلى، وذهبت بالمشاهد إلى حد التخمة، بالتأكيد إرضاء جميع الأذواق هي غاية يصعب إدراكها، لكن هذا الفيلم بالتحديد، بسبب تنوع موضوعاته وأساليبه بين الأكشن والجريمة والرومانسية والموسيقى، سيتمكن من كسب ود ومحبة عدد هائل من الجماهير وسينتقي عشاقه بعناية شديدة من بينهم.

تقييمي للفيلم: 4.5/5


وصلات



تعليقات