جواد الحرب.. هذا اليهودي العجوز وأفلامه العظيمة

بمرور الزمن يكبر جيل المخرجين الذي تربينا على أفلامهم منذ السبعينيات.. ويبدأ كلٍ منهم في التغير عما كانه منذ 20 عامًا. بالتدريج يتحول فلا يعود بذات الرؤية، ولا نفس الشخص الذي أحببناه، ولا يعود لأفلامه نفس المذاق الحريف الذي كنا نستشعره قديمًا حينما كان يترك قطعة من قلبه داخل العمل للأبد. في هذه الأيام لن تصادف كثيرًا مخرجًا يتمتع بهذا القدر من الوفاء والإخلاص للشخص الذي كانه.. للطفل بداخله.. للحنين الجارف لكل ما هو بعيدًا عن تعقيدات عالم الكبار.. لذا أتصور أن رواية جواد الحرب لمايكل موربورجو لم تكن لتظهر على الشاشة بكل هذه السطوة، إذا كان قد تناولها شخص أخر لا يدعى ستيفن سبيلبرج.

منذ اللقطات الأولى للفيلم، وإن كنت مثلي ممن قرءوا القصة الأصلية، ستعلم تمامًا أن قلبك سيتمزق مع تتابعات النهاية... ليس فقط لأنك تعرف أن تفاصيل الحكاية ستقود لهذا.. لكن لسبب أبسط بكثير هو أنك تعرف سبيلبرج جيدًا.. وتعرف تلك الأفلام التي يصنعها لمزاجه الخاص قبل أي شخص والتي تخرج بالمناسبة أفضل أفلامه... نعم ابتهج يا صديقي.. هذا فيلم ينتمي لإي تي، هووك، وإمبراطورية الشمس، ويدين لهم بالكثير.. فيلمًا لكل الأطفال الذين لم يكبروا بعد.

دعنا لا نخوض في تفاصيل قصة الفيلم كي لا نكون مملين، فالحدوتة تنتمي لهذا النوع الذي يحكمه النسيج، والذي يفقد كل شيء إذا حاولت أن تلخصه.. لنقول فقط أن الحكاية تتبع صبي مزرعة وحصان يدعى جووي تربطهما علاقة صداقه وتفرقهما الحرب، ويضطرا أن يعيشا أهوالاً قبل أن يجتمعا سويًا مرة أخرى مع نهاية الفيلم.. قد يخطر ببالك، هي قصة ذات نهاية سعيدة إذاً.. نعم هي كذلك، لكنها مع هذا مؤلمة للغاية.. وتنضوي على تلك السعادة الشاعرية الشجنه التي تمزق نياط أعتى القلوب.

والآن ماذا عن الفيلم كصنعة سينمائية... سأقول كلمتان فقط.. تصوير مفعم (تقرأها بالفتحة أو بالكسرة لا يهم). وسرد بصري لا حد لبلاغته.. أنشودة شاعرية باستخدام الضوء ستترك فمك فاغرًا على إتساعه لمحاولة إستيعاب هذا القدر الكبير من الجمال.. هذا ناهيك عن ضخامة المشاهد وزوايا الكاميرا التي لن تصدقها مالم تراها.. لا أتحدث بالطبع عن بهلوانات الكاميرا التي نشاهدها في أفلام الكوميكس، بل أتحدث عن فهم واعي ودقيق للحالات المزاجية للمشاهد، والاشخاص، وللحصان أيضًا.. وما يناسبهما كي يظهرا في أبهى صورة.

مثلاً هناك مشهد هروب جووي فزعًا بعد موت رفيقه، حصان أخر كان يصحبه طوال الرحلة.. من الممكن أن أسرد صفحتين في وصف بصرية المشهد، لكنك في النهاية لن تخرج بربع قوته.. هناك جواد خائف وغاضب يركض في سعار مجنون قافزًا من فوق الخنادق.. يخترق صفوف الرجال.. يسقط بقسوة شديدة سقطة حقيقية وليست ملفقة.. يقوم مجددًا.. تنفجر القذائف بجواره.. ينعكس ضوء القمر من وراءه ليكسبه جلالاً أسطوريًا.. يركض، ويركض، ويركض إلي أن يصل إلى أسلاك شائكة شديدة التشعب.. يخترقها بجسده ممزقًا إياها ونفسه في ذات الوقت.. ثم يسقط شبه ميت وسطها. الكاميرا هنا تستخدم كقلبه النابض.. تشعرك بكل خلجه تعتمل في داخله.. تتغزل فيه.. تزيد من وقع هيجانه.. وتصدح موسيقى جون ويليامز على خلفية كل هذا، لتجبرك أن تصفق بيديك إنفعالاً بعد إنتهاء المشهد.

لم يخلو الفيلم أيضًا من بعض الفكاهة الخفيفة التي أضافت له كثيرًا من وجهة نظري، تلك الإوزة الحمقاء التي تقوم بدور كلب الحراسة في منزل الأسرة المالكة لجووي.. العلاقة القائمة على الندية المتبادلة بين الطفلة وجدها المعزولان عن العالم في مزرعتهما وسط خضم حرب مستعرة.. أيضًا جووي نفسه كان لطيفًا ومرحًا للغاية في بداية الأحداث.

شيئان فقط لم يعجباني كثيرًا.. إصرار سبيلبرج على نظافة الفيلم الزائدة، كأن يكون بلا نقطة دماء واحدة حتى في أعتى مشاهد المعارك (تلك التي صورت بنفس جودة نظريتها في إنقاذ المجند ريان ولكن بلا دماء).. الشئ الثاني هو ما نتوقعه من اليهودي العجوز من تحيز ضد الألمان وإضفاء العنف وعدم التحضر عليهم.. هذا باستثناء مشهد وحيد رائع يقوم فيه جندي ألماني وأخر إنجليزي بتحرير جووي من الأسلاك الشائكة التي علق بها، لتنمو بين الإثنين حالة وفاق وسلم مؤقت عولجت بأناقة.. ليكون المشهد تمهيدًا لوضع الحرب أوزارها وانتهاء الصراع... المشهد يتبع الرواية حرفيًا كمعظم المشاهد الأخري، فإخلاص سبيلبرج لرواية موربورجو شبه تام، وهي من النقاط الأخرى التي تحسب للعمل والتي زادت من جماله.

وكالعادة مع أي فيلم من أفلام سبيلبرج العظيمة التي يصنعها لمزاجه الخاص ولإرضاء الطفل بداخله، يجب أن تحضر كمًا مناسبًا من المناديل الورقية.. فهذا الرجل قادر على استنزاف دموعك ومشاعرك بمنتهى الحرفية في كل مرة.. فقط حين يفعل ما يحب أن يفعله في الحقيقية، لا ما أن يكون مضطر لفعله كي يقدره النقاد والمتحذلقون حول العالم.

نقد آخر لفيلم War Horse

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
جواد الحرب.. هذا اليهودي العجوز وأفلامه العظيمة نادر أسامة نادر أسامة 5/5 10 يناير 2013