الأفلام المصرية وكليرمون فيران.. حكاية طويلة مع أهم مهرجان للأفلام القصيرة في العالم

  • مقال
  • 12:13 مساءً - 8 يناير 2019
  • 9 صور



قبل أيام أعلن مهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي للأفلام القصيرة عن الأفلام المختارة لدورته الحادية والأربعين، والتي تستضيفها المدينة الصغيرة الواقعة في مقاطعة أوفيرن-رون-ألب بشمال الجنوب الفرنسي. المهرجان الذي يُطلق عليه "كان الأفلام القصيرة"، باعتباره الملتقى الأهم لهذه الصناعة في العالم، والسوق الذي يشهد بيع العدد الأكبر من الأفلام القصيرة سواء للمحطات التلفزيونية أو للموزعين سنويًا. 7195 فيلمًا قصيرًا تقدمت للمهرجان هذا العام، من بينها 40 فيلمًا مصريًا، استقر المهرجان من بينها على اختيار فيلم وحيد للتنافس في المسابقة الدولية للمهرجان هو فيلم "Turning Ten" من تأليف وإخراج جايلان عوف، واستخدام المهرجان للعنوان الإنجليزي يشير لأن الفيلم لا يمتلك عنوانًا عربيًا بعد.

في ظروف أخرى كان من الممكن أن يمر اختيار الفيلم للمسابقة باعتباره حدثًا عابرًا متكررًا، لكن الحقيقة أن قيمة الاختيار هذا العام تحديدًا ترجع لكونه عودة للأفلام المصرية للمهرجان الذي طالما كانت حاضرة فيه، بعد عام تعيس لم يشارك فيه أي فيلم مصري في نسخة 2018، لتنقطع سلسلة استمرت 26 سنة متتالية من الوجود في مسابقة كليرمون فيران الدولية من نسختها الرابعة وحتى التاسعة والعشرين. سلسلة مؤثرة من المواهب التي كان المهرجان نقطة انطلاق لخطوات أولى في مسيرة كبيرة، تستحق أن نرصدها في هذا المقال.

خلفيات تاريخية

المهرجان الأشهر في عالم الأفلام القصيرة تحمل رسالة قبول مشاركة الفيلم في مسابقته عبارة مثيرة موجهة لمخرج الفيلم المختار "استعد.. حياتك على وشك التغيير"، حسب رواية أحد المخرجين المصريين الذين شاركوا سابقًا في المهرجان. رسالة تحمل قدرًا كبيرًا من الثقة في النفس من منظمي المهرجان. ثقة في محلها بدرجة كبيرة لسمة ينفرد بها كليرمون فيران حتى بالمقارنة مع مهرجانات العالم الكبرى، فبينما يختار مهرجان كان في النسبة الأكبر من برامجه أفلامًا لمخرجين كبار قطعوًا بالفعل أشواطًا في مسيرتهم ويملكون وجودًا دوليًا بمعزل عن المهرجان، فإن مشاركي كليرمون وأغلبهم من الشباب يأتي اختيارهم ليفتح لهم باب المشاركة في مئات المهرجان والمنصات الدولية التي تعتمد على اختيارات كليرمون فيران كمرجع رئيسي سنوي.

انطلق المهرجان عام 1979 كأسبوع للأفلام القصيرة من تنظيم جمعية الفيلم بجامعة كليرمون فيران، ليستمر بهذه الصورة ثلاث دورات قبل أن يتحول عام 1982 لمسابقة محلية للأفلام الفرنسية، ثم يتم إطلاق سوق الفيلم القصير عام 1986 ليعطي الحدث طابعًا احترافيًا، قبل أن تأتي خطوة إضافة المسابقة الدولية بدايةً من دورة 1989 لتنمح المهرجان صورته المتكاملة التي أضيف إليها لاحقًا مسابقة "لابو" للأفلام التجريبية عام 2001.

مرحلة ما قبل المسابقة الدولية شهدت مشاركات معدودة لأفلام مصرية قصيرة في بانوراما الأفلام الدولية، بدأت بعرض فيلمي "المحجر" لعوض شكري و"شوا أبو أحمد" لهاشم النحاس عام 1985، ثم "رشيد 85" لعلاء كريم عام 1986، يليه "القشاش" لعوض شكري عام 1988. قبل أن تأتي المسابقة الدولية، والتواصل الذي أقامه المهرجان مع المعهد العالي للسينما الذي كان وقتها المكان الذي ينتج الغالبية العظمي من الأفلام المصرية سنويًا في عصر ما قبل الديجيتال، لتبدأ سلسلة المشاركات المستمرة التي لم تحققها السينما المصرية في أي حدث آخر بنفس القيمة الدولية.

