فعاليّة شاهين: صراعيّ الـ"وادي" والـ"ميناء".. معالجتان مختلفتان لقصة واحدة

  • نقد
  • 12:15 مساءً - 3 اكتوبر 2018
  • 1 صورة



في صباح اليوم اﻷخير من فعالية "النسخ الشاهينية المرمَّمة"، عرض فيلم صراع في الوادي (۱۹٥٤)، وفي أُمسية يومه السابق صراع في الميناء (۱۹٥٦)، ويعتبر الكثيرون الفيلمين هم أهم أفلام يوسف شاهين الفنيّة، قبل صناعته للفيلم الذي غيّر دفة مسيرته الفنيّة كمخرج وصناع أفلام "باب الحديد" (۱۹٥۸).. ورغم أن الفيلمان في النظرة اﻷوّلية لهُما -بقراءة ملخص قصصهما- هم متقاربان إلى حدٍ كبير، إلا أن الاختلافات بينهما كثيرة. صحيح أننا نتحدث عن الصراع الطبقي اﻷزلي في المجتمعات، وصحيح أن هناك (جريمة قتل) تحرّك اﻷحداث هنا وهناك، إلا أن صراع عن صراع يختلف.

بالنسبة لي، صراع في الميناء/الفيلم الثاني هو الفيلم اﻷقوى واﻷكثر تميزًا، ليس فقط ﻷنه اﻷكثر نضجًا من حيث القصة التي تبدو قد تحررت من نقاط سلبية بالفيلم اﻷول سأتناولها بشيء من التفصيل في قادم الكلمات، لكن أيضًا ﻷنه اﻷكثر صعوبة في التصوير باختيار استخدام اللقطات الطولية (One Shots) في المشاهد الحوارية التي تنفعل بها الشخصيات (هناك لقطة طولية في هذا الفيلم تبدأ في الساعة والثالثة عشر دقيقة، وتستغرق ۱٥۹ ثانيةً هي من أفضل اللقطات الطولية التي رأيتها في أفلام السينما المصرية)، إضافةً لطبيعة البحر ذاته الذي من المؤكد أن تصوير مشاهد داخل محيطه تكون أخطر وأكثر صعوبة (أقول فقط أنه عامل إضافي يُصعب من مهام رحلة تصوير الفيلم، لا أنّ شيئًا كهذا له اهتمام بعيد عن سياق استخدامه في الحكاية).

. . . .

صراع في الوادي يتحدث عن قرية بجنوب الوادي يأمل أهلها يومًا ما بإنتاج قصب يقارع قصب الباشا الملك، ويفوز بالمركز اﻷول في الجودة، وهذا شيء تقوم بفعله شركة القصب سنويًا (تصنيف وقياس جودة المحاصيل)، وبمقتضى ذلك تقوم بشراء كل إنتاج القصب أوّل الجودة في حين أن صاحب المركز الثاني أو الثالث يلقى مكانةً أقل. وعندما يحدث للقرية أن يفوز قصبها، وتتحول أجواءها لعيد من شدة فرحها، يقوم الباشا بعَمَل حيلة ﻹيقاع أهل القرية ببعضهم حتى يُفشل نجاحهم الزراعي ويُفسِد محصولهم، وتركز القصة على الشخصيتين "أحمد" و"آمال" (عمر الشريف وفاتن حمامة)، ابن العائلة الفقيرة من هنا، وابنة الباشا من هناك، اللذان يجمعهما علاقة غرامية نتيجة صداقتهُما منذ الصغر. لنرى كيف سيواجه "أحمد" متاعب الباشا وصاحبهُ الدنيء "رياض" (فريد شوقي) الذي يستغل مطالب الباشا طمعًا في ابنته، خاصةً عندما يُقتَل أبو "أحمد" نتيجةً عن هذا التلاعب.

