الخيط الوهمي بين العشق وغريزة التملك!

  • نقد
  • 10:05 صباحًا - 13 فبراير 2018
  • 6 صور



لا أصدق الممثل حين يعلن قرار اعتزاله الفن، وخاصة وإن كان بحجم وقيمة وغزارة موهبة سير دانيال داي لويس - 61 سنة فكيف يصادر على المستقبل، وكأنه لن يُصادف دوراً يقع في هواه ويجعله يتمنى تجسيده؟ ومع ذلك فهذا ليس موضوعنا إن كان جاداً في قرار اعتزاله أم لأ؟ الحقيقة إننا أمام احتمال أن يكون دور مصمم الأزياء "رينولدزوودكوك" الذي جسده دانيال داي لويس في فيلم phantom thread هو آخر أدواره السينمائية! وأن الفيلم الذي كتبه وأخرجه وقام بتصويره بول توماس أندرسون مرشح لسته جوائز أوسكار!

يطيب للبعض مقارنة طبيعة الأدوار التي لعبها الممثل مع نفس المخرج، مع أن لو حدث أى نوع من التشابه بين دورين قدمهما نجم ما مع المخرج ذاته، تصبح بمثابة خطيئة فنية في حياتهما، وعليه فلا يوجد أى نوع من التشابه بين شخصية "رينولدز وودكوك" في الخيط الوهمي، وشخصية دانيال بلانفيو في There Will Be Blood، وكلتا الشخصيتين من أداء دانيال داي لويس وتأليف وإخراج بول توماس أندرسون، ولكن إن كان لابد من البحث عن نقاط تشابه بين شخصية مصمم الأزياء الذي يعيش في عالمه الخاص، ويحقق نجاحا متفردا على أجساد النساء، فقد تكون شخصية المخرج الأيطالي "جويدو" التي قدمها دانيال داي لويس في فيلم Nine للمخرج روب مارشال هي الأقرب، فكل منهما يتمتع بحس فني واضح، ويعيش محاطاً بالنساء، ومع ذلك فإن شخصية أمه الراحلة صوفيا لورين هي الوحيدة التي تستوعبه وتتفهمه، ولها تأثير عليه حتى بعد رحيلها، ويستدعى طيفها كلما تعرض إلى محنة أو ضائقة، ثم الأهم من ذلك أن كل من الشخصيتين يعيش أزمة مع إبداعه الذي يتعرض للخفوت والاضمحلال نتيجه اضطراباته وأزماته الشخصية المزمنة!

تعود أحداث "الخيط الوهمي" إلى مدينة لندن في الخمسينيات من القرن العشرين،حيث نتعرف على "ألما" التي تعتبر الراوي، والشخصية التي تقودنا إلى عالم مصمم الأزياء الشهير رينولدز وودكوك" تتحدث "آلما" أو الممثلة فيكي كريبس إلى شخص ما لايظهر في الكادر، ثم يتضح بعد ذلك أنه الطبيب المعالج لرينولدز، ولأن الحديث يدور بصيغة الماضي وبقدر واضح من الأسى والشجن، كأن تقول لقد حقق لي كل أحلامي، ومنحته في المقابل كل قطعة من نفسي، فربما ندرك أن رينولدز الذي تتحدث عنه، قد أصبح ماض وذكرى في حياتها، ومع ذلك لا تعتبر هذه المقدمة كشفاً لما هو آت، فنحن أمام زخم من التفاصيل تحيط بشخصية "رينولدز"، تبدأ بتتابع لمشاهد استعداده لاستقبال يومه، بداية من حلاقهة الذقن ونزع الزائد من شعيرات الأنف والأذن، وارتداء الجورب بطريقة صحيحة والتأنق الشديد، ثم الجلوس إلى المائدة في حضرة شقيقته الكبرى" سيريل" ليزلي مانفيل التي تشبه ناظرة المدرسة الكلاسيكية الصارمة، وعشيقته وهى الحلقة الأضعف في هذا المشهد، الذي تتضح منه شخصية رينولدز حيث يتعامل ببرود قاتل معها رغم أنها لم تفعل شيئا سوى تقديم سلة من الشطائر الطازجة، ولكنه ينهرها في وقاحة ويتهمها باقتحام تفكيره أثناء انشغاله بوضع تصميم لأحد الفساتين، وتشعر العشيقة بالحرج، وتغادر المكان لتقول الشقيقة الكبرى في كلمات مقتضبة "اعتقد انه آن الآوان كي تغادرنا جوانا" ويوافق رينولدز بإماءة من رأسه، وينتهى الأمر ونفهم أن هذا وضع متكرر، فكل عشيقة تأتي لتعيش فتره من الزمن تقصر أو تطول حسب مزاج سيد المنزل ثم تغادر بلا رجعة ويمنحها رينولدز فستاناً من تصميمه، كمكافأة نهاية خدمة، فهو يعتبر أن الفساتين التي يضع تصميماتها ثروات فنية فاخرة.

