لماذا يجب علينا مُشاهدة اﻷفلام التسجيلية؟

  • مقال
  • 04:22 مساءً - 4 فبراير 2019
  • 5 صور



ما دفعني لكتابة موضوع عن أهمية السينما التسجيلية هو بالتحديد شعوري أن هذا النوع من السينما لا يشاهده أحد تقريبًا. قليلٌ جدًا هي المرات التي أحكي مع أحد أصدقائي وأجده قد شاهد عددًا من اﻷفلام التسجيلية حتى نستطيع فتح نقاشات والدخول في تفاصيلٍ بها. بالنسبة لي، أفضّل السينما التسجيلية عن الروائية (التمثيلية) في كثير من اﻷوقات، ﻷن هناك مذاق آخر تمامًا من تلقي الحكايات التي تحكيها علينا هذه اﻷفلام. أعتقد أن معظم الناس اﻵن قد تعودت على اﻷفلام الروائية وأغفلت روعة التسجيليات بشكل يثير الحزن قليلًا؛ فبالنسبة لطبيعة الحكايات، تأثيرها، ارتباطها بالعالَم الذي نعيش فيه اليوم، قدرتها التثقيفية والتعليمية، مقدار المشاعر والمصداقية بِها، تأثيرها على جوانب أكبر للمجتمعات، نوعها وتركيبتها التي تجعلها مادة دسمة ليخاطِب مخرجوها العالَم بقضاياهم وهمومهم.. كل هذا وغيرها من أسباب تجعل الفيلم التسجيلي له أولوية على الروائي بالنسبة للشخص الذي يتخذ من "فن السينما/فن الصورة" وسيلة لمعرفة قصص وحكايات؛ كي يتعلم ويتأثر ويتفاعل.

السينما التسجيلية هي وسيلة للتعرُّف على العالَم من حولنا..

بمعنى أننا أصبحنا في عصر يتخذ من التعبير البصري بالفيديو والصورة والفيلم عادة وفِعل جماعي وعالمي. اﻷفلام هنا لا تقتصر على كونها وسائل قوية للتعبير الحيّ بالصورة والصوت عن اﻷحداث والقصص التي يريد الناس حكيها، بل وأيضًا هي وسيلة "معاصرة" لمخاطبة البشر حول العالَم. باﻷخص على الجيل الجديد الذي يقصِد الاستسهال في كل شيء كغاية بحد ذاتها، ويريد بذل أقل المجهود في الحصول على أكبر قدر من المعلومات. الفيديو الدقيقتين اﻵن أصبح أقوى مئات المرات من المقالات اﻷكاديمية التفصيلية.

لكن دعونا من هذا الجانب التحليلي بأهمية التسجيليّات. في الواقع ما أود الحديث عنه هي زاوية أخرى تجعلني في حالة رغبة دائمة بمُشاهدة أفلام تسجيلية، وهذه اﻷفلام -وبخلاف حكاياتِها المذهلة- هي وسيلة للتعرُّف على ما يحدث في العالَم فعلًا وحقيقيًا وجذريًا. لا أعلم كيف كنت سأعلم مواضيع مثل استغلال الحيتان السوداء ومعاملاتهم الغير آدمية من البشر (بفيلم Blackfish)، أو كاﻷشكال المختلفة للطقوس الدينية في بلدان العالم، أو القصة الحقيقية، الجميلة، والحزينة لـ"آيمي واينهاوس" (بفيلم Amy)، أو بقضية اللاجئين في أكثر من فيلم. سباق الـ"باليو دي سيينا" للخيول مثلًا، ومدى تعلُّق الناس بإيطاليا بهذا السباق الرياضي السنوي كطقس احتفالي وروحاني. وغيرها من المواضيع والقصص التي تفتّقت في ذهني نتيجة معرفتي بها من خلال التسجيليّات، ولولا مشاهداتي تلك، ما كنت ﻷعلم شيئًا، لأني حتمًا لم أكن لأقرأ كتبًا مثلًا عنها!

