زيت أم ماء... تساؤل كل يوم

  • نقد
  • 02:33 مساءً - 8 مايو 2018
  • 5 صور



عطالله

نادرا ما اشعر بالامتنان لإنتاج بعض الأعمال الفنية، ولم اشعر بهذا القدر من الامتنان إلا بعد مشاهدة فيلم زيت : الثلاث ظهورات من تأليف وإخراج فادى جمال عطا الله الذي يعرض حياة فنان معاصر في ثمانية عشرة دقيقة وهى مدة عرض الفيلم ،ونرى فيه طفل يقابل فتاة توجهه نحو الرسم وتنكر انتماءه لمهنة والده المراكبي، بينما تظهر الفتاة مرة ثانية في شبابه وهى فترة أخرى يظهر فيها مدى صراعه بين ما نشأ عليه وبين رغبته وهنا تعيد الفتاة توجيهه نحو شغفه، بينما الظهور الثالث للفتاة يكون في سنواته الأخيرة وإحساسه باقتراب النهاية وهنا يعترف لها بأن اختياره لم يكن الأنسب له بالرغم من تحقيقه نجاحا كبيرا.

فيلم زيت يناقش فكرة الصراع الدائم بين العقل والعاطفة وضرورة الاختيار بين الراحة والسعادة، وهنا يستخدم عطا الله الرمزية تاركا لكل مشاهد مطلق الحرية في تحليل الفيلم وفقا لإيمانه وقناعاته ومن هنا وجب القول أن كل مشاهد قد يشعر وكأنه هذا الفنان الواقع في مأزق الاختيار وقد ساعد في إبراز هذه العواطف والأفكار بناء الفيلم الذي يشبه مراحل الحياة مع الموسيقى، والألوان وحتى ملامح الممثلين ولغتهم البسيطة غير المتكلفة .

فيلم زيت يعرض جانبا من فلسفة الحياة ويعبر عنه بمشكلة الاختيار فيظهر الصراع الداخلي للبطل بين السعادة / العاطفة / شغفه بالرسم المرموز لهم بالزيت وبين العقل / الراحة / البحر المرموز لهم بالماء، لا يدري بطل الفيلم أين يكمن الخير الأقصى له، هل في البحر والعمل كوالده المراكبي أم أن يتبع شغفه بالرسم، وهنا يقابل فتاة ذات ملامح غربية وشعر أسود ترتدي فستانا أبيض اللون فتمسح جبهته بالماء وتخبره بأنه ليس كوالده المراكبي، وتعطيه ورقة بيضاء ليرسم على كل حال. لا نعلم من تكون هذه الفتاة ولكنها تظهر في أوقاته الحرجة التي يبلغ صراعه فيها أقصاه، ومن هنا ترد فكرة أنها قد تكون فتاة مجازية وليست فتاة بالفعل، كناية عن بنات أفكاره كما نقول بالعامية وهذا يعني أنه من الوارد أن يكون جزءا من اللاوعي تجسد له. الفتاة هنا تشبه العقل الجمعي الذي يحمل الكثير من القيم والمبادئ والرموز المتفق عليها من جميع الثقافات فهى ذات ملامح غربية بسيطة مع شعر أسود مع فستان أبيض بسيط يعبر عن النقاء والبراءة والفستان هنا قد يعبر عن الأنا الأعلى ببرائته ومثاليته فهو يبحث دائما عن التوازن بين الرغبات والقيم، هذا التوازن الذي لم يصل إليه البطل .

مأساة أخرى في زيت وهى حياة الفنان وصراعه الدائم بين فنه وحياته فمن الممكن أن يتخلى كل فنان عن فنه ويعيش كباقي البشر ويعمل في وظيفة ذات عائد شهري ثابت بكل استقرار بلا أية مخاطرات كما يفضل السواد الأعظم من البشر أن يعيش ولكن الفنان كبطل زيت، يفضل دائما أن يكتفى بفنه ويرى أن الهامه هو المنقذ ويستسلم لتوجيهات الإلهام الخاص به يقينا منه أن الهامه مصدر سعادته. الفن هنا السبيل الوحيد للنجاة أو وسيلة جيدة للهروب من الصراع حتى وإن كان بشكل مؤقت.

