"شيء من الخوف" وتحولات النص: فن أم سياسة؟

  • نقد
  • 02:26 مساءً - 29 مارس 2019
  • 5 صور



“كانت تعرف أنه يحبها، وأنه يعرف حبها له، فقد همس لها يومًا: -أتحبيني قدر ما أحبك؟ وابتسمت له اِبتسامة تعرف ما حملته من معان ثم لم تزد شيئًا. واستمر حبهما بعد ذلك على أساس من هذا السؤال الطيب وهذه الابتسامة المحملة بالمعاني، وقد كانت واثقة من نتائج حبها ثقتها أن اسمها فؤادة، وأن اسم حبيبها…طلعت”. -مقتطف من رواية شيء من الخوف صـ24.

•شيء من الرواية: أتراها؟ ها هي مستلقية في فزع على طرف مكتب ثروت عكاشة، لنقترب بحذر فتواجدنا في ذلك المكان سرًا قد يعرضنا للهلاك، ولن يشفع لنا عند رجال ناصر قدومنا من زمن آخر. قادرة هى على جذبك دومًا حتى في وسط تلك الأجواء المُقبضة للنفس؛ فها هو غلافها المرصع باسم ثروت أباظة يُزاح ليكشف لنا عن حافظ والد فؤادة الذي يدعونا لرحلة سريعة في أرض(الدهاشنة)؛ حيث الأرض التي يعيث فيها عتريس فسادًا بعد تسلمه راية الإجرام من جده (حسنين العكر)، وحيث الزواج الباطل من فؤادة وهو الحدث الذي يزحزحه أباظة للصفحات الأخيرة من الرواية؛ لتكن الفصول الأولى منها أشبه بقصص قصيرة منفصلة لشخصيات من عالم الدهاشنة الثري، فنرى جليًا أن لكل شخصية تشريح نفسي دقيق يقدمه أباظة على لسان الشخصية نفسها، أو يتدخل برشاقة بين الحين والآخر ليلعب دور الراوي، وهو الصوت الذي سيتسيد الرواية بالنهاية بعدما تعلق كل الشخصيات بحدث واحد وهو الزواج الباطل والذي سيكون لتفاعل كل شخصية معه مسببات مبنية على ما قدمه لنا أباظة من الشخصية في الفصول المبكرة.

•عتريس وفؤادة..الرواية والفيلم: وعلى عكس الفيلم فالرواية منذ السطور الأولى تقدم لنا عتريس بصورة موحدة تعكس الطغيان والشر البادي منذ الطفولة، وتظل تلك الصورة ثابتة من لسان شخصية لأخرى ومن حدث لآخر حتى يأتي أباظة في الفصل السابع ليشق صدر عتريس مُخرجًا ما بنفسه من نزاعات بين الشر الذي تربى الأخير في كنفه فطغى على جوارحه، وبين الخير الفطري الذي قد يكون موروث من والده (عبدالصادق) الذي أصر أباظة على خلقه بهيئة الساذج؛ ذلك الخير الذي لم يتلاشى من باطنه سوى لاستئناسه بِجذوة الحب الذي يكنه لفؤادة.

الصراع النفسي لدى عتريس جسده أباظة في بضع صفحات محدودة لنتحرى ونلم بنقطة ضعف عتريس التي ستُسقط إمبراطوريته؛ لذا فمن الجائز القول أن عتريس لدى أباظة فرد في حكاية يعنى الأخير بكل فرد فيها حتى وإن كانت صورة عتريس المتغطرسة قابعة دائمًا في الخلفية.

إذًا ذلك عتريس الرواية فماذا عن عتريس الفيلم؟ حسنًا؛ إن كان عتريس في الرواية هو صانع الحدث الرابط بين كل الشخصيات؛ فإن عتريس في الفيلم هو الحدث ذاته وصراعه النفسي وفؤاده المتعلق بفؤادة هما الشغل الشاغل لأرباب الفيلم، أما ما تبقى من شخصيات الرواية فمقدار تواجدها أو حتى طمسها يأتي فقط تبعًا لما يخدم الصورة، ويناسب المقاييس السينمائية، ولعل العناية الفائقة بمعالجة شخصية عتريس سينمائيًا هي أبرز ما تمسك به المغرضون في هجومهم على الفيلم الذي رأوا فيه إساءة لناصر ورجاله.

ولأن الفيلم بالطبع لن يتحمل وجهة نظر ذاتية لعتريس كما بالرواية نرى من خلالها نزاعات نفسه؛ فإن السيناريو يلجأ في ذلك إلى معالجة تقوم بتغيير شبه جذري في نشأة عتريس الذي -وعلى عكس الرواية- نراه على الشاشة في صغره وحتى بعد أن يشب عن الطوق هادئ ووديع محب للخير وللدهاشنة -قلبي مع الدهاشنة..وأنا ملك جدي- لنراه بمشهده الأول ممسك بعطف بحمامة بيضاء ككناية عن براءته، حتى يراه بحنق جده (عتريس الكبير) والذي بموته يمثل موضع الانقلاب بشخص عتريس الذي سيستمر تجسيد تأوهات نفسه من خلال علاقة الحب المتبادلة والمعلنة بين عتريس وفؤادة منذ اللحظات الأولى لشريط الفيلم، بحيث يظل تلاطم الوعدان يمزق نفس عتريس: وعده لفؤادة بالبعد عن الإجرام، ووعده لجده بالثأر من الدهاشنة.