صورة من كواليس تصوير الفيلم التسجيلي "البنات دول"


أيضًا، هناك عشرات اﻷفلام التي شاهدتها، والتي -أظن- أنه من الصعب للغاية وضع معالجات لها كي تخرُج مواضيعها للنور/الجماهير/العلَن، في هيئة أخرى بخلاف التسجيل والتوثيق. أبرزهم مثلًا (The Act of Killing) وهو فيلم يحكي عن مجموعة أعضاء فرقة إعدام، كانت تقوم بقتل عدد هائل من المجرمين الإندونسيين في فترة بعد الانقلاب العسكري عام ۱۹٦٥، وهي فخورة باﻵلاف الناس الذين قتلوا على أيديهم. الفيلم غريب ومختلف ﻷنه لا يعرض موضوعه بشكل تقريري جاف، بل يربطها بالخواص الثقافية للشعب اﻹندونيسي بشكل يثير التعجب حقًا.

ستجد دائمًا باﻷفلام الروائية خدعة أو حيلة ما تجلعك بعيدًا مترين عن تصديق كل ما يحدث أمامك على الشاشة مهما بدا حقيقيًا. يمكنك أن تكون مشاهد جيد للأفلام اﻵسيوية التي تدور معظمها حول العنف والقتال (مثلًا)، لكن معرفتك عن هذه الرياضة والصفة الثقافية لن يكن كما تُشاهِد فيلمًا تسجيليًا ينظر عن كثب للموضوع.

هناك موقف في هذا الأمر لا أنساه أبدًا؛ فرغم مُشاهداتي الكثيرة للأفلام اﻷمريكية -الروائية- التي تحدثت عن موضوع "العنصرية"، وتأثيرها على اﻷشخاص واﻷحوال هناك، إلا أني بعد مُشاهدتي لفيلم تسجيلي يدعى (I Am Not Your Negro) قلت في نفسي حينها أني لم يكن لدي فكرةً عن الموضوع! رغم أن تيمة العنصرية أصبحت موجودة في عدد هائل سنويًا من اﻷفلام التي تنتجها هوليوود، لكن جميع اﻷفلام تتحدث عن التأثيرات الحاصلة على شخصيات أو أحداث جرّاء العنصرية، لا عن حذافير الموضوع؛ كيف بدأ؟ ما هي وجهة نظر السود أنفسهم؟ وكيف يمكن -من خلال دراما الفيلم- استفزاز مشاعر الجميع بالتطرُّق للموضوع؟ في هذه المرة بالتحديد علمت قوة التسجيليات، وما يمكنها فعله في عملية التثقيف والتعريف بأشياء كثيرة نظن أننا نعلم عنها كل شيء.

وهكذا، فالفيلم التسجيلي قد لا يكون اهتمامه منصبًا على "عرض موضوع هام على الجماهير"، قدر ما يضع في حسبانه -أيضًا- أن هناك أشخاص ليس لديها فكرةً عن هذا الموضوع، والفيلم يريد إخراج هذا الموضوع/هذه القضية للنور حتى يعلمها العالم. مخاطبة شخص ليس لديه فكرة عن ما يجري يختلف عن مخاطبة آخر تفترض ضمنيًا أنه مضطلع على أمرًا ما (تكنولوجيا جديدة ما مثلًا)، وهذا من شأنه تحديد طبيعة المحادثة والحوار من الألف إلى الياء.

