يوم الدين.. من حقك أن تعيش سعيدًا مهما كنت مختلف

  • نقد
  • 11:56 صباحًا - 21 سبتمبر 2018
  • 1 صورة



في فيلم "بن هور" Ben Hur الذي تم إنتاجه في عام 1959، وتدور أحداثه في السنوات التي سبقت صلب المسيح عليه السلام، عاد الأمير اليهودي بعد سنوات قضاها في الأسر، ليفاجأ بإختفاء والدته وشقيقته، وبالبحث عنهما يكتشف أنهما تختبئان في كهف بعيدًا عن الأنظار بعد أن أصيبتا بمرض الجذام اللعين، الذي أضاع معالم وجهيهما وأفسد حركة الأطراف، وحول كل منهما إلى كائن مخيف يخشى أقرب الأقربين الإقتراب منه، وفي مشاهد مؤثرة كان "بن هور" أو شارلتون هيوستون يقف بعيدًا ويخشى أن يقترب منهما، حتى لا يصاب بالمرض الخطير الذي كان مثل وحش خبيث يعبث بضحاياه ويفسد حياتهم دون أن يقضي عليهم، ولكن يترك على وجوههم وأجسادهم آثاره المدمرة! وعلم بن هور أن هناك رجلًا صالحًا ظهر في مدينة الناصرة، يدعى يسوع وأنه يأتي بمعجزات يتحدث عنها أهل المدينة، فهو يعيد الموتى للحياة ويشفي الأبرص والمجذوم بإذن الله.

ولكن "بشاي" بطل فيلم "يوم الدين" أتى للحياة بعد إنتهاء زمن المعجزات بأكثر من ألفي عام، فلم يجد من يشفيه من المرض اللعين، الذي أصابه في سنوات طفولته، فإغتالها وحرمه من أي نظرة عطف أو شفقة، فكل من كان ينظر إلى وجهه يصيبه الرعب، فحمله والده وسافر به من مدينة قنا بصعيد مصر، وتركه على باب مستعمرة الجذام بمنطقة أبو زعبل بالقاهرة، مع وعد أن يعود ليصطحبه إلى منزل الأسرة بالصعيد عندما يشفى، ولكن الأب كان يعلم أن مرض الجذام ليس منه شفاء فلم يعد مرة ثانية.

فيلم "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي شارك في المسابقه الرسمية لمهرجان كان السينمائي، وتم إختياره ليمثل مصر في أوسكار أفضل فيلم غير ناطق باللغه الإنجليزية، ويشارك في مسابقة مهرجان الجونة في دورته الثانية.

في الدراما الأرسطية يخرج البطل التراجيدى باحثًا عن حقيقة ما، أو هاربًا من مصير ما، أما بشاي بطل "يوم الدين" أو راضي جمال فهو يقوم برحلة بحث عن أهله، بعد أن فقد زوجته، وأدرك أن لا شيء يربطه في القاهرة، ولا بالدنيا، فهو يهرب من شعوره المخيف بأنه لا شيء على الإطلاق، وكأنه لم يكن، فهو يعيش وسط أكوام القمامة بعد خروجه من المستعمرة، ويكتشف أنه دخلها بدون أوراق رسمية، فلم يهتم والده بتسجيل تاريخ دخوله أو أي بيانات دالة عليه، بل أنه قذف به أمام باب المستعمرة، وكأنه كومة زبالة يتخلص منها، بشاي لا يملك إلا عربة كارو يجرها حماره "حربي" الذي يعتبره صديقه الوحيد، وينضم له الطفل اليتيم أوباما، أو أحمد عبدالحافظ، في رحله إلى جنوب مصر، وبالذات محافظة قنا، ليبحث عن أهله.