أصل الأشياء، مشكلة أخرى معلنة في فيلم زيت فترتبط فكرة الحقيقة بأصل الأشياء ولذلك يبدأ الفيلم باقتباس عن طاليس "الماء هو المبدأ والأصل من الاشياء"، وبطل الفيلم هنا لديه مشكلة مع الماء فيظهر صراعه واضحا ويصر في النهاية على أن البحر كان فيه راحته بلا سعادة. الصراع الداخلي هنا نتج عن رغبة الفنان الدفينة في معرفة الحقيقة وفي الظهور الثالث يكشف على أن الحقيقة تقترن بالخبرة والاقتراب من النهاية ؛ وهنا يحضر التساؤل عن الخير الأقصى، هل هو الراحة أم السعادة؟ يرى معظم الفلاسفة أن أى عمل يحقق السعادة القصوى هو الخير الأسمى؛ ولكن على أرض الواقع نجد أفعال السعادة تكلفنا الكثير من الوقت والمجهود والمبادىء وأحيانا الأموال ولكن البطل فى الظهور الثالث يقر بأن الحقيقة كالنار فهى مريحة ولكنها مؤلمة مما قد يشير إلى أن السعادة هى الحقيقة، ولكنه مرة أخرى ينهى الفيلم ويقول " توعدينى أفهم؟ " فتبتسم الفتاة وتبدو الابتسامة واعدة ولكني أراها ماكرة، ومن هنا أؤكد على أن فكرة السعادة مضادة للراحة أحيانا فمن المفترض أن يكون بطل زيت عاش مخدوعا بوهم الفن طوال حياته وكان في المقابل انتزاع راحته وصراعه الدائم بين عقله وعاطفته، وقد يكون على النقيض وأن الفتاة تمثل العقل الجمعي الذي عاش خادعا السواد الأعظم من البشر مستمرا بايهامهم بفكرة الراحة وتحمل المسؤولية ومن هنا يشعر المشاهد لفيلم زيت بأن هذا الرسام يمثله، فقد يكون أنا، أنت، هو أو هى أو جميعنا .

لعل إشكالية أصل الأشياء في الفيلم تعود بنا إلى الدين وعلاقة الرجل والمرأة وقد نجح عطا الله في تسخير جميع عناصر الفيلم لجعلها تبدو كانعكاسا لصراع البطل مع الحقيقة وهنا نلاحظ فى الظهور الاول فكرة اللعنة التي ستصبها مريم العذراء على الطفل نتيجة هروبه من الكنيسة وتستمر فكرة اللعنة في الظهور الثاني حيث تلعنه إحدى العاملات بالجنس التي دفع لها مبلغا من المال مقابل أن يرسمها، ومرة أخرى قد تكون اللعنة هى فكرة الحقيقة فيشبهها في الظهور الثالث بالنار الحارقة ويظل البطل منجذبا نحو مأزق مستمر، ونرى اللعنة فى زيت دائما تأتى من النساء فيزعم والد الطفل في الظهور الاول أن مريم العذراء سوف تلعنه وفي الظهور الثاني نرى السيدة العاملة بالجنس تلعنه بالفعل وهنا إشارة معلنة عن دور المرأة الذي طوعه عطا الله فنحن لا نعرف عن علاقة البطل بالجنس الآخر فهل جعلهم جزءا من فنه أم مشكلة أصل الأشياء امتدت إلى المرأة ؟ المرأة بالطبع تمثل الأصل في معظم الثقافات تماما كالماء الذي يراه طاليس الأصل والمبدأ وذلك يبرر دائما سخط النساء عليه ، فعلى الأرجح لديهن مشكلات معه كما لديه مشكلات معهن.

بشرى
بنية الفيلم تشبه مراحل الحياة إلى حد كبير فهى تنقسم إلى ثلاث ظهورات للفتاة في حياة الفنان في مراحل الطفولة والشباب والشيخوخة واللون الغالب على الظهور الأول هو اللون الرمادي الذي يمثل بالنسبة لمعظمنا الحيادية مما يشير إلى سلبية الطفولة فهى فترة تتسم باستقبال الطفل أيا كان ما يتلقاه من أسرته وبيئته ومحيط تعليمه والظهور الثاني يغلب عليه اللون الأحمر الذي نعرفه بلون الحماس والطاقة المرتبطين لدينا بمرحلة الشباب التي تكسبنا الخبرات وفيها تكون صراعاتنا على أشدها، وفى هذا الظهور يتساءل الرسام " زيت ولا ماية " مما قد يوحى بأن التزعزع مستمر حتى في اختياره الرسم بألوان الزيت أم الألوان المائية ولكن الحقيقة أعم من ذلك، فصراعه بين الرسم والبحر لازال مستمرا ، كما يذكر في بداية الظهور أن رائحة الزيت تصيبه بالصداع من الأساس. الظهور الأخير يغلب عليه اللون الأخضر الذي يشير إلى تحقيق الأحلام وفيه يخبرنا البطل بتحقق أحلامه وأنه أصبح فنانا لامعا حصل على العديد من الجوائز ولكن مشكلته مع الحقيقة لازالت مستمرة. ولعلنا لاحظنا أن ملامح الرسام تتغير مع كل مرحلة من حياته ولكن ملامح الفتاة كما هى، شابة نقية، وهذا يعكس أن الطموح لا يهرم بمرور الوقت وأن لكل منا غاية أساسية وهى السعادة مهما تقلبت أفكارنا .