من فيلم (The Land of the Enlightened)


لكن، أكثر ما أقدره فعلًا في تجربة مُشاهدة الفيلم التسجيلي، وهذا يأتِ مع الأفلام الحديثة بالذات، إذا حَصُلَ وشاهدتُ فيلمًا لستُ مهتمًا بالموضوع الذي يناقشه (وهي نقطة يمكن أن يعتبرها صُنّاع الأفلام التسجيليّون خطرًا حقيقيًا على أفلامهم)، واستطاع الفيلم -رغم ذلك- إمتاعي وجذبي للموضوع. مثلًا هناك فيلمًا متواضعًا للغاية صدر في ۲۰۱٧ عن الممثل هيث ليدجر اسمه (I Am Heath Ledger) وهو فيلم يفتقد تمامًا للربط أو التحضير لما يود قوله عن حياة كاملة مليئة بالتفاصيل عن هيث، رغم أن أي شخص -وأنا أولهم- سيود مُشاهدة فيلمًا تسجيليًا عن هيث. العكس يحصل في تجربة مُشاهدة فيلم (McQueen) الذي شاهدته مع بضعة أفلام تسجيلية رائعة في الدورة الأخيرة لـبانوراما الفيلم اﻷوروبي، حيث لم يكن لديّ فكرةً من هو أليكساندَر مكوين، ولم أقرأ شيئًا مُسبقًا عنه ولا عن أعماله ولا عن حياته، لكن الفيلم استطاع بكل جدارة جعلي أخرج من قاعة السينما عالمًا تقريبًا بكل شيء عن هذا الفنان، بعد أن حُكِيَت عليّ إحدى أكثر القصص الملهمة التي استقبلتها في الأفلام التسجيلية!

أمثلة فيلمية مُختارَة . .

سأحاول فيما تبقى من المقال ذِكر أهم الأفلام التي استطيع القول بضمير مستريح أنها أفلامًا تسجيلية رائعة لا تُفوَّت يجب على الجميع مُشاهدتها، وهي تلك اﻷفلام التي تتبيّن بِها روعة وجمال السينما التسجيلية، خواصها المتفردة في طرق الحكي عن الروائيات، أو تأثيراتها علينا.

هناك فيلمين معروفين بين دارسي ومحبي السينما التسجيلية في مصر، وهما (البنات دول) لتهاني راشد، و(في الليلُ يرقُصن ) للمخرجة الفرنسية "إيزابيل لاڤاين". الفيلم اﻷول مثلًا من المستحيل تخيّل عرض موضوعه بقالِب آخر غير الفيلم التسجيلي؛ كونه يتحدث عن حياة بنات الشوارع في مصر في فترة (۲۰۰٦ - ۲۰۰٧)، وهو عمل تسجيلي شديد المصداقية والقوة يجعلك تتسآئل كيف أقنَعت المخرجة هؤلاء الفتيات اليافِعات بالوقوف أمام الكاميرا وحكي قصصهم ومغامراتِهم الحياتية المذهلة (والمليئة بالمعاناة وهيمنة الجنس اﻵخر عليها). أما "في الليلُ يرقصن" فهو حالة مختلفة قليلًا، فهو يحكي عن عائلة مصرية تعمل جميع فتياتها بالرقص الشرقي في المهرجانات والمناسبات الشعبية، وهو -وعلى عكس فيلم تهاني راشد- يفتقد عامل مهم من مصداقية تلقيهُ؛ فرغم شكله المُصدَّق فعلًا في اﻷمور التي تلتقطها الكاميرا بِبَيت العائلة المتواضع المُصوَّر فيه معظم مشاهِد الفيلم، إلا أنه فيه شيءٌ من التخطيط المنهجي المُسبَق بين الطرفين (المُصوِّر - المُصوَّر)، وهذا من حقه هدم كل معايير المصداقية التي فرضناها سلفًا. لكنه يبقى فيلم مثير جدًا للاهتمام كي يُشاهَد.

ملحوظة: الفليمان موجودان على الـ"يوتيوب" بالمُناسبة.

