فعاليّة شاهين: الناصر صلاح الدين.. ملحمة شاهين الأعظم

  • نقد
  • 03:32 مساءً - 24 سبتمبر 2018
  • 2 صورتين



هذه المقالة تحتوي على حرق لبعض الأحداث

"ملحمة شاهين الأعظم"، هكذا تتردد الأقاويل على فيلم الحالة الخاصة لـيوسف شاهين، الذي قيل أنه كان السبب في خراب شركة إنتاج "آسيا داغر" (واحدة من رواد الإنتاج السينمائي في مصر)، كما قيل أنه كان قد ترشح للأوسكار، وأمورٌ أخرى مبهمة.

لكن، هل هو فعلًا كذلك؟، هل هو أفضل في جانبه الحربي من "الوداع يا بونابرت"، مثلًا؟.. إليكُم الحكاية.

المرة الأولى التي شاهدت فيها الفيلم كاملًا منذ مشهده الافتتاحي حتى الختامي كان منذ حوالي سنةً ونصف. حينها اعتبرت الفيلم هو أفضل أفلام شاهين وانبهرت تمامًا به. أكثر ما سحرني به حينها هو "أجوائه" العربية القويّة التي جعلتني متسمّر أمامهُ طيلة الساعات الثلاث؛ فأجوائه اعتبرتها مختلفة للغاية عن أي شيءٍ شاهدته مُسبقًا، واستثنائية، وذات وقع مؤثر وسهل التواصل معه، ووضعته جنبًا إلى جنب مع فيلم شادي عبدالسلام الأيقوني "الـمـومـيـاء"" الذي أُنتِجَ بعد ست سنوات من صناعة هذا الفيلم، ليكونا أهم فيلمين مِصريين استُخدِما فيهما لهجةً عربيةً فُصحى طوال مدتهُما، لذا فهم رغم مصريّة جنسيتهُما، إلا أنهما أقرب للبقعة العربيّة مِنها إلى موطنهما المحلي، وهذا سببه ليس اللغة فقط، وإنما مواضيعهما أيضًا التي تتحدث عن أشياءٌ كالهويّة والاعتزاز بالوطن وما شابه.

أما في المُشاهدة الثانية (الكاملة، لأني شاهدته أكثر من مرة بشكلٍ متقطّع) منذ بضعة أيامٍ مضت، فقد تغيّرت الأمور قليلًا، ربما الشاشة الكبيرة لقاعة السينما كان لها دورٌ في ذلك!.. لا، بل تجربة مُشاهدته وسط جمهور غفير هي من كانت؛ فالفيلم لاحظتُ أنه يعجّ بالمواقف الهيستيرية التي لا ينبغي أن تكون كذلك. وما سبّب هذا الأمر أنّ بعض شخصيات الفيلم مقصودٌ أن تتميز بنوعٌ من المبالغة في التعبير (في الشعور، وفي التأثُّر) التي بانَت لي كافتعال، إضافةً أن المُباشرة -المقصودة أيضًا- في عدة مواقف، والتي كان الهدف منها توضيح كل جنبات القصة، أضافت شيئًا من الافتعال وأحيانًا السذاجة.

أتذكر مثلًا الجملة التي قالها "الدوق أرثر" (زكي طليمات) لڤيرچينيا (ليلى فوزي) قرب نهاية الفيلم؛ "ڤيرچينيا، جميلة الجميلات، وجهها تُشوهه النار؟"، كأنه يُبلّغنا -نحن المُشاهدين- أنه يتعجّب ويتسائل!، كان فقط من الأفضل أن يقع من طوله ويطُبّ ساكتًا لينقلب المشهد كوميدي تمامًا!

هذا هو مأخذي الوحيد تقريبًا على الفيلم في تجربة مُشاهدته الثانية، فعِلمي المُسبق بالقصة ربما جعلني أهتم بأشياء أخرى مثل مُسببات ميلودرامية بعض المشاهد (تقريبًا معظم المشاهد التي ظهر فيها زكي طليمات)، لكن غير هذا الفيلم كان ابهارًا مجددًا عليّ من خلال عناصره السينمائية المختلفة، وأوّلها هو شريط الصوت الرائع للغاية من مؤلف الموسيقى الإيطالي "أنچيلو لاڤانينو".


نقاط تميُّز لا جِدال فيها..

أولًا التمثيل الهائل على معظم طاقم العمل وبالأخص على "حمدي غيث" في دور ريتشارد قلب الأسد و"أحمد مظهر" في دور صلاح الدين التي تبدو شخصيته كما لو فُصّلت عليه. وثانيًا، الموسيقى الخلابة التي صنعها "لاڤانينو" وهي تُكسب للفيلم روحه الإسلامية وجماله ورونقه الخاص، في قصةٍ يملؤها معانٍ عن الوطنية والعروبة والخير والحق والكرم والشجاعة والمُسامحة والنصر.. وبالتأكيد ثالثًا، المونتاچ المُتقَن من "رشيدة عبدالسلام" التي أخرجت هُنا جلّ إبداعاتها الفنية مع "چو"؛ فما بين السرد المتوازي بالقَطع بين حدثين آنيين، أو الذوبان (الـ Dissolve) المستخدم بكثافة في المشاهد الانتقالية المعبّرة عن مرور الوقت، أو النمط الأفضل المقدم هنا وهو القطع المتطابق (Match Cut) الذي حدث في أكثر من مرة بالفيلم، ربما أفضلهم في الدقيقة السابعة من العمل في لحظة ظهور عنوان الفيلم/اسم الشخصية البَطَلة، والمشهد الرائع الآخر لهجوم الصليبيين على المسلمين وظهور لقطات من الأمواج الزرقاء في نفس لحظة الهجوم إشارةً أن الهجوم أشبه بقوّة الأمواج المتضاربة التي لا ترحم، ولاحظ هُنا في هذا المشهد تقسيم الصليبيين ما بين الأحمر والأزرق، والفريق الأزرق هو من كان يهجُم في اللحظة المقصودة. أيضًا استخدامه العبقري للإضاءة والمونتاچ في مشهد (المـسـرح) قرب النصف ساعة الأخيرة، ليُكوّن معنىً سيكولوچيًا خاصًا يحمله المشهد.

