"سارقو المتاجر"، والشك في الرابطة المقدسة!

  • نقد
  • 03:53 مساءً - 25 اكتوبر 2018
  • 1 صورة



في الفيلم الحائز على جائزة السعفة الذهبية هذا العام، نتابع دراما في كامل نضجها وحيويتها وواقعيتها، فرغم بساطة التجربة والأدوات السينمائية، إلا أننا نمثل أمام صورة سينمائية مختلفة، لوحة درامية دون مغالاة وعاطفية دون تكلف، تجسد معالجة رزينة جدًا، تتبنى صراع غني جدًا.

والسبب الذي يجعل التجربة بسيطة، هو انحصار أولويتها في تحقيق حالة شعورية، دون بذخ بصري أو أي تكلف في الصناعة السينمائية. الهدف الخالص هو تصوير المشاعر وعرضها، بيد أن هذه المشاعر ليست محضة، بل هي هجينة ومختلطة ومشتتة إلى أقصى حد، سعادة مكسوة بقلق بسيط، أو خوف يقاومه، أو حتى انزعاج ممزوج بنشوة فرح كالشعور الذي ينتابك عندما يمازحك أحد مزاحًا فيه اشتباك جسدي مثلًا ..الخ

وعلى هذا فكل عناصر الفيلم -البسيطة- كانت تتضافر من أجل تحقيق كل حالة في كل مشهد، في سبيل تنصيب الأجواء المناسبة، والصادقة جدا، والمعبرة جدا، عن الصراعات والاضطرابات الداخلية، والتطورات النفسية والسلوكية، والتساؤلات الجمة، والمعضلات الاخلاقية، والتركيبات الاجتماعية.

ولتحقيق نظرة أفضل على شكل صياغة المعالجة وصراعاتها في هذا القالب الشعوري، يجدر بنا أن نتكلم عن العنصرين التاليين بشكل منفصل:

الصراع:

يروي الفيلم قصة أسرة تمارس سرقة المحلات بشكل دوري، ويبدأ أصلًا بمحاولتهم لضم فرد جديد (الصغيرة"جوري") إلى كنفهم، فنبدأ معها باكتشاف عالمهم الاجتماعي من ناحية، وسلوكهم غير الشرعي من ناحية أخرى، ومن هنا تبدأ معضلة أخلاقية في التبرعم داخل وجدان الصغيرة، وحتى في وجدان أخيها - أو هكذا يسمونه ليتعاملوا مع بعض كأسرة واحدة - وهو صبي لا يكبر عنها كثيرا، ولكن النفس الطواقة للفضيلة -ربما بالفطرة قبل أي شيء - تضعف أمام عنصرين:

*العنصر الأول: إيجاد الملاذ في حضن هذه الأسرة، وصلادة الرابطة -هكذا سموها في الفيلم "الرابطة" -بينهم رغم أنهم غير متصلين بيولوجيًا، في حين ان الصبي كان لا يعرف أبواه الحقيقيين، والفتاة لا تريد العودة لوالدتها التي طالما ما تنهرها.

*العنصر الثاني: بداية الاقتناع -وهو ليس اقتناع خالص- ببعض المباديء التي تسوقها الأسرة في طريقها داخل الحياة، مثل "من لا يتعلم في البيت، يذهب إلى المدرسة"، "البضاعة في المتاجر ليست ملكًا لأحد!"، "السرقة مشروعة طالما المتجر لم يعلن إفلاسه!".

ومع تحرك الاحداث - التي تكاد تكون منزوعة الحبكة- يبدأ الوعي الأخلاقي في التبلور عند الصبي، ومحرك ذلك حدثين، أحدهما بسيط لكنه حامل مردود خاص في نفسه، والأخر كبير، بيد أنه نابع عنه هو نفسه، المشهد الذي صور الحدث الثاني هو المشهد الأهم في البنية الدرامية للفيلم، وربما الأفضل لا الأهم فقط، لحظة سينمائية تسمو لتصبح متفجرة ومفجرة، وثائرة ومثيرة، هادئة جدًا في ميلادها، شاعرية جدًا في موتها.

