المومياء معجزة بديعة من معجزات الفن السابع.

  • نقد
  • 09:21 صباحًا - 8 سبتمبر 2018
  • 2 صورتين



في واحد من أعظم إنتاجات السينما المصرية على الاطلاق تتعامل الدراما مع الاسم على أنه محمل الهوية، تعطيه قيمة تفوق لفظه، فيصبح رمزًا للكرامة والكبرياء، وأما إذا فقد البشري اسمه، فبهذا يكون قد فقد كينونته، ضاع ماضيه، وهام في عناء دائم، فالاسم من يعيد القدماء إلى البعث، طريقهم الوحيد نحو الخلود، وإذا فقدوه، فلن تنادي الآلهة عليهم، ليصبحوا نسيًا منسيًا، فما قيمة الماضي إن تجاهله الحاضر، أو أعاقه من المثول أمام المستقبل.

هكذا تحركت دراما شادي عبد السلام تبث القيمة في الأسماء، وتعطي التحدث بها قدرة تعبيرية فائقة، فعندما تقول شخصية من شخصيات الفيلم عبارة "إني لا أعرف أسمًا لك" لشخصية أخرى نعى قيمة هذه الألفاظ ولو كان هذا الوعي غير مباشر، فنعرف أن الشخصية الأولى ترغب في إهانة الشخصية الثانية، بأن تقلل من قيمتها، أو تنزعها تمامًا منها، ثم تطردها من نطاق الرحمة والمحبة والرضا، شخصية لا تعرف أسمًا للشخصية الأخرى، أي أنها لا تعترف بها ولا ترضى عن سلوكها، وتأبى أن تتصل بها بأي صلة من صلات القرابة، مجرد عبارة بسيطة بسطت الطريق أمام معاني غنية، والسبب يكمن وراء بنيان درامي قوي ترك المجال أمام الألفاظ لتسكب معانيها ومشاعرها بمنتهى الإيجاز والفصاحة، دون الحاجة إلى السفسطة والثرثرة.

وإن كان للاسم مكانته الغالية في مومياء شادي عبد السلام فأولى بنا أن ننظر إلى اسم العمل ككل، الكلمات التي عنوَّنت الفيلم..المومياء :(يوم أن تحصى السنين)، لم يترك الاسم لكلمة المومياء فقط، لكنه أدخل العبارة الأخرى لتشاطرها العنوَّنة.."(يوم أن تحصى السنين)" ، اليوم الفارق في حيوات الكثير من الأشخاص، يوم يُحمل التاريخ على أكتاف الحاضر ليخرج إلى المستقبل، إلى الخلود، لقد بُعث القدماء حقًا للخلود، في سيمفونية الفينال المهيبة، لواحد من أروع نهايات السينما على الإطلاق، فتسلل تلك العبارة على الشاشة ككلمة النهاية الأقوىإنهض فلن تفنى، لقد نوديت باسمك، لقد بُعثت، إذًا تلك الليلة حُصِّي فيها تاريخ فسيح من السنين الممتدة في ماضي القدماء العظماء، فبعثوا من جديد، بعد ان تم إنقاذ جسمانهم العتيق من الجبل على يد (الأفنيدة)، غير أن تلك الليلة فقدت فيها قبيلة بأكملها مصدر عيشها بسبب هذا البعث العظيم والذي كان قائمًا بالأساس على سرقة الحُلي من جثثهم، كما تمكن "ونيس" -ابن كبير القبيلة- من أخذ خطوته المصيرية في حياة قبيلتة، يومًا واحدًا غيرَّ ماضي قاسي! ألا يحق لهذا اليوم أن يكون عنوان حكاية شادي، الذي استقر عليه أخيرًا بعدما كان قد قرر أن يسميه دفنوا ثانية أو ونيس.

الحكاية:

في صيف عام 1871 تكتشف أسرة "عبد الرسول" مقبرة مكدسة بالتوابيت الفرعونية، والتي تبين من سيماها أنها توابيت ملكية، ثم بدأت عملية السرقة والبيع، إلى أن لاحظت السلطات المحلية وجود بعض القطع الآثرية في السوق الأجنبية، فأنتهى الأمر بأكتشافهم المقبرة بعد اختلاف اللصوص فيما بينهم.