بينما قصة صراع في الميناء مختلفة قليلًا، فهي تبدأ بعودة الابن الضال "رجب" إلى الميناء المكان الذي عاش وتعلم وتربى فيه، يعود بعد ثلاث سنوات قضاها بعيدًا عنه متنقلًا في البواخر حتى يوفر المال له وﻷمه. وحين يرجع موطنه يجد الكثير من التغيُّرات طرأت عن الميناء عما اعتاد عليه حينما هاجر، أول هذه اﻷشياء هي "حميدة" ابنه خالته التي سافر أصلًا لها، حتى يجمع ما هو مناسب لزواجها، فهو يجدها أكثر جمالًا، ويجد نفسه تتملكه الغيرة عليها من أهل الميناء. واﻷمور تنفجر في وجههُ عندما يعلم أن صديقه المُقرّب "ممدوح" (أحمد رمزي) قد استغل غيابه ليتقرّب منها وليسمح لنفسه بالوقوع في غرامها. اﻷمر الذي يجعل "رجب" في قمة غضبه وعنفوانه ﻷنه لا يتصوّر أن يتجوز شخصٌ ما ابنه خالته سواه.

الصراع، أيّة صراع نتحدث عنه هنا؟

الفكرة أو التيمة الرئيسية في الفيلمين هو صراع الطبقات، وهي من أشهر التيمات التي تناولتها السينما المصرية، وغير المصرية. والصراع هنا يأخذ عدة أشكال يتعدى بها المفهوم اﻷوّلي الدارج لصراع الطبقة الغنية والفقيرة (صراع من يملك المال، ومن يتمنى امتلاكه)، فهُناك -في "صراع في الميناء"- صراع فكري بين شخصية "حميدة" وذاتها في الاستماع لمناداة "ممدوح" الغرامية لها، كأنّها تتسائل هل يستلزم عليّ العيش والجواز من شخص من طبقتي، ولا ممكن أبص لفوق؟ تقول لها أمها "لو كنتي ناوية تبصي علّيوي، يبقى عليه العوض فيكي وفي تربيتي ليكي، ده اللي يبُص لفوق تتعوج رقبته، جرالِك ايه، فوقي لنفسك". هناك صراع عاطفي بين "رجب" و"ممدوح" في الفوز بقلب الفتاة التي يتشاجران عليها. هُناك صراع "فعلي" يحدث بين عمال الميناء وبين مالك الشركة. أما في "صراع في الوادي"، ففكرة الصراع هُنا واضحة للعيان بين الشاب المنحدر من عائلة فقيرة والفتاة بنت الباشا، صراع في جوّانياته بين التقاليد التي تربى عليها (اﻷخذ بالثأر، الابتعاد عن عائلة الظالمين)، وبين الحب الذي يغيّر العادات ويُحرّك العواطف فيه، ربما لهذا السبب قَصَد شاهين أن يميل ناحية الميلودرامية المُطلقة في نهاية أحداث هذا الفيلم حينما يقوم "عمر الشريف" بعمل مشهده الشهير بالبُكاء مع وجود موسيقى ميلودرامية حادّة تعلو فجأةً، وهذا قد يكون أمر منطقي لمن يُتابع اﻷفلام المصرية القديمة التي أخدت الكثير من المسرح وأصبح معظمها يميل لميلودرامية اﻷداء، والقصص ذاتها.

الاختلافات..