أثناء مشاهدتى لفيلم زيت لفت نظرى ديكور غرفة البطل في الظهور الثالث حيث اتسم بالبساطة والرقي، والبساطة هنا تفيد مرونة الأفكار فمشكلة البطل مشكلة سرمدية نقع فيها دائما في كل آن ومكان، كما أن ملامح الفنان محمد خيرى ملامح مصرية أصيلة بعيدة عن محاولات التجميل وبملامح خيرى وبساطة الديكور تجعلنا نسمع عطا الله يقول "هذا أنا وأنت وهى وبعد مليون عام سيكون آخرين مثلنا". أما الرقي فهو يعكس اللاوعى أيا كان الجزء الذي تؤمن به هنا ، فاللاوعى عموما يتسم بالرقي والبحث عن ما هو أفضل ويكون خزانا للقيم المرضية لنا ولمحيطنا. عودة إلى الظهور الثالث وديكور الغرفة نلاحظ لوحة رسم عليها سفينة تسير في البحر مما يعكس مرة أخرى الصراع الداخلي بين الزيت كالهامه والماء كوالده؛ أيضا اللوحة معلقة فوق شموع تبدو مثل الشموع في الكنيسة في بداية الظهور الاول مما يعكس تأثره ببعض التعاليم التي حرص والده على غرسها فيه مما يعود بأذهاننا مرة أخرى إلى السلبية، فالطفولة مرحلة سلبية وأن ارتقى الإنسان في المراحل التالية يظل بداخله بعض السلبية ويصعب عليه التخلص مما تلقاه ويتم اختزان بعض العناصر في عقله إلى باقي حياته، وهذا يعكس فكرة الاختيار مرة أخرى، فهل الإنسان في الأصل مسير كسفينة يحركها بحار أم هو مخير وقادر على التعايش مع الفن؟... بطلنا هنا لم يكن اختياره للفن مبني على أساس عقلاني بل كان أسيرا لعواطفه ورغبته في اتباع إلهامه المتجسد له. ولا نعلم أيضا، فمن الوارد أن يكون شغفه يتبعه وليس العكس. البساطة أيضا نلاحظها في لغة الممثلين، فالبطل يستخدم لغة سهلة يستطيع الجميع فهمها بوضوح فهو يكرر كلمات الماء والزيت دون الإشارة إلى صراعه بكلمات أخرى، كذلك في الظهور الأخير يستخدم التشبيه بدلا من الكناية ويقول بوضوح أن الحياة كالشمعة فكلما بقيت مشتعلة كلما اقتربت النهاية وأن الحقيقة كالنار فهي مضيئة ولكنها حارقة ومؤلمة. كذلك نرى الفتاة في الظهورات الثلاثة تستخدم جمل قصيرة واضحة مليئة بالمعاني والإلهام. شخصية السيدة في الظهور الثاني تبدو شخصية جافة بعض الشىء ولكنها تلاحظ انزعاج الرسام منها فتعتذر له في مشهد تخلله مشاعر دافئة وتستخدم في كل الحالات لغة بسيطة نسمعها في حياتنا اليومية. بساطة اللغة تعود بنا مرة أخرى إلى مرونة الأفكار فهذا الفنان قد يكون أنا، أنت، وهى ونحن.

وقع اختيار عطا الله على الملحن مارك ميلاد بشرى حيث قام بشرى بإنتاج موسيقى الفيلم وأستطيع القول بكل وضوح أن موسيقاه حقا تليق بزيت فعندما استمعت إلى موسيقى الفيلم لم تكن ذات احساس ولكن عند مشاهدة الفيلم شعرت وكأن الفيلم هو الهيكل والموسيقى روحه . الموسيقى تعكس الرقي الذي يستشعره المشاهد فيحثه على التفاعل حتى وإن لم يكن مدركا للمعاني، فلقد انتابني شعور بالموسيقى تأخذني من يدي إلى أعماق الفيلم. عودة إلى فكرة الرقي، موسيقى الفيلم اخذت بذهنى الى موسيقى بيتهوفن وموتسارت وهذا جعلني أفكر مليا في ضرورة الفن واستمراره حتى وإن استمر مع الالم مرة وفى دائرية الحياة مرة أخرى وكأن بشرى يردد ما يقوله عطا الله "هذا أنا، وأنت، وهو ونحن"

وأخيرا يجب تحليل الفن وإقرانه برقي الروح ويظهر ذلك في الظهورين الأول والثاني عندما بللت الفتاة أصبعها ودلكت جبهته قليلا ثم أخبرته بأنه رسام بالرغم من عدم معرفته الرسم، ومرة أخرى في الظهور الثاني تظهر الجبهة عندما يرى الفتاة في المرآة ويدلك جبهته عدة مرات ثم يبدأ الرسم وتظهر اللوحة في الظهور الثالث، فلقد رسم نفسه وليس أي شخص أخر، فهل لذلك دلالة؟... روحانيا، تعرف الجبهة بمنطقة العين الثالثة وهى ترمز إلى العوالم الداخلية واللاشعور وهنا في "زيت : الثلاث ظهورات" فالجبهة ترمز إلى التنوير والإبداع واستحضار أبعاد نفسية عميقة ومن هنا نستنتج أنه بالطبع قد تقابل مع تجسد اللاوعى لديه وقد نختلف على أي جزء من اللاوعي ولكن نتفق على ضرورة إحكام الاختيار ومعرفة الحكمة منه... مرة أخرى، هذا الرسام قد يكون أنا وأنت أو هو وبعد مليون عام سيصبح آخرين.




تعليقات