مثلًا، أحد هذه اﻷفلام التسجيلية شديدة الروعة التي من الصعب فعلًا تخيل Form آخر غير التسجيلي لحكي قصته، هو فيلم (Kedi) لمخرجة تركية تصنع فيلمها الطويل اﻷول، وهو يحكي عن تركيا الحديثة خلال علاقات سكانها مع القطط، فالفيلم في النهاية يحكي عن القطط، لكن ليس أي نوع من القطط، إنها القطط التركية التي عاشت وتربت وسط التركيّون، وما أكثر القصص الحميمية الجميلة التي تجمع كل نموذج لقطة مع صاحبها/تها، أو صديقها/تها بالشوارع والبيوت.

عُرِضَ فيلم (The Land of the Enlightened) في الدورة التاسعة من بانوراما الفيلم اﻷوروبي، وهو من أكثر اﻷفلام التي من الصعب أن ينساها أحد ما إن يشاهده. الفيلم يحكي عن مجموعة من اﻷطفال اﻷفغان المنتمين لعشيرة تعرف بـ"كوشي" تقوم بالتنقيب في المناجم السوڤيتية القديمة وتبيع المتفجرات للأطفال العاملين في المناجم. ومع انسحاب القوات اﻷمريكية من اﻷراضي اﻷفغانية، تقوم عصبة أخرى من اﻷطفال بالسيطرة الكاملة على الكاراڤانات لتهريب اﻷحجار الكريمة الزرقاء عبر الجبال.

بوستر فيلم "في الليلُ يرقُصن"


هناك أفلام مثلًا تقوم على أساس علاقة مَن وراء الكاميرا، بمَن أمامها. فيلمان تسجيليّان عُرِضا في الدورة اﻷخيرة من بانوراما الفيلم اﻷوروبي بعنواني (Thank You for the Rain) و(A Woman Captured) تقوم قصتهُما في اﻷساس على الكيمياء والعلاقة المتبادلة كلامًا وجدلًا بين مخرجتي الفيلمان وما يتم تصويره. بمعنى أنك إن فكّرت تحويل هذه القصة بأحد الفيلمان في شكل قصصي مختلف عن التوثيق والتسجيل للحقائق، ستجد اﻷمر فعلًا مضحك ومستحيل!

في الفيلم اﻷول الذي يتحدث عن قضية التغير المناخي على السطح، هو في العمق يحكي أيضًا عن العلاقة الناشئة بين المخرجة النرويجية الوافدة على قرية بـ"كينيا"، برب عائلة مكونة من سبعة أفراد. لدرجة أنه عند نقطةً ما بالفيلم "كيسيليو/اﻷب/المزارع الكيني" ينظر للمخرجة التي تصوره، ويحكي لها عن همومه كأنه -بشكلٍ غير مباشر- يطلب منها المساعدة، وهي بالفعل تقوم بذلك؛ فيتغيّر مسار القصة/حياة كيسيليو بالكامل. وهنا يُطرَح في ذهن المُشاهِد سؤالًا مهمًا؛ ألا وهو ما دور صانع اﻷفلام التسجيلية وما حدوده وماذا بالتحديد هي مهمته؟: هل من المقبول أن يساعد الشخص الذي يصوره في هكذا مواقف، أم أنه يعمل على التوثيق فقط اﻷقرب للحالة الروبوتيّة والبعيدة عن النزعة العاطفية لهُ؟ الكلام نفسه ينطبق على الفيلم النمساوي (A Woman Captured) الذي يتحدث عن "ماريش"، المرأة التي تم استعبادها لفترات طويلة جدًا من حياتها من خلال البقاء الدائم في المنزل والعمل -بدون أجر عادل- كخادمة للمنزل. هذه قصة الفيلم على الورق، لكنها في اﻷصل تحكي عن علاقة مخرجة ثلاثينية بهذه المرأة، واﻷمور التي تتغيّر بينهما، وكيف تؤثر المخرجة/اﻹنسانة في ماريـش وتجعل حياتها أفضل بعد أن ساعدتها على تحقيق ما لم تستطع تحقيقه وحدها لكثيرٍ من اﻷعوام.