أجيال ومواهب

إلا أن بداية السلسلة لم تكن من خريجي المعهد، وإنما من مخرج مخضرم وخبير في السينما التسجيلية هو علي الغزولي، الذي كان فيلمه الشهير "صيد العصاري" هو أول فيلم مصري يشارك في المسابقة الدولية لمهرجان كليرمون فيران في نسختها الرابعة عام 1992، قبل أن يعيد الكرّة ويشارك في الدورة التالية بفيلم "عم جابر".

بداية العلاقة بين المسابقة ومعهد السينما كانت نسخة 1994 التي اختير فيها فيلم المخرج الشاب ـ حينذاك ـ عاطف حتاتة "عروسة النيل" ليشارك في المسابقة، ليبدأ حتاتة رحلته التي أسفرت عن فيلم طويل وحيد يُعد من علامات السينما المصرية المعاصرة هو "الأبواب المغلقة" الذي قدمه عام 2000 ولا زلنا للأسف ننتظر حتى هذه اللحظة خطوته التالية.

موهبة جديدة ظهرت في العام التالي هي المخرج هاني خليفة، الذي لم يكتف فيلمه "عربة السيدات" بالتنافس في المسابقة، بل نال تنويهًا خاصًا من لجنة التحكيم كان أحد جائزتين رسميتيين نالتها الأفلام المصرية في تاريخ المهرجان. هاني انتظر نحو عشر سنوات قبل أن يقلب الموازين في صناعة السينما المصرية بفيلمه الأشهر "سهر الليالي "، والذي توقف بعده طويلًا قبل أن ينشط مؤخرًا في السنوات الأخيرة فيقدم فيلمه الثاني "سُكر مر" يليه عدد من المسلسلات الناجحة.

العامان التاليان 1996 و1997 كانا من نصيب موهبة أخرى واعدة هو المخرج سعد هنداوي، كرر إنجاز علي الغزولي بالمشاركة عامين متتاليين بفيلمي "زيارة في الخريف" و"يوم الأحد العادي". مشاركتين اكتسب خلالهما ثقة المهرجان ليصير لاحقًا مستشارًا له ومسؤولًا عن ترشيح الأفلام المصرية القصيرة لكليرمون فيران، وبالإضافة لتقديمه عددا من الافلام والمسلسلات من بينها "حالة حب" و"ألوان السما السبعة".

عام 1998 شهد اختيار فيلم "اللجنة" عن رواية صنع الله ابراهيم الشهيرة، من إخراج سامح حمدي بهلول الذي لم يحقق خطوات تُذكر لاحقًا وإن استمر في العمل كمساعد مخرج في العديد من الأعمال. قبل أن يشهد عام 1999 مشاركة المخرج محمد علي بفيلمه "الطيران"، ليصبح لاحقًا من المخرجين الناشطين سينمائيًا وتلفزيونيًا بأعمال منها "لعبة الحب" و"الأولة في الغرام" و"بشتري راجل" و"أهل كايرو".

الانطلاقات تتوالى

وصل الدور إلى واحد من ألمع المواهب السينمائية المصرية وهو مروان حامد الذي كرر مجددًا إنجاز المشاركة لعامين متتاليين، بدأها عام 2000 بفيلم "الشيخ شيخة" ثم عام 2001 بفيلمه الشهير "لي لي" الذي توّج بجائزة الجمهور لتكون آخر جائزة نالها فيلم مصري في المهرجان، ليبدأ بعدها مروان مسيرة فائقة النجاح قدم فيها حتى هذه اللحظة خمسة أفلام ناجحة هي على الترتيب "عمارة يعقوبيان" و"ابراهيم الأبيض" و"الفيل الأزرق" و"الأصليين" و"تراب الماس".

في العام التالي 2002 اختار المهرجان فيلم "التلات ورقات" من إخراج أكرم فريد، الذي اختار لاحقًا مسار السينما التجارية ليصير أحد كبار نجومها بتقديم 15 فيلمًا من بينها "عمر وسلمى" و"حاحا وتفاحة" و"عائلة ميكي" و"نظرية عمتي".

