الجلد الذي يعيش فيه ألمودوفار

نبذة عن الميلودراما: (أواخر التسعينات، طبيب تهجره زوجته وتهرب مع ابن المربية العجوز، في طريق الهرب تتعرض سيارة العاشقيْن لحادث مفزع، ينجح الرجل في الهرب ويترك الزوجة تحترق داخل السيارة حتى ينجح الطبيب في الوصول إليها وإنقاذها، إلا أنها تنتحر بمجرد أن تدرك ما ألم بها من حروق وتشوهات... بعد تسع سنوات تنتحر الابنة على طريقة أمها بالقفز من النافذة بعد تعرضها لمحاولة اغتصاب، الطبيب يتتبع الشاب الذي تحرش بابنته، يخطفه، يجرى له جراحة تحويل جنس، يصنع منه امرأة يحبسها في منزله داخل حجرة خاضعة لكاميرات المراقبة، يجري عليها بعض التجارب العلمية لتطوير الجنس... بعد ست سنوات يعود ابن المربية الهارب لزيارة أمه، يتعرف على ملامح الزوجة الراحلة في وجه المرأة - صنيعة الطبيب - المعروض على شاشات المراقبة، يقتحم حجرتها ويغتصبها ظنا منه أنها الزوجة فتستسلم على أمل أن يحررها من سجن الطبيب الذي يعود في نفس الوقت فيقتل الرجل الذي تعلم المربية وحدها أنه شقيقه، فقد أنجبته من أحد الخدم كما أنجبت الطبيب من صاحب المنزل الذي عملت به منذ طفولتها، والذي نسب الطفل لزوجته العاقر وإن تكفلت هي بتربيته، ليلة القتل تروي المربية القصة بالكامل للمرأة التي صنعها الطبيب ومنحها وجه زوجته الراحلة، في نفس الليلة تصحو مشاعر الطبيب فيقترب من صنيعته لأول مرة بعد طول مراقبة، يستضيفها في سريره حيث لا زال سريرها ملطخا بدماء شقيقه الذي لا يعرفه، يعدها أن يعيد إليها حريتها كما تعده ألا تتركه أبدا، في اليوم التالي تنجح في قتله وقتل المربية وتهرب، تعود أخيرا إلى أهلها... هذا عن أحداث فيلم المخرج الأسباني بيدرو ألمودوفار الأخير "الجلد الذي أعيش فيه" والتي تكفي لصناعة فيلم مثير لا أكثر.. أما عن السحر الذي دفعني للكتابة فثمة حكاية أخرى)

فن التلصص:

  • لقد قرأت هذا فى (سينما تشارلز) صناعة الأفلام تحمل نظرة جنسية لكل إنسان.. تبدو الكاميرا مثل ثقب مفتاح الباب المؤدى لفراش والديك وأنت تتجسس عليهما ويثير هذا إشمئزازك وتشعر بالذنب لكن لا يمكنك النظر بعيداً.. هذا يجعل الفيلم مثل الجريمة والمخرجين كالمجرمين كالأشياء غير القانونية..