. . .

هناك ناحية قصصية مختلفة تمامًا، وتشبه الـ(تيمة) التي أفضّل مشاهدة جميع أفلامها، وهي اﻷفلام التسجيلية التي تعتمد على التحري واكتشاف الحقيقة والخوض في مغامرة مجنونة مليئة باللحظات المصيرية (على القصة، وعلى الطاقم التصويري)، فتصبح اﻹثارة والتشويق منهج وأسلوب مختار من المخرج بدلًا عن أن تحدث الواقعة سلفًا، ويقوم هوَ بجمع مجموعة وثائق عنها. فيقرر خوض (هذه المغامرة التصويرية) بنفسه، لكشف المواضيع بنفسه، وبكاميرته الخاصة. اﻷمر شبيه ببرنامج "مدينة اﻹحتيال" (Scam City) الذي ظلّ يعرض لفترة طويلة على قناة ناشونال جيوغرافيك.

أشهر أفلام هذا النوع هو فيلم العام قبل الماضي الذي خطف جائزة اﻷوسكار ﻷفضل فيلم تسجيلي (Icarus). هذا الفيلم عظيم إلى أبعد حد، حيث عند نقطةٍ ما منه تشعر أن ما سيحصل للمخرج -الذي يمثل كبطل في الفيلم- معتمد على قدرته على تصوير ما يريد تصويره والنجاة بنفسه! فيصبح مصير المخرج والمجموعة هو ذات مصير الفيلم، وإمكانية أن تصبح كل المواد التصويرية المُجمَّعة في طي النسيان، محتملٌ في أي وقت. لِما؟ ﻷنه فيلم آخر من أفلام الـ"فضائح"..!'

أفلام مثل (Catfish)، أو (هدية من الماضي) أو جزء من (Those Who Jump) جميعها تندرج تحت ذات الصنف، وجميعها أفلام رائعة في تجربتها التشويقية المغامراتية المعتمدة على التحري بالكاميرا.

. . .

اهتمامي باﻹنترنت والكتابة والصحافة اﻹلكترونية (مع اﻷفلام) يجعلني أرغب بمُشاهدة أفلامًا تسجيلية عن "اﻹنترنت" بالتحديد، وهناك أفلام كثيرة أوسَعَت من خيالي ومعرفتي بما يحدث على وسائل التواصل و"عالم" اﻹنترنت الرحب هذا. لعلّ أهم هذه اﻷفلام هو فيلم "باسم يوسف" المثير للجدل (Tickling Giants)، وهو واحد من أصدق اﻷفلام التي عبّرت عن تداعيات ثورة يناير برأيي. وهناك (Catfish) الذي ذكرته قبل سطرين من اﻵن! الفيلم يتحدث عن علاقة غرامية تنشأ على موقع "فيسبوك" بين شاب في منتصف العشرينات، وفتاةً في سنه يتعرف عليها بعد أن تعرف -ببداية الحكاية- على عائلتها عبر ابنتها الصغيرة الموهوبة التي ترسُم رسومات جميلة وتنشرها على حسابها وتُرسلها بالبريد. هذا ما تقوله لنا القصة قبل أن نكتشف منعطفات درامية عنيفة بها، تجعله في رأي الكثيرين واحد من أفضل اﻷفلام التي تحدثت عن "الفيسبوك"، وما يجب على المستخدم الحديث للإنترنت اتّباعه في عملية تلقي المعلومات التي يراها أمامه على الشبكة العنكبوتية يوميًا.