قد يُعاب على الفيلم طول مدته، خاصةً أن الأحداث لا تتطور أو تتغيّر كثيرًا بالاتجاه الرأسي للدراما من بعد مجيء "ريتشارد قلب الأسد" إلى طيبة، قدر ما تحكي قصصًا فرعية وتهتم برسم أبعاد مكان وزمان الحكاية، وسرد تفاصيل التفاصيل.

إن شاهدت هذا الفيلم، وبعدهُ شاهدت (الوداع يا بونابرت) الذي اخرجه شاهين عام ۱۹۸٥ ستلاحِظ مدى ضعف إنتاج فيلم صلاح الدين مُقارنةً به، حيث قام شاهين في هذا الفيلم بخداع المُشاهد بشكلٍ عبقري حتى يظنّ أن هناك مشاهد قتالية كاملة قُدّمت حقًا أمام عدسة الكاميرا، بينما هي في الحقيقة ألاعيب حركة ممثلين وتمركزهم، والمونتاچ بالتأكيد الذي كان محوريًا في خلق هذا الـ"إيهام" للفيلم؛ لأن كثيرًا من المَشاهد لا يظهر فيها عدد هائل من البشر (كما يفترض أنه موجود) أو يُستخدم فيها لقطات طولية، وإنما هي لُعبة الإيهام التي تُرينا معركةً كاملةً عبر نتائجها (كوَمَضات على وجوه القتلى مثلًا) لا عبر قيامها بجبروتها أمامُنا.. ونحن نوهَم تمامًا بهذا.

شــاهين... المُفكّر

تزييف للحقائق.. حقًا!؟

لا أعلم لماذا تتعامل الناس مع الأفلام باعتبارها أداة توثيق ونقل حرفي للأحداث الحقيقية. شاهين هُنا -وكما في معظم أفلامه بالمُناسبة- لا يقصد أي نوع من التوثيق للأحداث، وهذا واضح للعيان. لكن كثير من البشر يلومون الفيلم بأنه مُزيّف للحقائق الحاصلة لصلاح الدين ومعاركه (الذي كان كُردي أصلًا لا عربيّ!)، كأن المقصود هُنا أن يُشاهِد الفيلم طلبة السنة الخامسة الابتدائية في حصة التاريخ، ولا أحد سواهُم !

كل هذا مقصود، بل أنّ شاهين يستخف بفكرة "التوثيق" ذاتها عندما يضع نسرًا كالنسر الذي يتوسط العلم المِصري، وراء شخصية "صلاح الدين" في بيته عندما تركز عليه الكاميرا وهو يتحدث!.. السينما تهتم بالحكاية/القصة/الموضوع الذي سيحدد كل شيء فيها بعدًا، أو أن يكون وراء الفيلم مخرج مثل "يوسف شاهين" يريد حكي قصةً ما في خلفيةٍ تاريخيةٍ، فيُلبس قصته الزي التاريخي حتى يُبعد نفسه عن التساؤلات والمُباشرات.

الأمر مستفز للغاية عندما تقرأ تعليقات نسخة الفيلم الموضوعة على اليوتيوب مثلًا، والذين تعدوا "منتقدو الفيلم" مرحلة ذكر أن الوقائع هُنا "خاطئة" و"مُزيّفة"، إلى التأويل ووضع النظريات حول لماذا قد يُقّدم عملًا مصريًا كاذبًا كهذا من الأساس!. فلِما عزيزي المُشاهد العربي لا تُجهِد نفسك قليلًا بالقراءة عن (وسيط السينما) أصلًا؛ ستجد أحد تعريفاته فيها عبارة قصصًا خياليةً تُحكى ما دُمنا نتحدث عن الروائيات لا التسجيليّات.. صعب للغاية الموضوع، صح؟

.. .. ..

يُذكَر أن نسخة الفيلم التي عرضت في اليوم الثامن من "فعاليّة النسخ المُرمَّمة لأفلام يوسف شاهين" (الأربعاء ۱۹ سبتمبر) كانت نُسخةً أقل بكثير من جودة بقيّة الأفلام المعروضة، وقد صرّحت "ماريان خوري" في وقتٍ سابق أن هذه النسخة هي نسخة "مؤقتة" وربما "غير مكتملة" نظرًا لأن السينماتِك الفرنسي -الذي قام بترميم عشرةً من العشرون فيلم المعروض بالفعالية- طلب بترميم الفيلم (لمكانته التاريخية والثقافية الكبيرة) بشكل أكثر كفاءة واحترافية من النسخة التي تمّت هُنا بمصر. والنسخة التي رآها الجمهور هي قيد تحسيناتٍ كثيرة مُنتَظرة منها في قادم المُناسبات.




تعليقات