المعالجة المغايرة للرواية لشخص عتريس وعلاقته بفؤادة تقصي بالتبعية تواجد شخصية (طلعت) ضمن أحداث الفيلم؛ وهو الشخص الذي تبادله فؤادة مشاعر الحب ضمن أحداث الرواية، ولنتخيل سويًا مصير صناع الفيلم لو ظهرت على الشاشة شخصية كطلعت لطيف المعشر والمحب للعامة وهو من نسل البشوات والبكوات، حينها كنا لنتفرغ لحصر عدد المشانق التي سُتعلق من متحفزين رأوا ناصر في عتريس. وباختفاء طلعت تتوارى عن عين المشاهد مسببات التكوين النفسي الصلب الثائر لفؤادة؛ ففؤادة الرواية هي نتاج لخليط يجمع بين حكمة أبيها حافظ الذي يعد واحد من أعيان الدهاشنة ودروشة أمها فاطمة النقية، وهما الاثنان اللذان يعطى أباظة اهتمام خاص بهما في صدر الرواية، فؤادة الرواية نطالع بين الصفحات مولدها بالقاهرة أثناء عمل والدها بالحكومة، كذلك نراها متعلمة وقارئة جيدة بفضل تفيدة هانم زوجة فايز بيه والد طلعت، ونقرأ آراءها الثورية والمتفلسفة في الحب والحياة والظلم الذي تراه متجسدًا في عتريس الكارهة له بوضوح.

ولعل المفارقة هنا تكمن في كون التكوين النفسي لفؤادة روائيًا أوضح بمئات المرات عن عتريس، ولكن كما سلف فلم يهتم أرباب الفيلم سوى بجعل عتريس هو الحدث؛ لذا فتتضاؤل أي شخصية بجواره بديهي حتى لو كانت فؤادة التي استلهام أي تفاسير من الرواية لخصالها المجسدة على الشاشة قد يكون فيه إضرار بالغ للرمزية التي عمد إليها الفيلم، وتعكير لصفو العلاقة التي تجمع بين قلب عتريس وفؤادة؛ وهي العلاقة التي حاكها السيناريو على نحو يظل يجذبك نحو التعاطف الدائم مع عتريس حتى وهو في أوج طغيانه كما نتابع على سبيل المثال في حوار فؤادة مع الشيخ إبراهيم علام (يحيى شاهين): -فؤادة: أنا بقول أن عتريس مش كده.. بقول كمان ياعم الشيخ إبراهيم إن في طريقة يتغير بها..يمكن ياعم الشيخ إبراهيم في..إن كان جواه طاقة واحدة منورة منقفلهاش.

لماذا؟ لماذا أراد السيناريو الدفع الدائم بنا نحو التعاطف مع عتريس؟ فن أم سياسة؟ بوعي أم بتحكمات من العاطفة؟ وللأسف فلعل الإجابة الشافية لم يبح بها الأبنودي بشكل مفسر قبل رحيله، وهو الذي بشهادة الراحل حسين كمال رب اليد العليا في السيناريو؛ فبعد أن انتهى صبري عزت من معالجة الرواية سينمائيًا، رشح المخرج حسين كمال لكتابة أغنيات الفيلم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الناصري الذي حبسه ناصر لمدة أربعة أشهر بفعل وشاية أفادت بانضمامه لتنظيم شيوعي، ويأتي ذلك في عام 1966، بينما العرض الأول للفيلم جاء في 1969. الفيلم الذي تسلم ورقه الأبنودي ليكتب ما يناسبه من أشعار رأى فيه الخال ما هو أكثر مما طرحه عزت، ليعكف الأبنودي مدة قيل أنها بلغت أربعة أيام فيخرج بمعالجة جديدة على مستوى البنية والحوار، فيقدم رفقة حسين كمال وبليغ حمدي ملحمة -كما يحب أن يسميها كمال- تستخدم تقنية سردية لم تعتادها السينما المصرية، تتشابه مع أسلوب (الكورس) الذي اشتهر به المسرح الإغريقي؛ بحيث تمثل الوصلات الغنائية الأشبه بالمواويل إطار الفيلم، وتلعب دور المكمل للتراجيديا فتشترك وتتداخل مع دائرة المعلقين والمفسرين للحدث الدرامي، وتسهم في تقديم الشخصيات على الطريقة المسرحية متشابكة مع الحوار؛ كما تم في الدقائق المبكرة من الفيلم عندما وُجدت جثة الغريق سالم شقيق شعلان فيستاءل أحد الرجال : -هو مين اللي يا عبده يقدر يقتل في الدهاشنة؟ فيظهر لنا عتريس الجد بضحكته الشيطانية على الشاشة بالتزامن مع اندفاع الكورال بالغناء: “أهو..بالضحكة دي بالبصة دي بالخلقة دي مالي الدهاشنة الخوف..”، كذلك يتم تقديم فؤادة بذات الطريقة: “البت وردة بيضا وخلوا بالكم يا سادة.. البت من الدهاشنة واسمها فؤادة.. البت بنت حافظ وخلوا بالكم يا سادة.. البت بنت فاطمة واسمها فؤادة.. في عينها نار وجنة وعند وشدة وهوادة”. ليستمر الحال على ذلك المنوال في إعطاء المعلومات والتعليق على الأحداث كمشهد غضب الجد عتريس من رقة الحفيد، وكذلك في التركيز على مأساة عتريس وصراعاته، أو بالاندساس كعضو مؤدي في المشهد كما في مشهد مسيرة الدهاشنة نحو منزل عتريس بالهتاف “باطل” الشهير، أو حتى بالمساهمة في “بروزة” الرمزية كما تم في تقديم أرض القصة غنائيًا بذكاء على النحو التالي : “البلد اسمها الدهاشنة.. المكان محدش دلنا.. يمكن محصلش أبدًا.. يمكن في كل مكان”.