أيضًا أفلام كـ(The Internet's Own Boy: The Story of Aaron Swartz) الذي يتحدث عن قصة ملهمة ومؤثرة للشاب الذي استمر طوال حياته في محاربة القوانين والتشريعات اﻷمريكية التي تستغل اﻹنترنت للجوانِب الربحية. وبالتأكيد (Citizenfour) الذي فاز بأوسكار أفضل تسجيلي في عام ۲۰۱٤ الذي يتحدث عن ما قام به "إدوارد سنودِن"؛ حيث قام بفضح عدد من المؤسسات الحكومية الأمريكية التي كانت تعمل تحت غطاء السرية في مراقبتها وتنصتها على كبرى شركات الإنترنت، مما مكّنها من التنصُّت اللاأخلاقي على أي شخص يحمل هاتفًا ذكيًا أو حاسوبًا على الكوكب.

هناك فيلم رائع عرض في البانوراما الماضية أيضًا اسمه (The Cleaners) يحكي عن اﻵلية التي تتبعها شركة "فيسبوك" بمقرها في "الفلبين" في قبول أو رفض المنشورات البصرية (صور - فيديوهات) على الموقع، وعلى عدد من المواقع اﻹلكترونية. ليطرح أسئلة هامة للغاية قد لا يفكر فيها كلٌ منا إلا عند حدوث مشكلةً ما مع الفيسبوك، وهو يوضّح أن أشياءًا كـ(التنظيف اﻹلكتروني) يقوم به بشر يملكون عواطف، ولهم موروثات ثقافية معينة تحكم رؤيتهم للصح والخطأ بكل شيء بالحياة.

للمزيد عن "ذا كلينَرز": نظرة مُقرَّبة على عالمنا الإلكتروني المُعاصِر

أيصًا هناك فيلم (Sonita) وهو ليس فيلمًا عن اﻹنترنت، لكن بطلته مغنية الراب اﻷفغانية الطموحة تضع أحلامها وآمالها كلها على "اﻹنترنت" أملًا في الشهرة ومعرفة العالَم بقصتها وموهبتها.


ثلاث قصص خاصة

الفيلم اﻷول: Searching for Sugar Man

الفيلم الثاني: Finding Vivian Maier

الفيلم الثالث: Something Better to Come

هذه ثلاثة أفلام أرشحها ﻷي شخص يطلب مني أو يسألني عن أفضل اﻷفلام التسجيلية التي شاهدتها، لما تتميّز به من روعة حكاياتِها قبل أي شيء.

الحكاية بالفيلم اﻷول تحكي عن مغني أمريكي لموسيقى الفولك اسمه "رودريجيز" لم يبتسم القَدَر له، وهزمه، ولم يعطيه ما تمناه في أن يسمع العالم صوته. وهي قصة حزينة للغاية، ومفاجئة للغاية أيضًا؛ فرغم أن ألبوماته لم تلقَ أي نجاح داخل أمريكا، اشتهرت جدًا خارجها في "جنوب أفريقيا"، فأصبح "رودريجيز" كالشبح الذي يريد الجميع معرفة حقيقة قصته. . حكايةً مذهلةً فعلًا ترى ولا تُروى!

"البحث عن ڤيڤيان مايَر" يعد من أهم التسجيليات الغامضة في قصصها، البديعة في الحالة التي تنقلها لك. القصة عن المصورة الفوتوغرافية الشهيرة -الشهيرة بعد هذا الفيلم ربما- "ڤيڤيان مايَر" التي عاشت طوال حياتها غريبة اﻷطوار مثيرة للريبة، قبل أن يُكتَشَف أنها واحدة من أشهر أبناء جيلها موهبةً في فن التصوير الفوتوغرافي، إلا أن الحكاية تكشف أنها ربما لم ترد أن يعرفها العالم أبدًا.

