عن فيلم دينيس ڤيلنوڤ القصير (Next Floor)

  • نقد
  • 01:47 مساءً - 7 فبراير 2019
  • 2 صورتين



ملحوظة: يفضّل مُشاهدة الفيلم قبل قراءة المقال لسهولة التواصل..

الفيلم (۱۱ دقيقة) موجود في نهاية هذا المقال.

قدَّم المخرج الكندي "دينيس ڤيلنوڤ" الذي بات واحدٌ من أهم أسماء السينما العالمية في السنوات القليلة الماضية، فيلمًا قصيرًا عام ۲۰۰۸ بعنوان (Next Floor) ترشح لعدد كبير من الجوائز في مهرجانات أوروبا وأمريكا كـ"تورنتو"، "كان"، و"صاندانس". وفي هذا المقال سأحاول تفكيك قليلًا من عناصره، وذِكر أسباب قوة هذا الفيلم القصير الرائع حقًا.

عن ماذا يدور الفيلم؟ كلمة واحدة؟.. اممم، عن "الجشع" ربما؟ الجشع ظاهر بقوة نعم، لكن ما الذي تفعله الشخصيات بهذا الجشع؟ من الواضح على القصة أنها تدور عن صراعًا ما بين طبقتين/جماعتين، متمثل في مظاهر أكل (وليمة دسمة) من كل ما لذ وطاب، وهناك اشتهاءًا غير عاديًا للطعام لدرجة العته والجنون من شخصيات الضيوف!

الفيلم لا يتحدث عن هذا فقط بالتأكيد، في الواقع حينما قررت الكتابة عن الفيلم ظننتُ أني لن أجد الكثير ﻷتحدث فيه. شاهدتُ الفيلم أول مرة في "سبتمبر" الماضي وخطفني خطفًا، قررت ليلة البارحة فقط الكتابة عنه ليس ﻷني تذكرت مشاهدهُ وقصتهُ وما شابه، قدر ما رغبت بكتابة شيئًا مختلفًا الفترة الراهنة! لا يهم، على أية حال.. كنت أقول أنّ الفيلم ملئ بالتفاصيل ويمكن فعلًا أن يكون متعدد القراءات على الجمهور. القصة ذاتها تحتمل ذلك؛ ستخرج من الفيلم كل مرة بفكرة جديدة محتملة، الفيلم لن يبقى ذات الفيلم في المُشاهدة اﻷولى، أو على اﻷقل هذا ما اختبرته.

عناصر الفيلم

إذا تأملت عناصر الفيلم، ستجدها جميعها قد وظفت لخدمة هدف واحد مقصود: دفع القصة في خطها السردي القصير، وعمل ذلك بـ"أسلوب ما" مختار (يمكن تسميته أي شيء؛ أسلوب سايكوباتي، مضطرب، مجنون، سريع اﻹيقاع.. أو الكل في ذات الوقت).

المونتاچ برأيي يلعب دور محوري في خلق موود وإيقاع الفليم؛ التنقُّل السريع بين لقطات الكلوز آب على المأكولات، إلى اللقطات المتوسطة للضيوف الشَرِهون المُقبِلون على اﻷكل. لغة العيون هنا قوية في مشاهد الطاولة، وفي الفيلم بأكمله بوجه عام، والقطعات المونتاچية وفقَت في نقل المعاني وتوضيح علاقات الشخصيات ببعضها، وعلاقتها بما يحدث.

الفيلم على هذا الصعيد عبقري للغاية؛ توضيح كل شيء باﻷداة اﻷولى للسينما (لغة الصورة) هو أمر يثير اﻹعجاب. التواصل مع القصة/الفيلم قوي ومفهوم هنا، رغم أن الجملة الوحيدة التي تقال هي عنوان الفيلم (Next Door)!

