حالة شاذة وصورة مهتزة

شاهَدتُ فيلم "الشوق" أثناء عرضه ضمن فاعليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، وهو الفيلم العربي الوحيد المُشارك في المُسابقة الرسمية (!) ، كان يجلس على مقربة منّي المخرجين الكبيرين "محمد خان" و"خيري بشارة" ، وطوال مدة عرض الفيلم كُنت أفكر في الفارق الذي جعلهم يخرجون أفلاماً عظيمة مثل "يوم مر ويوم حلو" أو "أحلام هند وكاميليا" وجعلت مخرجاً مثل خالد الحَجر يخرج فيلماً كـ"الشوق" ، رغم أن تصنيفهم واحد كأفلام تدور حول حياة المُهمّشين والفقراء ، ومع فوارق كثيرة – لصالح خان وخيري قطعاً - في التقنية والصنعة وفهم السينما .. فوارق في الإيقاع والبناء والتفاصيل ، وجدتُ أن الفارق الأكبر هو أنهم كانوا يدركون فعلاً عن ماذا يتحدثون .. يخرجون أفلاماً عما يعرفونه ، ممتلئة بالحياة رغم قسوتها .. لا تطرد الأحلام مهما ابتعدت ، أفلاماً (جميلة) مهما كان حجم القبح الذي تتحدث عنه ، والمشكلة الأساسية في فيلم خالد الحجر – مع كل مساوؤه السينمائية – أنه فيلم (قبيح) يفتقر لأيّ جمال .

-انتَ بتدافع ؟ -لأ باهجم -انتَ بتألف ؟ -وبترجم -انتَ سادي ؟ -ساعات أنا بارجم الهوا وأشعر باللذة !

خالد الحجر يتعمّد أن يغلق منافذ الأمل في كل مراحل فيلمه ، ليصبح فيلماً ضد الحياة ، ملئ منذ لحظته الأولى بالصريخ والبكاء والعويل والكراهية ، يبدأ فيلمه بتمهيد جيّد لأهل الحارة في الإسكندرية التي ستقع فيها الأحداث ، ولكنه ينجرف تماماً بعد ذلك مع سيناريو سيد رجب في خيوط شديدة الميلودرامية ، تجاوزها الزمن فعلاً ، عن الابن الذي يحتاج لعملية غسيل لكليته تتكلف "300 جنية" في الجلسات المتكررة أسبوعياً ، ولا تستطيع أسرته الفقيرة قضاء ذلك ، فتسافر الأم إلى القاهرة لتشحت ! وتعود بثمن الغسلة فتجده ميتاً !! فتقرر العودة للشحاتة من جديد لتكوين الكثير من النقود كي تحمي ابنتيها من الفقر الذي أخذ منها الابن الأصغر وخلال هذا الوقت تنحرف البنتين على مرأى من أهل الحارة !!! ، هل هذه فعلاً قصة فيلم في 2010 وليس 1950 ؟!

المشكلة الأخرى أن الفيلم مرتبك أصلاً في تكوينه الفكري وما يُريد قوله ، يطرحه مخرجه باعتباره مناقشاً لقضية الكبت الجنسي .. وهي القضية التي ظهرت على الشاشة بعد ساعة وخمسون دقيقة من الأحداث – أو بالأحرى اللاَّ أحداث- !! ، يعوّل مخرجه الكبت على الفقر .. ولكن أزمة الفقر تُحَلّ بنقود الأم وعندها يبدأ الانحراف ، إذن المشكلة في القهر الذي يمكن أن يحدث في أي طبقة وليس للفقراء فقط ، ولأن كل المفاهيم لدى خالد الحجر متداخلة ، ولأنه لا يعرف "عالم الحارة" الذي يتحدث عنه – وهو المخرج المثقف الذي أحضر تمويل الفيلم من فرنسا بفضل علاقاته الكثيرة هناك – فإنه يتهته عبر كل مرحلة في الفيلم ولا يريد منها سوى أن تصل بشخصياته إلى مرحلة أكثر سوءً من التي سبقتها ، وكأن هناك لذة في إيذاء الشخصيات والمشاهد طوال الأحداث .