... الحوار من فيلم (الحالمون) لبرتولوتشي، أتذكر الآن عبارة محمد شكري في رسالته إلى بول بولز (الفن والجريمة كانا متحدين غير قابلين للحل والفسخ، فبقدر ما كان الفن عظيما كان عقابه بالغ الشدة) في الغالب سينشغل الناس بالجريمة، وعادة لا تخلو أفلام ألمودوفار من جريمة، إلا أن الجريمة هذه المرة تجيء خارقة للعادة، (اختطاف رجل وتحويله لامرأة) هو أمر لا يحدث كل يوم، مثل بقعة صارخة يضعها ألمودوفار نصب أعيننا الجائعة النهمة والتواقة بطبيعتها للتلصص. هذه المرة تجيء الجريمة كذلك في ثوبها الإغريقي، كما يؤكد ألمودوفار في حواره لصحيفة الجارديان البريطانية على استحالة المقارنة بين فيلمه وبين رواية فرانكنشتاين وإن كان يستشهد ببروميثيوس بطل الأسطورة اليونانية الذي سرق النار من زيوس ومنحها للبشر وأصبح مصدر إلهام للروائية الإنجليزية ماري شيلي صاحبة فرانكنشتاين، (هو بصريا نوع من السوبرمان) على حد قول ألمودوفار، إلا أن الجريمة في هذا الفيلم بالذات تظل هي الفخ الذي ورطنا فيه ألمودوفار كي ننشغل في تفاصيلها بينما يتسنى له – في الوقت نفسه – أن يناقشنا في الفن، في الغالب سينشغل الناس بالجريمة، يعلم ألمودوفار ذلك حين يترك المشاهد عاجزا عن إطلاق أحكامه على شخصيات الفيلم، عاجزا عن أن يحبها أو يكرهها أو يفهمها من الأصل دون الإلمام بأبعادها المتناقضة والجوانب المعقدة منها التي تتكشف على مدار ساعتين، والآن وقد استغرق الحديث عن الجريمة أكثر مما يجب، دعونا نتحدث قليلا عن الفن.

طبقات الجلد ومستويات التلقي:

يقدم ألمودوفار تشريحا دقيقا لطبقات الجلد التي تتخذها الإنسانية على مر العصور ستارا لها أحيانا، وتأكيدا على هويتها أحيانا أخرى، وإنكارا لهويتها أحيانا ثالثة، أو إعلانا عن انتمائها لجماعة أو فئة معينة سواء بقرارها أو بحكم المجتمع وتصنيفاته، في البداية كان (جلد غال المحترق) زوجة الطبيب وقد تعمد ألمودوفار تصويره وتجسيد مدى بشاعته بحجة العودة للماضي، لا ليكشف لنا عن ماضي الطبيب وزوجته فحسب، وإنما لتتذكر عيوننا بشاعة الصورة كلما فكرنا في صب لعناتنا على مشرط الطبيب الذي يجسد هنا دور العلم، والذي يتدخل في كل جوانب حياتنا بداية من الملابس والخضروات مرورا بالفن والثقافة وصولا إلى محاولات تطوير الجنس البشري، ومن (جلد غال المحترق) إلى (جلد غال الصناعي) الذي ينجح الطبيب في تطويره ليكون جلدا مقاوما للنار والأمراض ويطلق عليه الاسم تخليدا لذكرى زوجته، ومن (جلد فيسنت) الشاب الذي اختطفه الطبيب إلى (جلد فيرا) المرأة التي صنعها الطبيب من فيسنت لتكون فأر تجاربه، ومن (جلد الأم) التي ترى ولديها وأحدهما يقتل الآخر أمام عينيها دون أن تجرؤ على الإفصاح عن سر أنهما شقيقين إلى (جلد المربية) التي تفضل الأم أن ترتديه عند عودتها للمنزل تماما كمريلة المطبخ وتقول لابنها الطبيب الذي لا يعلم أنها أمه (أنا أحب هذا الزي لأنه يعني أننا سنكون سوياً مرة أخري) ومن (جلد العالِم) الذي يتخذه الطبيب روبرتو متمثلا في الروب الأبيض إلى (جلد النمر الكرنفالي) الذي يتخذه شقيقه للهرب من الشرطة فيعود من آخر الدنيا هاربا ليلقى حتفه على يد شقيقه الذي لا يعرفه. ربما لذلك لاحظت الطريقة التي يتعامل بها الأطباء في الفيلم مع ثيابهم في غرفة العمليات، (الحلل الخضراء/ الأرواب البيضاء/ القفازات) تماما كما يتعامل الكهنة مع ثيابهم باحترام وخشوع. ثمة مستويات عديدة من الحكي ممكن أن ترويها قصاصة جلد أو قطعة ثياب، فعلى هامش الحكاية وفي محل الفساتين الذي تملكه (أم فيسنت) يظهر رجلان من جيرانها ذات نهار، يخبرها أكبرهما أنه جاء يبيع ثياب زوجته التي هجرت المنزل، تسأله السيدة (هل رحلت زوجتك أم اختفت؟) فيجيبها (كلا الأمرين كي أكون صريحاً إنها تفعلها باستمرار، نحن مُعتادين علي هذا، لذا في المرة المُقبلة عندما تفعلها سيتوجب عليها الرحيل عارية لأنني سأبيع ملابسها!) هو مشهد عابر لكنه يكفي ليخبرنا بألف حكاية وحكاية من خلال ثياب الزوجة المفقودة، يكفي لاستدرجنا إلى ألغاز جديدة. لكن بعيدا عن ملحمة الجلود هذه يظل السؤال (ماذا يريد ألمودوفار حين يورطنا في تلك الجريمة الفريدة من نوعها ؟.. وإذا كانت الجريمة - كما لا زلت أدعي - هي الجزرة التي علقها ألمودوفار نصب أعيننا لننشغل فيها ففيم كان ينشغل هو ؟!.. ولو كانت الجريمة كذلك هي العنوان الافتراضي الذي بنى عليه الفيلم فأين يكون الفيلم الحقيقي ؟!)