ما تحمله الـ(عين) والـ(نظرة) من معاني أولًا، وتوظيف هذا داخل الفيلم ليكون ذو معنىً محدد ثانيًا، وليكون هناك أداة تواصل بين الشخصيات وبعضها ثالثًا: الفعل وردّ الفعل، العين التي تنظر ﻷنها جائعة، وﻷنها تتملّق النظر في ما هذا بحق الجحيم الذي يحصل؟ كل هذا مدروس وموضوع لسبب، وفي هارموني ملحوظة. حتى أبسط الاستخدامات كالـ Fast Motion له ضرورة عملية وهامة جدًا، وكان الفيلم ليكون شيئًا آخر تمامًا لولاها.

المشهد الافتتاحي مثلًا بداية قوية لا أعتقد أنه يمكن تخيل مشهد "أنسَب" آخر مكانه؛ ڤيلنوڤ له عادة في أفلامه بإخفاء التفاصيل الهامة، واﻹتيان بمشهد لشخص "ينظر" لشيءٍ ما، ليجعلنا نفكر للحظات قبل أن يُعرَض هذا الشيء: ما الذي ينظر إليه الشخص يا ترى؟ هنا استخدام الـ"زووم آوت" في أول مشهَد -المتناغم جدًا بصريًا مع حركة طفيفة للكاميرا- ومن ثمَّ الـ"زووم إِن" (مع شيئين أساسيين: الموسيقى المتصاعدة المفاجئة للطبول، مع نظرة الرجل المتأمّلة والخبيثة نسبيًا أيضًا) تعطيان هذا اﻹحساس الغير مريح قبل أن نرى أي شيء بعد: إلامَ ينظر هذا الشخص؟ "الزووم إن" دورها هُنا برأيي تعزيز حالة عدم الراحة بالنظر لهذا الشخص وتعمُّد (القرب منه) بعد أن كنا قريبون أصلًا. "زووم إن" على الرجل يأتي بعدها مباشرةً "زووم آوت" على الطعام في اللقطة التالية (واحد زائد واحد) يعطيان شعورًا غير مريحًا بالمرّة.

مشاهد اللحوم والمأكولات الدسمة داكنة اللون بالفيلم


تصويريًا الفيلم ممتع.. اختيار معظم المشاهد لتكون لقطات قريبة (كلوز آب) ومتوسطة تدفعنا لتأمل هذه الشخصيات عن كثب. اﻷلوان الداكنة للحوم والقاتمة للإضاءة تعطي جوًا سوداويًا للفيلم كأنه أحد أفلام نهاية العالم أو ما بعد المحرقة (Post Apocalypse). المكياج أيضًا له دور كبير هنا؛ شخصيات الضيوف يتضح عليها الترف والرفاهية والاهتمام الزائِد بنفسها، وأن هذا ليس نوع الملابس العادية ولا التأنُّق العادي الذي يمكن أن يرتديه الشخص في أي مناسبة، كأنهم يقومون بـطقسٍ روحانيٍ ما هنا.

شاهدت الفيلم أكثر من مرة لمراجعة أفكاري، ولاحظت -مع مرور المرات- لقطةً خاطفةً جعلتني أشك أن لعلّ المقصود من هذا كله تقديم (مجتمع أيدولوجي ما) هنا، ربما؟ هذه اللقطة تأتي حينما يقعون في الطابق السفلي للمرة اﻷولى؛ فيبدون فرحين كأنهم انتصروا في شيءٍ ما. بالثانية الحادية عشر من الدقيقة الخامسة (٤:۱۱) يمسك الشخص البدين يد المرأة كأنهم في حالة وحدة مترابطة ببعض.. ياللسايكوباتيــة!

هؤلاء البشر على الطاولة لا يظهرون على هيئة بشر عاديّة؛ بل مجانين، متوحشين، يأكلون اﻷمخاخ والكائنات التي تقطن البريّة (كالسناجب والغزلان والخراتيت والقنافِذ)، بشكل يحث على النفور والغرابة: من المجنون الذي يأكل في حياته أشياءٌ كهذه؟! اﻷكل يبدو لذيذٌ جذاب الشكل للوهلة اﻷولى، لكنه يصبح غير مستحبًا وربما "مُقرفًا" شيئًا فشيئًا (خاصةً في مشهد اﻷمخاخ الغريب، والسناجِب التي لا أعلم أهي سناجب حقًا أم ماذا؟!).

