Devil's Freedom.. عندما تتحرر شياطين المَرْء

  • نقد
  • 05:19 مساءً - 30 نوفمبر 2017
  • 3 صور



دائمًا ما ستنجح الطبيعة البشرية في إذهالك، وسيفوق ما قد يُقدِم البشر على اقترافه كل تصوراتك؛ فكلما صادفتك أفعالًا تُجافي الآدمية، تظن معها أن وحشية أبناء آدم قد بلغت منتهاها، فاجئوك بأن جعبتهم لا زالت تحوي الأكثر، وستجود بِما هو أبشع من كل ما مضى! وإن بحثت في أسباب أو مبررات ما يفعلون، قد تعصف نواتج بحثك بما بقي لك من منطق في كثير من الأحيان.

هذا ما بحث فيه الفيلم المكسيكي الوثائقي Devil’s Freedom، والذي عُرض ضمن فعاليات الدورة 39 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الحالي، حيث قام صُناع الفيلم باستعراض شهادات مباشرة من ضحايا عصابات الكارتل -واحدة من أشهر العصابات المكسيكية - بمختلف ابتلاءاتهم ومصابهم. من خلال طرح أسئلة على هؤلاء الضحايا، وسماع أجوبتهم، لنستخلص منها ما تعرضوا له من عنف وحشي، خوف عميق، معاناة مُرهِقة، وشك في أن يبلغهم فجرُ جديد.. على جانب آخر، يتعرض صُناع الفيلم بأسئلتهم لمجرمين وأعضاء عصابات الكارتل أنفسهم، محاولين النبش عن أسباب ما يقترفه هؤلاء من أفعال وحشية وجرائم لا تمت لآدميتهم بصلة. وبين شهادات الضحايا وأقوال الجُناة، لا تتمهل طبيعة البشر في إذهالك.

ربما الشاب من مجرمين عصابات الكارتل، كان أحد أبرز عناصر الفيلم بالنسبة لي. تُطرَح عليه الأسئلة وتصيبك أجوبته بالحيرة! فما يرتكبه من جرائم وبساطة اقترافه لها، يدفعك للشعور بأنه وَحش لا تواتيه رحمة. ثم يخوض في تفاصيل الأمر وكيف كانت تجربته ليصبح مجرمًا في عصابات الكارتل، مع دوافعه التي أقحمته في ذلك، فتنتابك الريبة. بينما هو يسرد، تشعر أحيانًا بأن الأمر مُرهق للغاية ويعذبه أيما عذاب، وفي أحيان أخرى تشعر بأنه فعله دون اكتراث، أوقات تشعر بأنه يُدرك جيدًا ما يفعله، وأن أفعاله تلك قتلت إنسانًا كان بداخله. وأوقات أخرى تشعر بأنه ربما لا يعي وحشية أعماله، أو أنه لم يكترث لها حتى؛ فيتردد قوله في كثير من أجوبته: "فعلتها من أجل المال! هم يحددون مبلغًا لتسلب روح أحدهم؛ فأسلبها بطلقات سلاحي.. أحيانًا أفعلها لأجل عشر دولارات". تسمعه ويُحزنك أمره قدر ما يُنفِرك منه، شاب في مقتبل عمره، من المفترض أنه مفعم بحب الحياة والبشر، يقتل أطفالًا ويحصد أرواحًا - لأناس لا يُدرك عنهم أي شيء - من أجل بضعة دولارات!

=لماذا قتلتهم؟!

- من أجل المال

= فقط؟!

- نعم، أنا لا أعلم شيئًا عن هؤلاء الذين أقتلهم.. هم فقط يصطفون أمامي فأطلق عليهم النيران

= هل كان الأمر صعبًا في بدايته؟

- للغاية.. وتُدرك جيدًا بعد أول مرة تقتل أنك تغيرت تمامًا.

= كيف تتغير؟

يصمت لحظات.. ثم يجيب

- تشعر.. تشعر بأن ملامح وجهك قد كساها الندم، ندم لن يُمحَى ولن يزول.

= ما أصعب شيء يقابلك وأنت تقتل الضحايا؟

- الأطفال.. دومًا هم أصعب ما في الأمر

= لماذا؟

- لأنهم لا يدركون أي شيء، لا يفهمون لماذا يحصل لهم هذا.. فقط يركعون على الأرض غير عالمين حتى بما هو آتٍ. ومع عيونهم التي يغمرها الهلع والتساؤل، أطلق عليهم النيران.. الأمر صعب مع الأطفال، صعب للغاية.