في البدء كان سوء الفهم:

ومن ثم كانت المفارقة، وإذا كان الفيلم يحتوي على واقعتي اغتصاب، الأولى "اغتصاب زيكا (شقيق الطبيب من المربية) لفيرا (شبيهة الزوجة الراحلة/ فيسنت سابقا) والثانية "اغتصاب الشاب فيسنت لنورما (ابنة الطبيب)" فدعونا نتعرف من خلال الواقعتين على رأي ألمودوفار في الاغتصاب وفي الدراما وفي الإنسانية أولا وأخيرا. لنجد البطل الحقيقي في الواقعتين هو سوء الفهم. في الواقعة الأولى يغتصب زيكا فيرا ظنا منه أنها غال عشيقته القديمة.. وتستسلم له فيرا على أمل أن يحررها من قبضة الطبيب روبرتو.. فيما يصل روبرتو ويقتل زيكا دون أن يعرف أنه شقيقه.. وبناء على سوء الفهم هذا تتغير علاقة الطبيب بفيرا لأول مرة فتكون خطوتها الأولى في طريق التحرر.. أما في الواقعة الثانية فيكشف سوء الفهم عن نفسه من أول وهلة.. تبدأ علاقة فيسنت بنورما في حفل زواج عابر، شعور متبادل بالإعجاب، ينتهز فيسنت الفرصة لاصطحابها للحديقة الخارجية ويخبرها أنه الليلة قد تناول بعض الحبوب ليشعر بالنشوة، فيما تخبره بدورها عن مختلف صنوف الحبوب التي تناولتها فلا يفهمها ولا يفطن لأن الفتاة تتلقى علاجا كيماويا منذ أن شاهدت انتحار أمها في طفولتها، كانت تردد أغنية علمتها غال إياها في حديقة المنزل عندما نهضت الأخيرة من فراشها على صوت الغناء لأول مرة منذ وقوع الحادث وقد عادها الحنين مع صوت ابنتها فمضت تفتح النافذة واستطاعت لأول مرة أن ترى جلدها المشوه المحترق على زجاج النافذة فقزت منها لتسقط في الحديقة أمام طفلتها، ورغم إعجاب نورما الواضح بفيسنت في الحفل واستسلامها لأحضانه في الحديقة الخارجية إلا أن نفس الأغنية التي علمتها غال إياها تعود فجأة بصوت مطربة حفل الزفاف التي تهدي الغنوة للعروسين وتعيد على نورما الذكرى المشئومة لانتحار أمها فتدخل في حالة هسترية وتعض على أصابع فيسنت بوحشية حتى تجرحه، يضطر لإسكاتها بصفعة تفقدها الوعي لدقائق يعيد خلالها فيسنت ضبط هندامها بحنو ورقة واضحين ثم يهرب من الحفل، وعندما يصل روبرتو لا يرى إلا هروب فيسنت من المكان على دراجته البخارية، وملابس نورما التي ألقت بها طواعية في كل مكان، يحاول إيقاظها إلا أنها تدخل في نوبة هستيرية أخرى أبشع من سابقتها، ومن كل ما سبق نتبين أننا أمام ثلاث وجهات نظر يحكمها جميعا سوء الفهم.. فمن وجهة نظر الأب يبدو مسرح الجريمة معبرا بما فيه الكفاية عما فعله فيسنت بابنته، ومن وجهة نظر فيسنت هو لم يعد يذكر أساسا ما حدث في الحفل بسبب الحبوب التي تناولها في تلك الليلة، ومن وجهة نظر نورما فقد أفاقت من إغماءتها لتجد أبيها يحاول تهدئتها واحتضانها وقد اقتنع عقلها المضطرب بأن أبيها روبرتو هو من شرع في اغتصابها.