يقدم الفيلم مساحة من الاهتمام لمتابعة حركه تصميم الأزياء وجيش العاملات اللائي يساعدن رينولدز في الحياكة والتطريز وإعداد الفساتين التي يتفنن في وضع تصميماتها، وكأنه يرسم لوحات فنية على أجساد النساء، من بنات وسيدات الطبقات الأرستقراطية، ولكن تتغير حياته رأسا على عقب عندما تدخلها "آلما" أو فيكي كريبس، وهى نادلة في مطعم متواضع، على طريق القرية التي يقع فيها منزله الريفي، تثير اهتمامه وشغفه، وتصبح بعد ذلك عشيقته وملهمته، ورغم أن الفيلم لا يحدثنا كثيرا عن ماضيها، أو تاريخها ولكننا نلتقط بعض التفاصيل من ردود فعلها، عندما تزور الأتيليه سيدة بدينة كانت تتاجر في تأشيرات الخروج من ألمانيا أثناء الحكم النازىي، نظرات آلما تعكس كراهية للسيدة، حتى أنها تحرض رينولدز على استرجاع الفستان الذي صممه لها، ونزعه من على جسمها البدين أثناء نومها، رغم أن رينولدز يعامل عشيقته الجديدة بنفس الأسلوب الفظ، إلا إنها تقرر أن تكون سيدة المنزل وتتحدى سلطات شقيقته، وسلطاته شخصيا وعجرفته وتقلباته المزاجيه، وتلجأ إلى طريقه جهنيمة للسيطرة عليه، فهو حين يضعف أو يمرض يصبح كالطفل الصغير يحتاج للرعاية والحنان فلا يجدها إلا لدى "آلما" فتعمد إلى إضعافه عن طريق جرعات من السم،ثم قبل أن ينهار نهائيا ً تمنحه الترياق كي يعود لنشاطه وحيويته!

روعة أداء دانيال داي لويس أنه يقدم شخصية بغيضة لرجل لا يعبأ بمشاعر الآخرين، ويخطو على أجساد النساء كي يحقق مجده ونجاحه، ولكنه يتمتع بالرقة والعذوبة حين يقصد ذلك، مشاهد الصمت والكلمات القليلة وتقلبات الوجه ولمعة العين، والنظرة الحانية التي تتحول إلى نظرة باردة جارحة، تمنح للشخصية تفاصيلها وعمقها وتفردها، ويهتم المخرج باللقطات الطويلة، والتركيز على ملامح الوجه واختراق مسام الشخصية للوصول إلى الأفكار التي تنبت في رأسها قبل أن تتحول إلى تصرفات وسلوك!

الإضاءة المعتمة التي تتخذ من الشموع مصدرا خاصة في المشاهد الداخلية تمنح الفيلم طابعه الخاص وكأنك تقلب في ألبوم صور يعود إلى ما يقرب من مائة عام مضت، موسيقى جوني جرينوود، تضع لمساتها على الحدث، دون اقتحامه وكأنه جزء لا ينفصل عن المشهد وشخصياته والزمن الذي تدور فيه الحكاية، من أهم مشاهد الفيلم لحظات هذيان رينولدز عندما أُصيب بالحمى، وتخيل وجود أمه الراحلة بفستان زفافها من ثاني أزواجها وهو الفستان الذي صممه رينولدز بنفسه، إنه يناديها ويناجيها ويؤكد لها أنها كانت دائما معه يحتفظ بها في قلبه وكأنها لم تغادر الدنيا ابدا! تقلب حاله بين الوله والعشق لآلما، وتجاهله وقسوة معاملته لها، تجعل رينولدز من أعذب الشخصيات التي قدمها دانيال داي لويس وهى في رأي أهم وأكثر ثراًء من شخصيه Lincoln الأحادية التي حصل عنها على الأوسكار في عام 2012، أما فيكي كريبس التي قدمت شخصية آلما، فهي من عناصر قوة الفيلم فمع نعومة ملامحها إلا أنها التجسيد الفذ لقوة المرأة وضعفها في آن واحد، وهى الخصم الذي يدافع عن وجوده ويتصدى لجبروت وسيطرة سيدة حتى لو أدى الأمر إلى إهلاكه وتدميره!

بين مجموعة أفلام "بول توماس أندرسون" يستهويني ماجنوليا ،ماستر، و"سوف تكون هناك دماء" ثم يأتي بعدهم الخيط الوهمي الذي ترتفع قيمته درجات نظراً لوجود دانيال داي لويس.




تعليقات