يأتي عام 2003 ليشهد للمرة الأولى اختيار فيلمين مصريين دفعة واحدة للمسابقة، الأول هو "أن تنام بهدوء حتى السابعة" لتامر محسن الذي احترف السينما التسجيلية قبل أن ينتقل للدراما التلفزيونية بنجاح فني مدهش قدم من خلاله ثلاثة من أهم المسلسلات المصرية المعاصرة هي "بدون ذكر أسماء" و"تحت السيطرة" و"هذا المساء" بالإضافة لفيلم روائي وحيد هو "قط وفار".

أما الاسم الثالث فهو أحمد مكيالذي عُرض فيلمه "ياباني أصلي"، قبل أن يصير رابع مخرج مصري يتنافس عامين متتالين عندما شارك فيلمه "الحاسة السابعة" في مسابقة العام التالي 2004. الفيلم الذي حوله مكي لاحقًا إلى فيلم روائي طويل بنفس العنوان، ليتوقف بعده عن الإخراج ويحترف التمثيل ليصير واحدًا من نجوم الصف الأول في الكوميديا، النوعية التي ظهر اهتمامه بها منذ دراسته للإخراج في المعهد.

والملاحظ هنا أنه بخلاف تجربة علي الغزولي، فإن الثلاثي الذي شارك عامين متتاليين، سعد هنداوي ومروان حامد وأحمد مكي، كانوا جميعًا من طلبة معهد السينما الموهوبين لدرجة اختيار مشروعي تخرجهم (العام الثالث والرابع من المعهد)، في زمن كان المعهد يُخرّج فيه مواهب يمكن لمشروعاتهم المصنوعة بأقل الإمكانيات أن تجد طريقها لأهم مسابقة عالمية متخصصة في الأفلام القصيرة.

مشاركة خريجي المعهد استمرت العام التالي 2005 بمشاركة تامر السعيد بفيلمه "يوم أثنين". السعيد أصبح من أهم الفاعلين في السينما المستقلة المصرية لاحقًا، شارك في كتابة "عين شمس " لابراهيم البطوط الذي كان أحد الأفلام المؤسسة للحركة، وانتظر طويلًا حتى أنهى فيلمه الأول "آخر أيام المدينة" الذي نال تقديرًا دوليًا كبيرًا لكنه لا يزال حتى لحظتنا هذه لم يُعرض تجاريًا في مصر لأسباب غير مفهومة.

الخروج من حيز المعهد

في هذه الفترة شهدت مصر أكبر ثورة في مجال صناعة الأفلام القصيرة، تتمثل في دخول وانتشار كاميرات الديجيتال وإطلاق عدد من الورش والبرامج التدريبية خارج النطاق الرسمي لمعهد السينما، الأمر الذي أدى لحراك كبير كانت الكلمة العليا فيه لحرية الصورة لتبدأ قائمة اختيارات كليرمون فيران في استقبال مواهب من خارج معهد السينما بالتزامن مع خريجيه، قبل أن يتناقص عدد الخريجين لتكون السيادة للمستقلين لعدة سنوات.

عام 2006 شهد مجددًا اختيار فيلمين مصريين للمسابقة، الأول هو "بيت من لحم" لرامي عبد الجبار، المخرج الذي كان من أنشط الأسماء في تلك الفترة قبل أن يتوقف طويلًا ولا يزال يعاني حتى لحظتنا لإتمام فيلمه الطويل الأول. أما الفيلم الثاني فهو "النهاردة 30 نوفمبر" لمحمود سليمان، الذي عمل سنوات طويلة على مشروعين أحدهما خرج للنور هو الفيلم التسجيلي "أبدًا لم نكن أطفالًا" الذي فاز بجائزتين رئيسيتين في مهرجان دبي ونال نجاحًا دوليًا واسعًا، والثاني فيلم روائي حصل على دعم وزارة الثقافة قبل أعوام، لكن إتمامه لا يزال متعثرًا رغم تصوير الجانب الأكبر من مشاهده.

بعد سنوات من التواجد الذكوري الكامل جائت أيتن أمين لتكون أول مخرجة مصرية تشارك عندما اختير فيلمها "راجلها" لمسابقة 2007. أيتن قدمت لاحقًا عدة أفلام قصيرة وفيلم طويل واحد هو "فيلا 69"، قبل أن تشارك في إخراج المسلسل الناجح "سابع جار" الذي مثل نقلة مثيرة للجدل في صناعة الدراما التلفزيونية.