ألهمت القصة شادي عبد السلام، قرر أن يرويها على طريقته، بألوانه ورسومه ومناظره، ليهب البشرية لوحاتًا جديدة فوق إنتاجه الإبداعي الخالد، فمن البديهي ملاحظة أن المومياء حالة فنية فريدة تشكلت من عبق الفنون جميعًا، ففيها الأدب والموسيقى والرسم والنحت، وروح المسرح الحاضرة في تحريك الشخصيات، كما أن شادي سبق وذكر أن مادة السيناريو الأولى كانت أشبه بالشعر في تنظيمها عندما كانت الفكرة مضغة صغيرة في رحم أفكاره، وبدت رغبته في صناعة حلم سينمائي يشارف على الكمال، تتدفق فيه المعاني في ثنايا الحوار الخصب مع التتابعات المرئية الثرية، فصاغ السيناريو في افلاك الأفكار التي أنتابته، عن كرامة الإنسان وشموخ الماضي، فكانت شخصية "ونيس"، الأبن الأصغر لكبير العائلة، والذي يكتشف سرًا مفجعًا حول مصدر قوت يومه وحقيقة خبيثة عن أبيه، يسرقون الموتى ويأكلون من تلك السرقة، هكذا كان أبيه، لصًا كبيرًا يتزعم حفنة وضيعة من اللصوص، فتقع الحقيقة من نفسه موقع الفزع، كما وقعت من نفس أخيه الأكبر، إلا أنه يلتزم الصمت، أو يكتفي بالمراقبة الساكنة البعيدة، على عكس أخيه الكبير والذي يتعهد بتعرية الحقيقة، فتكن نهايته أن يسقط قتيلًا، أما "ونيس" فيُوضع تحت المراقبة الحازمة، كي يصبح مصير مثل مصير أخيه إن تحرك الحق في نفسه. في خضم هذا الصراع يُنسج الصراع النفسي بين ضلوع "ونيس" بأحترافية شديدة، فهو -كما ذكرنا أنفًا- يطَّلع على عالمه بمثل أطلاعنا نحو، أي أنه يراقبه من بعيد، دون أي تدخله، ودون حتى أن يشكِّل موقفًا مباشرًا من الأحداث والسلوكيات، فتتجلى حيرته في فيضانات من التساؤل ماهذا السر؟ العلم به ذنبٌ، والجهل به ذنبٌ أكبر، وفي حركته أيضًا داخل الكادر، وفي النظرة المنبثقة من عينيه العميقتين، فهو حاضر في الأحداث كرفيق رحلة هاديء، مراقب لا فاعل، يرى الأحداث من بعيد أو تمر به من قريب، لكنها بالكاد تمسه فتتخلله، وكأنه فاقد لتأثير المادة، ولكنه على الأقل يكن حاضرًا في النزاعات التحاورية، شاهدًا مثلًا على التناقض الذي صرحت به المناقشة بين أمه وأخيه الكبير، عندم أخبرته أن ثورته على أفعالهم ستقلق جسد أبيه في قبره، في حين ان أفعالهم التي ثار عليها -الأخ الكبير- ليست إلا اقلاق للموتى في قبورهم.

بعد أن تم إرساء حبكة الفيلم، وتقديم شخصياته وصراعهم، وتقديم "ونيس" وحيرته، تبدأ مرحلة التطور التدريجي للشخصيات، وهي تتمثل في جانبين: الجانب الأول هو التمادي في الرأي والمبالغة في التدقيق والأصرار عليه بعد تطور وتقدم حجج الاقتناع به وهذا ما ظهر في شخصيات (الأفندية) من ناحية وشخصيات العائلة من ناحية أخرى، أما الجانب الثاني فهو شخصية "ونيس" والذي يقرر أن يتحرك من صفوف المتفرجين إلى صفوف الفاعلين، فيذهب للأفندية ويخبرهم بمكان المقبرة، خطوة خطيرة ومصيرية، كان لابد من التمهيد الدرامي لها، والتوظيف الحواري للحظتها، لحظة الحقيقة الأخيرة، والتي تندفع بين سؤال مخيف...تضحي بقوت يومك من أجل صيانة كرامة التاريخ، حُرمة الموت؟

في أطوار التمهيد مرَّ ونيس بوقائع اكتشاف الحقيقة والأعاجيب، فلمسه شعور الفخر والتباهي بآصالة الماضي وعظمة القدماء، إلى جانب تأنيب الضمير الملازم له منذ خلعت قبيلته أسرارها، فراح ينظر للعيون التي تحتشد نظراتها من التماثيل العريقة، يندفع برفق في العالم الموحش الذي تبدَّل من أمامه بعد أن كان طيبًا، يفر من ذنب والده ويبكي عليه في نفسه كما بكى عليه لوفاته، روحًه تائهة وسط الصمت والسكون الغريب، كان يلقى الزهور البنفسجية على قبر والده، ثم يتحرك وسط الحشود السوداء من أبناء قبيلته، لوحات شادي عبد السلام تثير صراعه النفسي بداخلنا، فنلمسه ويدركنا بتمهل مع الايقاع الهاديء، وتعابير أحمد مرعي الرزينة، وحركاته المسحرية المتناغمة مع حركات باقي الشخوص، مضمار تجسيدي عظيم، تتبارى فيه سيمولوجيا الوجوه والأجساد، وتتبارز فيه الخطابات الحوارية البليغة، أمام عدسات عبد العزيز فهمي. أنه فيلمًا عامًا عن الإنسان، إلا أنه ينطلق من أبواب مصرية أصيلة، يتبرج بمحليته على المسارح العالمية، لكن نفحاته شمولية وزاخرة، تشحذ عنفوانها من التراث الإنساني ككل، حتى وإن كانت قصة عن الأجداد المصريين، بيد أن اللغة (الفصحى) التي تحدث بها الفيلم مزجت بين العربية المترجمة من النصوص الفرعونية، وبين لغة (أفندية) العاصمة، وأهل القبيلة، لسان إنساني واحد، بلغته الأم التي حُرِّفت إلى لكنات عديدة في شتى الثقافات، يحتفظ بهذه اللغة الأم، لنراهم جميعًا يتحدثون نفس اللغة الواحدة، ويستعرضون بها عبارتهم المتضادة..المومياء معجزة بديعة من معجزات الفن السابع.


وصلات



تعليقات