ودومًا المبرر هو تنفيذ الأوامر لأجل المال؛ هذا يمارس التعذيب على الضحايا ويتناوب بمسببات الألم على نفسوهم وأجسادهم لكي يقبض أجره، وهذا يسلب أطفالًا لا تفقه شيئًا عن الحياة أرواحهم لكي يتسلم دولاراته. وهؤلاء المجرمين منزوعي الرحمة، بشرًا مثلي ومثلك، لكنهم ينفذون الأوامر ليتقاضون أجرتهم!

المجرم الشاب من عصابات الكارتل.

وإن كنت تستنكر هؤلاء المجرمين وكيف تحررت شياطينهم وارتكبوا مثل هذه الفظائع لأجل النقود، فبعضهم أيضًا يستنكرون أنفسهم، لكنهم صاروا يقترفون ما يقترفوه بآلية وروتينية عجيبة تفوق استنكارهم لذواتهم؛ حتى أن أحد المجرمين بالفيلم يقول نَصًا: "أنت تستمد قوتك في العصابة بعدد ضحاياك، كلما قتلت أكثر كلما زدت قوة".

وبشأن دوافع هؤلاء المجرمين ومدى إثارتها لدهشتنا أمام وحشية جرائمهم، يمكننا أن نتذكر اختبار ملجرام أو "تجربة الانصياع للسلطة" كما دعوها، والتي أذهلت بنواتجها العلماء القائمين عليها أنفسهم، وتخطت أكثر توقعاتهم لِمَا قد يصل إليه البشر سوءًا بمسافات. ستتفاجئ كيف يمكن لشياطين المرء أن تتحرر بسهولة، حتى من دون إدراكه في بعض الأحيان. وستؤكد طبيعة البشر قدرتها دومًا على إثارة الدهشة.

أما في شهادات الضحايا بالفيلم، سيعتريك هلعًا أكبر وستسري الرجفة بأوصالك. حين تشهد طفلة تحكي عن والدتها التي اختفت، ولاقت تعذيبًا مهيبًا بين براثن هؤلاء المجرمين.. شاب وصل مكان الحادث متأخرًا بدقائق، ليجد أقرانه قد أمسوا جثثًا هامدة، فلا يفارقه شعور الندم بأنه كان سينقذهم لو أبكر بالوصول قليلًا.. رجل تورمت شفتاه إثر ما تلقاه من تعذيب، فيسأله صناع الفيلم هل تمنى الموت ليهرب من هذا الجحيم، فيجيب بأنه كان آملًا في الخلاص رغم ما يتعرض له.. فتيات اختفت والدتهما ولم تعثرا عليها، وأمل ملاقاتها يخبو شيئًا فشيئًا، وتصوُّر ما تعرضت له يزهق أنفاسهما.. وأم تُخرِج جثث أطفالها المدفونة من رمال الصحراء بأيديها، تحكي كيف عثرت على أحذيتهما في الرمال ودموعها تخالط شفتيّها: "بعد طول بحث، وجدت أحذيتهما في الرمال. انخلع قلبي وتهاويت على ركبتيْ أزيح الرمال بجنون، أبكي وأضلعي تصرخ ألمًا بينما تتبدى لي أجساد صغاري بين ذرات الرمال".

الأم التي فقدت أطفالها.

تشهد الضحايا؛ تستمع إلى شهاداتهم وقد التمعت بأعينهم الدموع، بينما اكتست أصواتهم بالنحيب والألم، وارتسمت على معالم جسدهم كل إمارات الوهن. تسمع كلماتهم وترقب لغة أجسادهم متصورًا ما تعرضوا إليه، فتشعر بالرعب يجتاحك، ثم يؤلمك وخز قلبك حين تتخيل ما مروا به وعايشوه.