حوارية الأزرق والرمادي:

ولكن لم تقف طموحات ألمودوفار عند هذا الحد. كانت تلك هي المقدمة – لا أكثر – لرحلة مغايرة يصطحب فيها المتلقي إلى أفاق غير مسبوقة وكما تذكر الجارديان البريطانية (إن المودوفار، وهو في الحادية والستين من عمره لا يخاف المغامرة في أراض جديدة) وماذا نتوقع غير ذلك من (الطفل الشقي) الذي استحق هذا اللقب منذ فترة الثمانينات. هكذا يفتح المتفرج عينيه ذات مشهد ليجد صوتا غريبا باردا يخبره (أنت الآن امرأة.. اسمك لم يعد فيسنت بل فيرا.. كما رأيت للتو، أنت تعرف أن العملية قد نجحت تماماً ولكن أنسجة المهبل قد تكون لينة بعض الشييء ومُلتصقة ببعضها ولكن لاتقلق من السهل تحسين هذا.. يجب عليك إبقاء الفوهة الجديدة مفتوحة وأن تديرها شيئاً فشيئاً كي تجعلها أكثر عمقاً.. فكر بأن حياتك تعتمد علي هذه الفتحة بأن تنفسك سيكون من خلالها.. في هذه الحقيبة ستجد العديد من المُوسعات بأحجام مختلفة إبدأ بإدخال أصغرها.. سوف يؤلمك في البداية ولكن بعد بضعة شهور سيكون الأكبر مناسباً دون أي مجهود !!) هذا ليس صوت الطبيب روبرتو يتحدث لضحيته فيسنت، بل هو صوت ألمودوفار يتحدث إلى المتفرج، وإلى مجتمعات إنسانية لا زالت السيطرة الذكورية كابسة على أنفاسها، هو صوت لا يشبه الصراخ إنما هو أقرب للهمس القاتل، وقد اكتسب قوة إلهية من موقف الطبيب المسيطر أمام موقف الجسد المنتهك، جسد الشاب فيسنت، والذي يحل محل المتفرج في المشهد التالي فنرى روبرتو من وجهة نظر الكاميرا يدقق النظر ما بين ساقي فيسنت المفتوحتين على اتساعهما على طاولة الكشف، وقد صارتا ساقي المتفرج أيضا في هذه اللحظة، ثم يبدأ الجزء الأروع من الفيلم حيث تبدأ فيرا في التعرف على نفسها مثل مخلوق جديد صنع من نار بروميثيوس وحنين روبيرتو إلى زوجته، ثمة ضعف إنساني بريء خلف كل مأساة، يعرف ألمودوفار ذلك جيدا، تبدأ فيرا في إعادة ترتيب علاقاتها بالعالم، بالحب، بالجنس، بالمجتمع، بالمعرفة، بالزمن، بالحرية، ثمة ثوابت وثمة متغيرات، هذا ما نخلص إليه في النهاية، فمثلا قرار (فيسنت/ فيرا) بالانتقام من روبرتو هو قرار لا يتأثر كثيرا باختلاف النوع، وقد فاجأتنا فيرا أكثر من مرة بالانقلاب على روبرتو ومحاولة قتله والهرب من بين يديه رغم محاولاتها الماكرة طوال الفيلم لاستمالة قلبه، ومع كل محاولة جديدة منها للتأثير عليه نسأل أنفسنا السؤال المستحيل (هل يمكن للحب أن يولد فعلا بين فيرا وروبرتو؟.. هل يجيء هذا الحب إيذانا بموت ذكرى فيسنت للأبد؟) صراع متوتر بين درجات الأزرق والرمادي على مستوى الصورة، بين حنين البيانو وثورة الكمان على مستوى الصوت، بين إرادة فيرا وإرادة خالقها على مستوى الدراما، بين الذكورة والأنوثة، الهوية والنوع، الحب والحب كذلك!