إذا كان لديّ الاختيار، فأنا لا أود أن آكل من هذا اﻷكل أبدًا حتى وإن كنت أتضور جوعًا. واﻷهم؛ لا أريد أن أجالس هؤلاء اﻷشخاص غريبو اﻷطوار، يكفيني مُشاهدتهم ينهَمون على اﻷكل هكذا كي أشبَع! هُم فعلًا يبدون كما لو أنهم لم يروا الطعام من قبل بحياتهم!.. هذه ليست وليمة عادية، إنها مسابقة على مَن سيستطيع أن يضع في معدته وفي جوفه أكبر كمّ من الطعام يا سادة!!

[...]

إن كنت ممن يحبون فيلم "دايڤيد فينشَر" الشهير (Fight Club) لفكرة المجتمع الاستهلاكي أكثر من غيرها، أظنك ستُعجَب جدًا بهذا العمل القصير، رغم أن القصة هنا آتيةً في شكل مبالَغ أقرب للخيال المحض. لكن ما راقني بالمجمل في هذا الفيلم، هو هذا الحس السايكوباتي الطاغي على القصة ووجوه شخصيات الضيوف الشرِهون، في البداية ظننتُ أن الفيلم لليوناني "يورجوس لانثيموس"!

التعبير عن فكرة الفيلم كعمل قصير جاء موفقًا، إذ يُقال أن من الواجِب على الفيلم القصير الالتزام بوحدة متكاملة في كل شيء؛ بدايةً من وحدة الفكرة والموضوع والحدث. وهنا الفكرة قُدِّمَت بشكل مكثف وموجَز للغاية، فقام ڤيلنوڤ بصناعة فيلمه في مكان واحد مراعيًا الاختزال والتكثيف بذات الوقت لتقديم (فكرته).

ماذا يمكن أن يكونوا هؤلاء البشر إذن؟

تبدو على مجوهراتِهم وملابسم الرسمية أنهم من الطبقة الثرية، لكن السيناريو لا يرغب بالانجراف ناحية فكرة صراع اﻷغنياء/البرجوازيين مع الخدم، ﻷنها كانت لتُذهِبُنا ﻷبعاد أخرى لا يحتملها العمل القصير. ظني أن هؤلاء الضيوف أو البشر هم (جماعة ما) يعلمون بعض جيدًا. هناك ثلاثة من حليقو الرأس تشعر كأنهم دخلاء على المجموعة (وهُم "شكلًا" أقرب لقائد الخدم الذي نراه في افتتاحية الفيلم)، لكنك بمرور الوقت تعلم أنهما ليسوا من طِباعه؛ بل إنهم ربما يذكّرونَك بالـ War Boys العتاه المخبولين في تحفة "جورج ميلَر" قبل أربع سنوات (Mad Max: Fury Road) من شدة تشابههم بِهم على صعيدي الجنون الانفعالي، ومظهرهم.

هناك شخصية على الطاولة أثارت اهتمامي ولا زلت لم أضع لها تفسيرًا منطقيًا لوجودها سوى أن هؤلاء الناس بمثابة (مجتمع) ذو فلسفة أو أيدولوجيا معيّنة يجب أن يفعلوا كل شيءٍ سويًا: شخصية الرجل القعيد الذي لا يفعل شيء ولا يأكل وفيه فمه زجاجة لسائل ما هي دواء أعتقد.. إن كان ڤيلنوڤ يقصِد أن نخرج من الفيلم كارهين لهؤلاء البشر وللأكل المفرط للطعام، فإنه قد حصل على مراده.

ينتهي الفيلم نهاية قوية كما بدأ، تذكّرنا باﻷفلام التي بدأت وانتهت على نفس الموضِع/المكان؛ ذات العين التي تابعناها في الافتتاحية تُحملِقُ بتركيزٍ عالٍ في عين الكاميرا. نحن -الجمهور- نُشاهِد ونُشاهَد في نفس الوقت؛ ألا يعني هذا شيءٌ بالنسبة لكم؟





تعليقات