“كبر وشب الولد ومعدش يغوى السواقى أشبهك يا بلد بغريق بينده ما لاقي في الكفر طايح بسيفه زي الرياح في الرمايل في الناس بيحكم بكيفه ويشدها بالحبايل نسي تراب الموالد..نسي الحصان الحلاوة كأنه جه زي شارد من تحت حر البداوة فؤادة وفين من فؤادة زي ما يكون ضنايا غريب وضاعت بلاده بيردها بالعصايا هو الولد ولا ما هو..ولا أحنا مش أحنا ولا عيونه في الضلمة زاغوا داس على اللي في قلبه وما خلى”؛ هكذا صاغ الأبنودي عتريس الذي نقف الآن أمام قصره بين الدهاشنة حاملين المشاعل، ويتقدمنا الشيخ إبراهيم علام وبجواره على الأكتاف محمول ولده العريس المغدور به محمود (حسن السبكي) والذي لكونه يمثل شعلة الثورة فإن السيناريو أراد رسمه بصورة نقية تدمجه في قصة حب مع الفتاة العفيفة عزيزة (بوسي)، وتبعده تمامًا عن إنعام (سميرة محسن) التي ربط بينها أباظة وبين محمود في روايته التي بين أحضانها يتلقي فيها محمود نيران رجال عتريس بعد أن يرتوي من أحضان إنعام التي يعدها بالزواج، وعلى الرغم من كون هيكلة شخصية محمود سينمائيًا بتلك الطريقة قد تلحق بعض الضرر بحالة التعاطف مع عتريس التي تبناها السيناريو؛ إلا أنها مفيدة تمام الإفادة لرسالة الفيلم الرمزية وإسقاطاته المعقدة بتبسيط الشخصيات، وجدير بالذكر أنه مهما بلغت سوء وقسوة الشخصية التي ترسمها فالاطمئنان سيكون حليفك ما دمت ستجلب فنان بقدرة الراحل محمود مرسي طالبًا منه جذب التعاطف للشخصية.

مرة أخرى نحن في مكتب الدكتور ثروت عكاشة وزير ناصر للثقافة، وأمامنا الرواية المشار إليها بأصابع الاتهام بالإساءة لشخص الرئيس ورجال الدولة، أما الفيلم فمعداته الرابضة في إحدى القرى التابعة لمحافظة القليوبية عاجزة عن استكمال التصوير بقرار سيادي، نرى نجيب محفوظ بصفته مستشار عكاشة يتدخل مبديًا رأيه بكون الرواية لا تحمل أي إساءة لشخص بعينه، وهو نفسه الرأي الذي يتبناه حسين كمال عن فيلمه، أما عن أباظة فيجد نفسه بناءًا على رغبة المؤسسة المصرية للسينما جهة إنتاج الفيلم مضطرًا لكتابة تعهد على مسؤوليته يفيد بكون المقصود بعتريس هو الاستعمار وأعوانه، لكن الأزمات لا تنتهي بذلك بل تستمر حتى بعد اكتمال التصوير الذي توقف أكثر من مرة؛ فيكن التعنت والتضييق حاضر عند عرض الفيلم، لتأتي الخاتمة بما هو معروف لدى الكثيرين بإجازة عبد الناصر عرض الفيلم بعد مشاهدته مرتين.

الدهاشنة هتعيش ولازم تعيش..




تعليقات