ربما تكون المرة الأولى التي يواجه فيها بشاي العالم الخارجي الحقيقي، يعلم أن الناس سوف يفزعون لرؤيته، فيمنحهم العذر دون أن يملأ صدره المرارة على ما أصابه، السيناريو لا يتعامل برثاء مع بشاي، ولكنه يمنحه روح متسامحة مغلفة بقدرة على السخرية، يعرف أنه يحمل كل اسباب النفور في مجتمع يكره المختلفين، عقائديًا أو فكريًا أو شكليًا، وهو يجمع كل تلك العناصر، ومع ذلك يجد أحيانًا من يساعده، وأحيانًا يضطر لأن يخفي حقيقة ديانته حتى لا يزيد الأمر سوءًا، ويساعده صديقه الطفل أوباما أن يخفى وجهه الذي يسبب إزعاجًا لكل من ينظر إليه، بأن يصنع له برنيطة يتدلى منها غلالة قماش تجعل ملامحه غير مرئية!

الحوار في الفيلم قليل نسبيًا، يقدم المعلومة بدون إسهاب، ويعبر عما يدور في خلد الشخصيات، دون ثرثرة، ويغلب عليه السخرية بدون أسى ولا حسرة، فرغم كل ما يعانيه بشاي وصديقه أوباما إلا أنه يحمل روحًا راضية، أو إيمانًا بأن الله سوف يعوضه في يوم الدين "يوم القيامة" حيث يبدل وجهه القبيح بآخر مقبول، وسوف يلتقي بزوجته الراحلة وحماره حربي الذي لفظ أنفاسه في الطريق، ويعود إلى حضن عائلته التي أنكرته بعد أن أصابه المرض.

في يوم الدين لن يًظلم أحدًا، ولن يتعرض إنسان أو حيوان للاضطهاد أوالكراهية.

الرحلة من القاهرة إلى قنا تمر بتفاصيل كثيرة وشخصيات متنوعة، أهمها مجموعة الشحاذين، وينتقل بشاي مع الطفل أوباما بعدة أزمات ومغامرات تزيدهما إرتباطًا، تحملهما عربة كارو يجرها حمار عجوز متهالك، ثم قطار ومعدية نيلية ونوعيات متنوعة من وسائل الإنتقال تحملهما من مكان لآخر، ولا تدري أن كانت تقربهما من الهدف من الرحلة، أو تبعدهما عنه؟

مدير التصوير فيديريكو سيسكا اهتم باللقطات العامة، التي تجعل بشاي يبدو أحيانًا ضئيلًا في عالم متسع بلا نهاية يكاد يبتلعه، واقتصد كثيرًا في اللقطات القريبة من وجهه بقدر الامكان، غني عن الذكر استعانة المخرج أبو بكر شوقي بممثل غير محترف، وهو فعلًا من ضحايا مرض الجذام، ومع ذلك فقد إمتاز أداء "راضى جمال" بالعفوية رغم أنه يقف لأول مرة أمام الكاميرا، وكذلك الطفل أحمد عبدالحافظ الذي لعب شخصية أوباما، اهتم المخرج أن يجعل الصورة تشرح ما يدور في عقل الشخصيات بدلًا من الكلام في كثير من الأحيان، فعندما يصل بشاي وأوباما إلى قنا، يتردد الأول كثيرًا في البحث عن أهله ويتلكأ وكأنه يخشى مواجهة الموقف ويجبُن أن يسأل عن أسرته خوفًا من أن يقابل بالرفض والنفور والإهانة، أما أوباما فهو رغم اندفاعه احيانًا إلا أنه يرفض أن يعرف أي معلومات عن أسرته وأهله، ويفضل أن يعتقد أنه يتيم، وأن والديه قد توفيا بدلًا من أن تكون الحقيقة غير ذلك!

يبتعد أسلوب المخرج عن الميلودراما تمامًا رغم أن الموضوع يسمح بذلك ولكنه لا يهتم بأن يستدر عطف المتفرج، وبدلًا من ذلك يجعله طرفًا ثالثًا في الرحلة، يعنيه مصائر أبطال الفيلم ولا يكتفي بالفرجة والتأسي أو مصمصة الشفاه.

موسيقى عمر فاضل من أهم عناصر الإبداع في الفيلم، وهى تكمل الصورة، وتعبر عن دخيلة الأبطال، تهمس أحيانًا فلا تكاد تشعر بوجودها وتتصاعد أحيانًا وكأنها تعبر عن مشاعر شجن أو ألم، ولكنه الألم الذي يمنح الإنسان القدرة على التحدي والتحمل بدون إستكانة.



تعليقات