ورغم قوة هذا الصراع -أو بالأحرى قوة تقديمه وانزوائه عن الكلاشيهية المبتذلة- لم يكن الصراع الوحيد، وربما لم يكن الصراع الأهم أصلًا، فمن منظوري الشخصي صراع الفيلم الاساسي كان يتمحور حول ماهية الأسرة اجتماعيًا وعاطفيًا، وكينونة الرابطة الأسرية، هل العلاقة بين الآباء والابناء بيولوجي؟ أم مادية؟ أم عاطفية؟

هل ما يجمع الأزواج الاعضاء التناسلية، أم الخفقات القلبية؟!

ورغم الدفء العام في العلاقات، ورغم وجود مشهد يكتسي فيه الحب برغبة جنسية، فتتكامل المشاعر وتتدفق أكثر في العلاقات بين الزوجين، ورغم وجود مشهد تذوب فيه الرغبة الجنسية المحضة، إلى وحشة، ثم تنساب إلى عاطفة هادئة ودافئة بين مومس وزبونها، رغم كل ذلك إلا أن الشك يضرب في الصدور، فيرتاب الجميع في العقيدة الأسرية المقدسة، ويحتاروا في أمر الرابطة، وحتى مع كونها رابطة اختيارية، لأنهم ليسوا أسرة حقيقية بيولوجيًا كما ذكرنا، وإنما اختاروا أنفسهم بأنفسهم.

والحق أنه لولا الاداء العظيم، من الجميع، وعلى رأسهم"ليلي فرانكي"، لما خرج سيناريو "كيرودا" بهذا الشكل البديع، خصوصا ان معظم الانفعالات والتفجرات داخلية، ومكتومة.

الحالة (الأجواء):

كلمة "دفء" في وصفها تكفي وتفيض، دفء في البيت، دفء في الشاطيء، دفء في الشوارع، في الحركة، في الصمت، في اللهو واللغو، في التعابير، في نشوات الفرح، ودقات الصدمة، وسكون الحزن.

وربما الأهم من الحديث عن شعور "الدفء" هو الحديث عن مشاعر الشخصيات، لأن عدسة"هيروكازو كوريدا" جعلت الفيلم يتشبه بشخصياته، ويتطبع بطباعهم، ويسرد شعورهم بيساطة، فيما تنفرج أساريرهم، أو تضطرب نفوسهم، أو تضيق بهم الحياة. حتى أننا كثيرًا ما نرى المشاهد -بصريًا- من منظورهم، وهذا يتحرك بنا إلى نقطة - ذكرتها آنفًا في بداية الحديث- وهي أن الاولوية كانت للأجواء، وللمشاعر التي تتدفق في الشخوص، لدرجة أننا في مشهد من مشاهد الفيلم، نرى الأسرة مجتمعة لمشاهدة الألعاب النارية، لكننا لا نرى السماء، لا نري إلا الأسرة وهي تتفرج، ولا ندرك من الالعاب سوى صوتها!

**في النهاية نحن أمام تحفة درامية فريدة، عن الأسرة والحياة والفضيلة، عن فتاة وجدت الدفء وسط اللصوص، وعن صبي يرى المحيط من زرقة الضوء المنعكس في بلورة صغيرة سرقها يومًا، عن عاهرة تحتار في التماس العاطفة وتحديدها، وعن زوجين وجدا الحياة في غير الموضع التقليدي، ووجدوا الابناء في غير الطور الطبيعي، وعن عجوز دفنت مع أسرار الماضي، ودفء الحاضر، وبرودة المستقبل الخافت.

عن الحياة كما هي، بنضج التصور، وعقلانية التناول، وصدق الحب، وصدمة العشم، ودقة الفضيلة، وحدة الواقع، وحلم السعادة، ونشوة الاتصال**.


وصلات



تعليقات