Wind River... إقليم يتجرع مرارة الظلم

  • نقد
  • 10:29 مساءً - 15 ديسمبر 2017
  • 5 صور



في زمن تمتلئ فيه صالات السينما بأفلام تذهب العقل، أحداثها تميل إلى عدم التصديق، يأتي إلينا من حين لآخر أفلام تناقش قضايا مجتمعية حقيقية، فيمكن اعتبار السينما بمثابة سلاح ذو حدين بين أيدي صناعها، حيث يمكن لمواضيع أفلامها أن تساهم في بناء المجتمع عن طريق طرح قضايا معاصرة يعاني منها المواطن المنتمي لهذه السينما، ويمكنها من ناحية أخرى أن تساعد في هدم المجتمع عن طريق الإبقاء على عقل المواطن بعيدًا عن تلك القضايا، وبقدر ما تقدمه هوليوود من أفلام خيال علمي وفانتازيا وأبطال خارقين لا طائل منها، بقدر ما تقدم أفلام تتضمن دروس هامة عن كيفية طرح معاناة وهموم حقيقية للإنسان على ساحتها، إنها دروس مجانية لمن يريد من إعلام المجتمعات الأخرى أن يستفيد، وعلى السينمائيين العرب التمعن في مثل هذه الأفلام لخدمة خيالهم السينمائي، وفي هذه المراجعة سيتم تسليط الضوء على أحد أهم دروس هوليوود لعام 2017، وذلك من خلال فيلم Wind River.

"Wind River" أو "نهر الرياح" هي أحد المحميات الطبيعية التي يعيش فيها عدد كبير من السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية والمعروفين باسم "الهنود الحمر"، اشتهر الإقليم النائي الذي تم إنشاؤه عام 1868 بأعمال الجريمة الوحشية، حيث معظم الجرائم لا يتم حلها، ومعظم المجرمين لا يتم التوصل إليهم، تلك السمعة السيئة للإقليم جعلت منها أرضًا خصبة للأفلام، حيث لم يتوانى الكاتب تايلور شريدان عن استغلالها في كتابة فيلمه الجديد، والذي حمل نفس اسم الإقليم.

فيلم "نهر الرياح" هو العنقود الأخير لسلسلة أفلام بدأ كتابتها "تايلور" عام 2015 عن طريق فيلم sicario الرائع، ثم العام الماضي بواسطة فيلم Hell or High Water الذي حقق انجازًا بترشحه لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم سينمائي، بالطبع كل هذه الأفلام منفصلة عن بعضها تمامًا في الشكل والمضمون، لكن هناك رابط يجمعهم سويًا، وهو أن جميعها أفلام جريمة تحمل نفس طابع العبقرية الذي تمتاز به كتابات "تايلور"، إلا أن ما يميز فيلم هذا العام هو أن "تايلور" لم يكتفي هذه المرة بالكتابة فقط، بل احتفظ لنفسه أيضًا بمقعد المخرج، ليعزف لحنًا سينمائيًا منفردًا، أسر به قلوبنا وأطرب بواسطته آذاننا.

الفيلم مبني على قصة حقيقية ويناقش قضية الاغتصاب الجنسي، والاغتصاب هو جريمة تعاني منها المجتمعات بشكل واضح، جريمة لم يسلم منها المجتمعات الشرقية التي تتمتع بالمبادئ والتقاليد الصارمة، ولا حتى المجتمعات الغربية التي تتمتع بالحرية في إقامة العلاقات، سلوك مريض يبحث من خلاله المغتصب عن السعادة المؤقتة، وأغلب الظن ينتهي بارتكاب جريمة قتل، في حين أن المغتصب إذا أعمل فكره وتأمل قليلًا في عواقب هذا الفعل، لما أقدم عليه من البداية، فالسعادة الحقيقية هي الشعور باللذة بدون أن يصاحبها شعور بالألم أو إحساس بالندم، لأن اللذة ستزول والإثم سيبقى ليطاردك.