أما الفيلم اﻷخير/الثالث هو هذا النوع من اﻷفلام التي يمكن بسهولة أن تجد نفسَك غارقًا في دموعك بنهايته. القصة عن فتاة تعيش في مقلب قمامة بموسكو/روسيا، يعد اﻷكثر ضخامة في أوروبا كلها، وتتبَّع مخرجة الفيلم شخصية بطلتها على مدار أعوام متتالية منذ عامها العاشر حتى الرابع والعشرون، بأسلوب مشابه قليلًا لما فعله ريتشارد لينكلاتر في رائعته (Boyhood). هناك فيلم آخر عربي مشابه لهما، وهو كذلك فيّاض بالمشاعر اسمه (زينب تكره الثلج) للمخرجة "كوثر بن هنية"؛ يحكي عن عائلة في صدد تغيير جذري سيحدث بها حينما تتزوج اﻷم، ويُركّز على شخصية "زينب" منذ صغرها حتى دخولها الثانوية.

هذه اﻷفلام الثلاثة أظن أنها ستنل إعجاب كل من يتخذ من 'فن السينمــا' وسيلة لمعرفة "قصص" من الحياة تثير اﻹعجاب والدهشة.

للمزيد عن ڤيڤيان مايَر: عن القصص الواقعية المذهلة

هناك أفلام أخرى تعتمد على حكي الحكاية باستخدام أرشيف مسجل مسبقًا. أبرز فيلمين على بالي اﻵن فيلم (Amy) وهو فيلم رائع قصصيًا، وذكي جدًا أسلوبيًا. وفيلم المخرج مهدي فُليفِل (عالَم ليس لنا)، حيث لا يوجد في هذان الفيلمان لقاءًا حواريًا واحدًا كالذي نعرفه، بل بدلًا من ذلك الاعتماد كان إما على شهادات أقارب ومعارف "آيمي" بالفيلم اﻷول، أو الحكي القصصي (سرد الحدوتة) بالفيلم الثاني. وكِلا اﻷسلوبين يتم التعبير عنهما بالڤويس أوفر أو صوت الراوي في الخلفية. "عالم ليس لنا" بخلاف طريقة سرده هذه هو أيضًا -وهذا كثير في عالم السينما التسجيلية- تجربة شديدة الذاتية لمخرجه، يصور فيها أفراد عائلته وأصدقائه.

للمزيد عن عالم ليس لنا: عن قصة ذاتية لرجل يُدعى "فُليفِل"..

السينما التسجيلية حُلوَة (في حقيقية مواضيعها) ومهمة (للاستفادة) وممتعة (كتجربة مُشاهدة). أصبحتُ مؤخرًا منجذب لها بشكل كبير رغم أنني منذ سنتين مثلًا لم أكن قد شاهدت فيلمًا تسجيليًا واحدًا! هناك أفلامًا تسجيلية تلقّب بأنها 'Eye-Opening' لما في قضاياها من تنوير ﻷشياء مغلوطة عندنا، أو لم نكن نعرف الكثير عنها، بينما من المهم معرفة الكثير عنها.

لستُ متفقًا على من يحصر اﻷفلام التسجيلية في جانبها التعليمي أو التوعوي، بالعكس؛ هي أفلام مثيرة جدًا للاهتمام من ناحية أساليبها السردية، ومنهجية التعامل مع مواضيعها أو شخصياتها أو غيره. كما أن لها سمات أصيلة -في التجارب الشعورية بالذات- لا تستطيع السينما الروائية مهما بلغت من قوة، أن تصل لها. لون مختلف عن السينما السائدة التي نعرفها، وهذا أمتع ما في اﻷمر!

كل ما عليك فعله هو البحث، فكل شيءٌ بالحياة صُنِعَ عنه على اﻷقل فيلمًا تسجيليًا واحدًا . .

. . .

الفيلم أدناه هو أحد أشهر اﻷفلام القصيرة لمخرج السينما التسجيلية المصري الشهير "هاشم النحاس"، وقد حصل على الجائزة الأولى في مهرجان "ليبزج" الدولي بألمانيا عام ۱۹٧۲، وعلى جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (FIPRESCI) بذات العام. ويعده الكثيرون واحد من أهم اﻷفلام التسجيلية القصيرة بالقرن الماضي.




تعليقات