وأخيرا... لماذا أحب بروميثيوس؟ لماذا أحب ألمودوفار؟

في حواره العابر مع (كرستينا) الفتاة الجميلة العاملة بمحل الفساتين الذي تملكه أمه يعرض عليها فيسنت ذات يوم فستانا ملونا بألوان الزهور إلا أنها ترفض هديته كما تصارحه أنها لا تحب الرجال، لذلك ترفض أن تذهب معه لحفل الزفاف في آخر ليلة يعيشها فيسنت في جلده القديم كرجل.. بعد ست سنوات تفاجأ كريستينا بفتاة رائعة الجمال تدخل المحل وتهمس لها.. (لا أعرف من اين أبدأ يا كريستينا.. أنا فينست!، لقد تم خطفيّ، وقاموا بإجراء تغيير جنسي ليّ، توجب علي قتل شخصين كي أهرب يجب أن تُساعدينيّ) تشير فيرا إلى الفستان الذي ترتديه وتواصل كلامها (هل تتذكرين هذا الفُستان؟ قبل زفاف "كاسيلدا" مُنذ ست سنوات لقد قلت سوف أعطيكِ إياه كي أراكي وانتِ ترتديه فقط، وأنتِ قُلت "إن كان يُعجبك لهذه الدرجة فارتديه أنت، في تلكَ اللحظة كنا بمُفردنا، أتتذكرين؟!!) هكذا يعود (فيسنتx فيـرا) من رحلته وقد حصل على أفضل جلد في العالم (جلد غال المقاوم للحريق والمرض) بل يحصل على الجلد الملائم تماما لممارسة الحب مع كريستينا حبيبته التي لا تحب الرجال، بعبارة أخرى الجلد السحري الذي يؤهله للتوافق مع عالمه القديم (لاحظوا أن كاريزما فيرا "الممثلة الينا أنايا" الطاغية لا تقارن بكاريزما فيسنت "الممثل جان كورنت" الذي بذل مجهودا مضاعفا لإطفاء (وليس إضفاء) أي كاريزما لديه بيده وبتحريض من مخرج حصيف يعرف تماما ما يريد، لنجد في النهاية فيرا أكثر سحرا - وجاذبية وتوافقا مع عالمها - من فيسنت، إلى هنا لم ينته الفيلم، بعد أن تستوعب كريستينا كلام (فيسنتx فيـرا) تنادي على أم فيسنت التي لم تيأس طوال هذه السنوات الست من انتظاره، لتقدمها للفتاة الجميلة فيرا التي تستغرق فترة طويلة من الصمت قبل أن تواجه الأم بصوت يكاد (يكاد) يكون مسموعا (أنا فيسنت!) وهنا تحديدا في تلك اللحظة التي يتصالح فيها الثالوث مع الأمر الواقع ينهي ألمودوفار فيلمه، أقول لا أحد ينهي فيلما مشبعا بالصراع والجريمة والشك بمثل تلك النهاية المشرقة سوى ألمودوفار، لا أحد سواه على وجه الإطلاق يمكنه أن يبحث عن الجمال والحب حتى في أكثر المآسي غرابة وقسوة، أن يحول إرادة زيوس الحارقة المدمرة إلى شعلة نور تضيء ظلمات النفس الإنسانية كعمل بطولي لم يسبقه إليه سوى بروميثيوس الشجاع، تلك القدرة الهائلة على التسامح وحب الحياة التي تتميز