أما الاختلافات، أو باﻷحرى نقاط تميُّز كل فيلم عن اﻵخر هي في العلاقة بين شخصيات الفيلم والقصة، فنجد في "الوادي" أن القصة هي ما تُحرّك الشخصيات؛ فتبدأ القصة على لسان "أحمد" الذي يحكي رغبة أهل القرية ومُناهم أن يومًا ما، حلمهم يتحقق بأن يصل قصبهم للمستوى اﻷول. والقصة بذلك هي ما تفرد أجنحتها على العمل، أو باﻷصح هي ما تريد حكي نفسها.. وشخصيات الفيلم تقوم بالتحريك وفقًا لهذه القصة. بينما في "الميناء"، الشخصيات هي كل شيء؛ فالشخصيتين التي جسدهما "عمر الشريف" و"فاتن حمامة" تمتلكان كاريزما خاصة، وطابع فعلي وشعوري خاص، وهذا يتضح على أدائهم الشعبي المنفتح الذي يغلب عليه اﻷريحيّة والـ"انفعالية" حين يغضبوا. ونحن نتابع القصة من واقع متابعتنا لهاتان الشخصيتان وما تفعلانه (وعلاقتهما ببعض)، أي أن القصة تحكي عنهما باﻷساس، عن صراعهما "الغرامي" لا عن صراع جمعي يشترك فيه كل أهل الميناء كما حدث في الفيلم اﻷول، هذا على الرغم من محاولة القصة المزج بين قصة الثنائي هذا من ناحية، وقصة معاناة أهل الميناء ورغبتهم بتحسن اﻷوضاع وربما التمرُّد على مديرهم من ناحية أخرى، التي تبدو هنا مُشابهةً لبعض تفاصيل القصة بفيلم إيليا كازان الشهير (On the Waterfront) الصادر قبل سنتين من إنتاج "صراع في الميناء".

لذا، ففي "الميناء" الفيلم أمتع وأكثر إثارة ﻷن التورّط مع الشخصيات حاصل بقوّة على عكس القصة التقليدية الشهيرة في "الوادي" عن صراع الطبقات والتعدي على القانون من الطبقات العليا بدافع الطمع والجشع على حساب الطبقات الدنيا، ومن هُنا تكمن قوة "صراع في الميناء"؛ أنه فيلم يمكن التواصل معه بسهولة في أي وقت ﻷن صراعاته بين "الشخصيات"، ويُمكنها الحدوث في أي وقت وفي أي بقعة مكانية بالعالَم. بينما قد يجد البعض "صراع في الوادي" أنه لا يُشاهد أكثر من مرة أو مرّتين، رغم أنهما ستكونان مرتين رائعتين ﻷن الفيلم قوي للغاية.

أبرز تلك الاختلافات بين الفيلمين يمكن في طبيعة الشخصيتين البطلتين المختلفتان قلبًا وقالبًا عن بعض. فعمر الشريف وفاتن حمامة استطاعا تغيير جلدهُما والانتقال من شخصية ﻷخرى في مدة قليلة بين الفيلمين.

. . . .

أما بذكري في وقت سابق في المقالة عن النقاط السلبية الحاصلة في "الوادي" والتي استطاع "الميناء" تجاوزها، فهي أن ثنائية الفقر/الغنى (التي هي قوام الحكايتين) تأخذ عدة معاني في قصة "الميناء"، بينما تتسم بالنمطيّة والبُعد الواحد في "الوادي"؛ فـ"رجب" في "الميناء" كان يؤمن أن عزة النفس والشرف والكرامة هو الغنى الحقيقي، لذلك القصة لا تتطرّق ﻷي جوانب ماديّة حينما يتصارع مع "ممدوح" (رغم أنه صراع ماديّ باﻷساس)، فالشخصية هُنا تعطي معنى وبُعد إضافي لمصطلح (الغنى) بالقصة، بينما هي في "صراع في الوادي" لا تتعدى مجرد الصراع الطبقي المعروف للجميع، لذا، بضعة تفصيلات في القصة كانت أكثر ذكاءً في أن تستحوذ على اهتمام المُشاهد في الفيلم الثاني عنها في الفيلم اﻷول. ويجب اﻹشارة هُنا أن "صراع في الميناء" قام بتأليفه أربعة أشخاص من بينهم "شاهين" ذاته، بينما "الوادي" ألّفه شخصان فقط، هم "علي الزرقاني" و"حلمي حليم".

سواءً أحببت صراع الميناء أكثر أم الوادي، لا يمكن اﻹنكار أن الفيلمان يتمتعان بنقاط قوة عديدة تجعلهما من أفضل اﻷفلام التي ناقشت فكرة صراع الطبقات في السينما المصرية، مع أفلام مثل "رد قلبي"، "اﻷسطى حسن"، "حتى لا يطير الدخان"، وبالتأكيد رائعة صلاح أبو سيف "بداية ونهاية".



تعليقات