بداية النهاية

عام 2008 شهد بداية ظهور أسماء نشطت في صناعة الأفلام القصيرة لكنها لم تتمكن من أخذ خطوات حقيقية لاحقة، فشارك ذلك العام كريم فانوس بفيلم "أيدين نظيفة"، ثم عام 2009 اسماعيل حمدي بفيلم "زيارة يوم شتوي"، يليه ابراهيم عبلة عام 2010 بفيلم "الحب في زمن الكولهّ"، ثم عز الدين رجب بفيلم "مولانا" عام 2011، وعمر خالد بفيلم "الحساب" عام 2012، حلمي نوح بفيلم "مركب ورق " عام 2013، فيلمان عام 2014 هما "وردية يناير" لعماد مبروك و"كنت أظن أن النهر قد جف" لعمر روبرت هاميلتون.

يمكن وصف هذه الفترة ببداية النهاية لحراك الأفلام القصيرة في مصر، فالناظر لأسماء الأفلام والمخرجين يكشف عن تراجع تدريجي في قيمة الفيلم والإنجاز الفني لصانعه. والعجيب أنها الفترة التي شهدت ارتفاع مخيف في عدد الأفلام المنتجة سنويًا بسبب سهولة استخدام الكاميرات الرقمية ليصل عدد الأفلام القصيرة التي تُصنع في مصر لما يزيد عن مائتي فيلم سنويًا. تقريبًا عشرة أضعاف الإنتاج خلال التسعينيات، لكنه إنتاج كغثاء السيل يصعب إيجاد فيلم جيد بينه، بينما زادت الفرص صعوبة وفقد كثير من نجوم حراك السينما المستقلة شغفهم وقدرتهم على مطاردة حلم صناعة الأفلام.

العامان التاليان شهدا تحسنًا طفيفًا بعرض فيلمين حققا نجاحات لاحقة بعد عرضهما، فشارك محمد كامل عام 2015 بفيلم "ربيع شتوي" الذي حصد بعد كليرمون ـ وبسبب المشاركة فيه ـ أكثر من 20 جائزة في مهرجانات دولية، ثم شريف البنداري عام 2016 بفيلم "حار جاف صيفًا"، والذي صنعه بعدما كان بالفعل قد أنهى فيلمه الطويل الأول "علي معزة وابراهيم"، والذي أخرج بعده مسلسلًا ضخم الإنتاج هو "الجماعة 2"، والبنداري ينتمي بحكم العمر والتجربة للجيل السابق، وأفلامه القصيرة السابقة ومنها "صباح الفل" و"ساعة عصاري" حققت نجاحات ضخمة وإن لم يشارك أي منها في مسابقة كليرمون فيران.

أما آخر حلقة في سلسلة الـ26 عامًا فكان فيلم "حاجة ساقعة" للمخرج السكندري عمروش بدر، أحد الأفلام التي مرت مرور الكرام، بل قرر المهرجان بعد أن تفقد مصر مكانها الدائم في المسابقة الرسمية للمهرجان لتخرج دورة 2018 للمرة الأولى منذ سنوات خالية من مشاركة أي فيلم مصري، قبل أن تأتي جايلان عوف لتستعيد هذا المكان في دورة 2019.

غير أن الفيلم وأيًا كان مستواه ونجاحه في المهرجان، لن ينفي حقيقة الوضع الكارثي الذي تعيشه صناعة الأفلام القصيرة في مصر والذي يمكن تلخيصه في كونه "ضجيجًا بلا طحن". عشرات المخرجين داخل المعهد وخارجه، مئات الأفلام المنتجة سنويًا، تنظير لا ينتهي على مواقع التواصل الاجتماعي، والنتيجة تقترب من الصفر، حتى أن كل المهرجانات المصرية والعربية تعاني كي تجد ولو فيلم مصري وحيد جيد للمشاركة في مسابقاتها. وضع يحتاج لدراسة وتحليل لفهم أسبابه، بالتزامن مع الاحتفال بالعودة للمسابقة المرموقة التي طالما احتضنت ودعمت وأطلقت المواهب المصرية.


وصلات



تعليقات