سيناريو الفيلم يتبع أسلوب شيق في عرض أحداثه، حيث يستمر في اعطائك معلومات غير كافية بشكل متلاحق حتى تكتمل الصورة في ذهنك قبل أن ينتهي الفيلم، فمثلًا اللقطة الافتتاحية للفيلم كانت لفتاة تجري على الثلج وهي تنظر خلفها، يبدو أنها خائفة من شئ ما أو هاربة من شخص ما، وذلك قبل أن تنفجر رئتيها وتخرج الدماء من فمها، بعد ذلك ترتكز الأحداث على حياة متعقب الحيوانات المفترسة "كوري"، الذي يملك ابنًا من أحد نساء الهنود الحمر لكنهما منفصلان الآن والسبب مجهول، رغم ذلك يتحدث مع زوجته السابقة بأسلوب لطيف يشوبه الحزن والتوتر، مع مرور الوقت تعلم بأنهم كانوا يملكون فتاة تغمدها الله برحمته، وعليك أن تكتشف بنفسك ماذا حدث لها، ثم من خلال أحد مهام عمله بالأراضي الثلجية، يكتشف "كوري" جثة الفتاة التي ظهرت في بداية الفيلم، يبدو بأنها ماتت متجمدة من شدة البرد، ويبدو أيضًا أنها تعرضت لتجربة اغتصاب عنيفة قبلها، ليتعرف الرجل على الجثة ويتيقن أنها ابنة أحد أصدقائه من السكان الأصليين، ويبلغ على الفور شرطة المنطقة التي بدورها تبلغ المباحث الفيدرالية ناشدين منهم التعاون.

بالفعل لم تتوانى المباحث الفيدرالية في إرسال الدعم اللازم، لكن هناك عدة مشاكل، فهم لم يرسلوا إلا محقق واحد فقط لتعقب خيوط الجريمة، وتزداد الأمور تعقيدًا عندما يتضح بأن هذا المحقق ليس رجلًا بل سيدة لطيفة، لكن ما زاد الطين بلة، هو مظهر المحققة القادمة من شرطة لاس فيجاس، التي تبدو كأنها غير مؤهلة بشكل جيد لهذه المهمة، وهذا يتضح من ملابسها التي يمكن أن تلائم مناخ متوسط البرودة وليس مثل هذه الاجواء الثلجية، كما أنه بجانب عدم امتلاكها الخبرة الكافية للتعامل مع مثل هذه الطرق الثلجية، فهي لا تعلم شيئًا عن المنطقة، والغريب يصبح كفاقد البصر، ولو كان بصيرًا.

هذه العقبات التي أضافها السيناريو لمسار التحقيق، تمنح المشاهد شعورًا بأن القضية ستنتهي بعدم التوصل للجاني الحقيقي، وهنا كان لابد من اللجوء إلى أحد سكان المنطقة لتجاوز تلك العقبات، وبالفعل قام السيناريو بتوجيه المحققة الصلبة "جين" لتطلب من "كوري" التعاون معها في فك شفرة هذا اللغز، لم يتأخر "كوري" عن تقديم يد العون لا سيما أنه يمتلك أسبابًا شخصية تمنحه الحافز للمشاركة بإخلاص في هذا التحقيق، ونظرًا لمعرفته التامة بالمنطقة بالإضافة إلى موهبته في اقتفاء الآثار بالطرق الثلجية، أصبح "كوري" بمثابة أسطوانة الأكسجين للمحققة أثناء إبحارها داخل التحقيق، وبهذه الطريقة نجح "شريدان" في إسقاط أكثر من عصفور بحجر واحد، فهو بذلك قام بتوسيع دائرة فريق التحقيق، وأضاف إليه رجلًا يمكنك أن تصفه بالرجل المناسب في المكان المناسب.

قضايا عديدة أراد أن يثيرها الفيلم من خلف ستار أحداثه المثيرة، فمع نهاية الفيلم ظهرت رسالة هامة عن الغموض المحيط حول الإحصائيات المرتبطة بالنساء المفقودات من الهنود الحمر، الرسالة كانت في صورة كلمات تقول "بينما يتم عرض إحصائيات عن المفقودين مع كل الأنماط السكانية المختلفة، إلا أنه لا يوجد أي إحصائيات عن نساء الهنود الحمر الأصليين، ولا أحد يعرف كم عدد المفقودات"، "شريدان" تحدث عن كواليس هذه العبارة قائلًا بأنه قام بإرسال باحثان الى المحمية لمدة ثلاثة أشهر وعند عودتهم قالا له "تايلور، لم نحصل على احصائيات" فقال لهم "حسنًا، هذه هي الاحصائيات".