باكره اللي يرقص وسطه واللي مابيعرفش أرسطو مش مفيد الناس ينبسطوا ! المفيد الناس تتأذّى!

الفيلم كذلك "سيء" سينمائياً ، أطول كثيراً مما يجب ، ساعتين وثُلث نصفهم مثلاً مجرّد مشاهد لـسوسن بدر في شوارع القاهرة تقوم بالشحاتة ، أو تجلس لتُعَدّد أمام ابنها المريض ، أو تضرب بناتها وسط صرخاتهن ، أو تخبط رأسها في الحيط وهي تردد بإيقاع هيستيري "هتموتوها يا ولاد الكلب" في مشاهد مزعجة للمُشاهد بسبب قبحها ، لا يوجد مونتاج في الفيلم لأنه بالأصل لا يوجد إيقاع .. أو بشكل آخر "الفيلم ممل" لأن نصف أحداثه يمكن أن تحذف بسبب التكرار ، ولكن المونتيرة منار حسني لم تأتِ ! ، المشاكل نفسها موجودة بصرياً .. المصور (العالمي !!) نستور كالفو لا يستطيع إضاءة المشهد بشكل جيّد ! ، هناك ضعف واضح في المشاهد الخارجي في الفيلم ، مشاهد كثيرة يبدأها "آوت أوف فوكس" دون أي مبرر أو علاقة بدراما الفيلم .

في النقاط القليلة المضيئة ، هناك ديكور مميز من "هند حيدر" حاولت من خلاله أن تخلق عالماً للحارة ونجحت إلى حدًّ بعيد ، هناك أداءات ممتازة من الجميع ، ربما هي الفرصة الأولى لسوسن بدر لكي تظهر إمكانياتها التمثيلية إلى هذا الحد رغم بعض الافتعال الذي شاب أداءها في لحظاتٍ قليلة ، في مقابل أداءات متوازنة جداً من روبي وأحمد عزمي وكوكي ومحمد رمضان والمؤلف سيد رجب الذي مثّل دور الأب أفضل كثيراً مما كتب الفيلم نفسه ! ، هناك أيضاً بضع لحظات جيّدة تهرب من سياق القبح لتظل غير مُكتملة .. كذلك المشهد الذي تقوم فيه "عواطف" بَغسل أختها "شوق" ولومها على محاولة الإنتحار .. أو الآخر الذي يذهبان فيه للأب لتخبراه أن حسين سيخطب شوق .. أو مشاهد شوق وحبيبها حسين والكيميا بينهم ، وكلها مشاهد استطاعت فيها روبي – ذات الملامح المصرية جداً – أن تمنحها صدقاً واضحاً .

بنهاية الفيلم على شاطئ الإسكندرية في مشهد يجمع بين الشقيقتين "شوق وعواطف" ، تذكرت سريعاً مشهد مشابه على شاطئ الإسكندرية أيضاً يجمع بين "هند وكاميليا" في نهاية رائعة محمد خان ، كم كان الأخير منحازاً للأمل والحياة رغم كل شيء ، وكيف أغلق الخجر كل سبل الحياة أمام شخصياته ليصل بهم للانحراف ، انحزت لأحلام خان بالكامل .. فكرياً وعاطفياً وسينمائياً .. ووجدت نفسي أتذكر بيت من قصيدة عظيمة لفؤاد حداد أردده أمام الحجر وفيلمه: "حالة شاذة .. حالة شاذة ، صورة مهتزة مهتزة" !

  • المقاطع الشعرية في المقال من قصيدة "حالة شاذة" لـ"فؤاد حداد"

نقد آخر لفيلم الشوق

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
حالة شاذة وصورة مهتزة Mohamed Elmasry Mohamed Elmasry 4/5 8 ديسمبر 2010
"الشوق".. تحيا السينما الواقعية رغم سوداوية الأحداث سلامة  عبد الحميد سلامة عبد الحميد 3/3 17 ديسمبر 2010