أعجبني كثيرًا الأسلوب الذي انتقاه المخرج إيفيراردو جونزاليس لعرض فيلمه. فاظهر كل عناصر الفيلم - مجرمين وضحايا - مُلثمين بأقنعة قماشية، لا يبرز منها سوى الأعين، الأنوف والشفاه. رغم ذلك، تصلك مشاعر مَن ترصده الكاميرا تمامًا، تشعر بهول ما رآه، تستشف الألم من نظراته، ترهقك رعشة شفتيه في مقاطع يسردها، تصلك حالته وتعيشها تمامًا. حتى المجرم، تصلك حيرته في أمور يحكيها، تصطدم بقسوته في سرده ارتكاب جرائمه، كل شعور يصلك كَبُر أم صَغُر.. كما أعجبتني كثيرًا تلك اللحظات التي كان يرتكز خلالها إيفيراردو بكاميرته على الشخص الذي سيتحدث، راصدًا نظراته وشخوص عينيه للكاميرا، كأن إيفيراردو يترك لنا المساحة كي نتكهن مَن خلف القناع، هل هو مجرم تحررت شياطينه، أم ضحية طالتها تلك الشياطين. أسلوب العرض كان موفقًا للغاية، حيث حفَظ خصوصية المتحدثين من جانب، وخلَّق مساحات عديدة لنا كمشاهدين، داعبت مشاعرنا وتصوراتنا أثناء المشاهدة من جانب آخر.

قرب خاتمة الفيلم، يُطرَح سؤالًا مباشرًا على الضحايا:

"هل من الممكن أن تسامح هؤلاء المجرمين على ما اقترفوه في حقك؟"

فتأتي أجوبتهم كما نتوقعها تمامًا؛ بالرفض الصارم.

"لا، بل أتمنى أن يتعرضون لنفس العذاب الذي أوقعوه على والدتي. أتمنى أن يزورهم جحيم يفوق قدرتهم على التحمل".

"لا لا، كيف أسامحهم! لقد أحدثوا تشوهات في نفسي لن أقوى أبدًا على مداواتها".

"هم يستحقون الموت.. يستحقون ما هو أكثر منه".

ثم تأتي الأم التي فقدت أبناءها، وخلصّت جثثهم من الرمال بأيديها، الأم التي قطعت دموعها أنفاسها بينما تُدلي بشهادتها لنا، الأم التي انخلع قلبك لقصتها وارتجفت أوصالك لتجربتها التي مرت بها. تأتي لتخبرك بأنها سامحتهم! بل أنها شعرت بالشفقة على هؤلاء المجرمين الشباب، أنها لمست ضياعهم وعدم إدراكهم لما يُحدثونه في نفوس أهالي الضحايا، تسامحهم لأن شياطينهم التي تحررت دون إدراكهم لن تكون عذرًا لأن تُحرر شياطينها بإرادتها!

"لقد سألتهم لِما فعلتم ذلك.. فكانوا يطرقون برؤوسهم ولا يجيبون.. بعضهم قالوا أنهم لم يقتلوا أولادي، قتلوا آخرين عديدين لكن أولادي لم يكونوا بينهم.. فسألتهم لماذا تقتلون؟ أولادي أو غير أولادي، لماذا تقتلون؟ فتكتسي ملامحهم بالخزي والعار، مُطرقين برؤوسهم غير قادرين على مواجهة عينيّ المكلومتيْن.. شعرت بأنهم ضائعين، شعرت بأنهم فقدوا الطريق دون أن يدركوا كارثية فَقدهم، وبالتأكيد لن يدركوا كارثية فَقدي. شعرت بأنهم خجلين لما آلوا إليه، بأنهم عاجزين عن التصويب، بل والأدهى عاجزين عن إدراك الخطأ.. لقد نظرت إليهم وهم يُصَوِّبون أعينهم نحو الأرض، وشعرت بالتعاطف، نعم شعرت بالشفقة عليهم.. وسامحتهم".

تقول تلك الكلمات، ثم تخلع قناعها القماشي لتكشف لنا وجهها، وهي الوحيدة في الفيلم التي تقوم بذلك؛ فهي الاستثناء الذي ظل بمأمن من شياطينه، والاستثناء الذي استحق أن يكشف لنا وجهه.. تخلع قناعها، لينكشف لنا وجهها الطيب المتسامح رغم كل شيء، تُلاقينا بملامحها المُرهَقة، لما مرت به، والباسمة، لقدرتها على هذا التسامح العجيب. تبتسم للكاميرا بهدوء، ويحتضننا سلام ملامحها رغم كل شيء. تقترب الكاميرا برفق من وجهها البشوش، فتنظر هي بعينيها المسالمتيْن المتسامحتين للكاميرا، وتُودِعنا سلامًا غريبًا مُحببًا يستطيع أن يواجه كل شياطين البشر. تتركنا الكاميرا مع بسمتها الهادئة وعينيها الصافيتين، لتبرهن لنا أن طبيعة البشر لا زالت قادرة على إذهالنا.




تعليقات