بها أفلام ألمودوفار تعد القيمة الكبرى والمفتاح الحقيقي لقراءة عالمه. أعتذر عن طاقة الحب التي تفضحني حيال ألمودوفار والتي شغلتني كثيرا عن التوغل في مختلف عناصر الفيلم، لكني أخص بالذكر التمثيل على هامش السيرة، ويكفي أنني للمرة الأولى لم أشعر بوجود (بانديرس) في الفيلم كضيف ثقيل طالما ملأ حياتي عنفا ودما ورصاصا في أفلام الحركة التي تربع على عرشها، فقد نجح في الاختفاء التام في حضور الطبيب روبرتو، أما عن (إلينا أنايا) فالشكر لها من قبل ومن بعد، فقد مرت خلال الفيلم بجميع المراحل والانفعالات التي لم يمر بها ممثل من قبل بداية من لحظة الخلق مرورا بإعادة إكتشاف الذات وصولا إلى مشهد العودة للقاء الأم بعد التحول في مشهد النهاية، وأعتقد أنني سألت نفسي حينها (كيف يمكن لممثل أن يعبر عن هذه اللحظة) أعود فأكرر (إن رجل يلتقي بأمه ويقدم لها نفسه بعد أن تحول لامرأة) هو أمر لا يحدث كل يوم لا في الواقع ولا في السينما، مثل هذه الموضوعات تتطلب من الفنان قدرة حقيقية على الخيال والابتكار، أما عن طاقة ألمودوفار التي أشرت إليها سابقا فثمة حكاية أخرى تأتي على هامش فيلمه السابق (أحضان محطمة) حيث كان بطل الفيلم كاتبا يخطط لكتابة قصة عن ابن الكاتب آرثر ميلر من مارلين مونرو، كان الابن مصابا بنقص المناعة وقد أخفته مارلين بعيدا عن العيون أما ميلر فلم يذكُره حتى في مذكراته ولم يحاول رؤيته أبدّاً رغم توسلات زوجته، ولكنهما تقابلا ذات يوم بالصُدفـة، كان «ميللر» يٌلقي مُحاضرة في الدفاع عن مُتخلف عقلي حُـكِـمَ عليه بالموت بعدما اُجبرَ على الإعتراف، وكان الابن بين الجمهور فصعد بعد المحاضرة إلى المنصة وعانق أبيه، لم يعرف «ميللر» كيف يتخلص من هذا الرجل الغريب الذي قال له بعد ذلك (أنا فخور جداً بك يا أبي!) وعندما تقترح مديرة أعمال الكاتب (يجب أن نسأل عائلة "آرثر ميللر" عن حقوق الملكيّة) يخبرها الكاتب ببساطة (نحن سنغيّر الأسماء ، إن القصة لا تتعلق بخِسة "آرثر ميللر" بل تتعلق بقوة الابن الذي بقي دون أي حقد على أبيه الذي تجاهله طوال هذه السنين!) تلك كانت فكرة أساسية وموجزة عن الجلد الذي يعيش فيه ألمودوفار، الجلد الذي يتسع لمحبة العالم أجمع.

نقد آخر لفيلم The Skin I Live In

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
الجلد الذي يعيش فيه ألمودوفار ahmed nabil ahmed nabil 1/1 23 يونيو 2016