بالطبع لا أحد يستطيع إيقاف الجرائم، ولا أحد يستطيع انتزاع الشر من قلوب البشر، لكن المشكلة هنا تكمن في الأسلوب الذي تتعامل به الحكومة الأمريكية مع جرائم الاغتصاب والنساء المفقودات في منطقة "Wind River"؟ هذه المنطقة وغيرها من المناطق التي يعيش بها السكان الأمريكيين الأصليين تخضع لحكم فيدرالي، بمعنى أنه يتوفر لها سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، لكنها في الأخير تخضع لسيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي لها كامل الحق في تنظيم علاقاتها وتمثيلها بالخارج.

أما بخصوص الجرائم، فالقانون الأمريكي يكيل بمكيالين مع هذه الأقاليم، فإذا جاء رجل أمريكي أبيض من خارج سكان الإقليم، وارتكب جريمة الاغتصاب مع فتاة من الهنود الحمر داخل الإقليم، فلن يتم تقديمه للمحاكمة حتى ينال جزاؤه إلا إذا تم القبض عليه داخل الإقليم نفسه، أما إذا أفلت بفعلته وخرج بها من الإقليم، فلن يتمكن أحد من مقاضاته عند القبض عليه، ولا يمكن لهذا القانون العقيم أن يفعل شيئًا حيال ذلك، في حين يكون الأمر على النقيض تمامًا حين يرتكب رجلًا من الهنود الحمر جريمة الاغتصاب ضد فتاة أمريكية بيضاء، فإنه يتم ملاحقته عن ذات الجرم مرتين، مرة من شرطة الإقليم، ومرة أخرى من الشرطة الفيدرالية.

مثل هذه الثغرات بجانب الإهمال الذي تتعرض له مثل هذه المناطق، توضح الخلل الكبير في موازين القصاص الأمريكية، وتشجع على ارتكاب الجرائم بها، فوفقًا لاحد مقالات جريدة نيويورك تايمز، فإن نساء الهنود الحمر يتم اغتصابهن وإهانتهن جنسيًا بمعدل 4 مرات، ويتم قتلهن بمعدل 10 مرات عن أخواتهن في نفس الوطن.

التوفيق حالف "شريدان" خلال رحلة صناعة الفيلم، وأرشده إلى اختيارات مثالية، "جيريمي رينر" الذي ترشح مرتين لجائزة الأوسكار، ارتدى في هذا الفيلم شخصية "كوري" على أمل أن يحصد الجائزة هذه المرة، والحقيقة أن الشخصية كانت ملائمة عليه تمامًا، أما "إليزابيث أولسن" كانت ممتازة في دور المحققة "جين"، وكأن هذا الدور صنع من أجلها هي فقط، أداء مميز أيضًا من ضيف الشرف "جون بيرنذال" الشجاع، ولا يمكننا أن نغفل عن مجموعة الممثلين من الأمريكيين الأصليين الذين قدموا الأدوار المساعدة الصغيرة، وعلى رأسهم "جراهام جرين" رئيس الشرطة الصارم، و"جيل بيرمنجهام" الذي قدم أداءًا أتوقع أن يؤهله للترشح على جائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد، نتيجة أداؤه لشخصية والد الفتاة المُغتصبة "مارتن" الذي طلب من "كوري" أن يحصل لأبنته على العدالة التي تليق بها، والعدالة التي كان يقصدها ليست أن يقبض على المغتصبين من أجل تقديمهم للمحاكمة، فمثل هذه النهايات القانونية اللطيفة لا يصلح تطبيقها في مثل هذه الأماكن، ولم يضعها "شريدان" في حساباته من الأساس.

لقد توقعت أن أشاهد فيلمًا استثنائيًا نظرًا للتقييم العالي والإشادة المصاحبة له في مختلف التقارير، وبالفعل كانت توقعاتي في محلها، طبيعة المكان والأجواء الثلجية والموسيقى التصويرية للفيلم، بجانب الأداء التمثيلي، كلها عوامل تجمعت سويًا لتضفي سحرًا من نوع خاص على الفيلم الذي وضح لنا الكثير من التناقضات داخل دولة من المفترض أنها القوة العظمى في العالم، فكيف لها أن تتدخل بسياستها الخارجية في إرساء قواعد العدل والسلام في مختلف الدول الأخرى، بينما لا تحقق العدالة ولا تقيم الوزن بالقسط بين الأنماط المختلفة لمواطنيها.

تقييمي للفيلم: 4/5


وصلات



تعليقات