"تايلر ديردن والترنُّح بين الواقع والخيال .."

أنتَ تعشق (تايلر ديردن).. مُتيّمٌ تماماً بفلسفته الحياتية الخاصة، حافظٌ لكلماته وإيمائاته بـ(نادي القتال) عن ظهر قلب، تنظر له كإنسان جيد، إنسانٌ يجب إتباع فلسفته و-ربما- نشرها بين عقليات البشر في ربوع الأرض.. تعتبره نموذج لمثلك الأعلى في الحياة، تعتبره شخص مُرشد ومعين لك في العالم المُتقلِّب، المجنون، و(المُصتَنَع) الذي نعيش في رحبه اليوم.. أو هكذا تظن نفسك تفعل.

مشهد (1) | نهار داخلي | وحيداً في منزل الجدة النائمة. .

أضع إفطاري على مائدة السفرة وبجانبه فنجان القهوة المعتاد، ألتقط هاتفي المحمول من نهاية المائدة وأختار من ضمن عشرات الأغنيات عليه أغنية بعنوان (Finding The Bomb) لأسمعها أثناء تناولي للأكل، التتابع الموسيقي الشهير لفيلمي المُفضل الذي أُحب أن أصفه لأحد أصدقائي أنه (شكَّلني) بطريقةٍ ما، المقطوعة التي أجدها مُلائمة جداً للحالة اللحظية الراهنة: الساعة الثامنة والنصف صباحاً.. وعندي إمتحانٌ في (معهد السينما) بعد ساعة ونصف من الآن !.

أجلس لتناول فطوري بعد أن انتهيت للتو من مراجعة سؤال المعلومات العامة الذي يتمنى قلبي ألا يأتي من الأصل، ها هو قد جاء التتابع الإيقاعي المُفضل لي من المقطوعة، أنا سعيدٌ الآن.. (اللحظة أصبحت سايكوباتيّة وجامحة بإمتياز!) أقولها في نفسي وأنا أفكر أن هذه المقطوعة إذا ما كانت لتُسمَع، فيجب أن يحصُلَ هذا في قلب المعمعة وفي ذروة الحالات الشعورية المُتضاربة في المواقف الحياتية.. ليس هنا، وقتها (ليس مثالياً) الآن!.. أنظر في الساعة، خمسُ دقائقٌ مضت، كثيرٌ جداً على وجبة إفطارية خفيفة !، أقوم مُسرعاً لأُكمل أموري قبل الرحيل.

مشهد (2) | نهار داخلي | لجنة الإمتحان/أحد فصول معهد السينما. .

أنتظر في تلهُّف ورقة الإختبار التي تأخرت بضع دقائق.. فيما ستُسفر عن أسئلة وإلى أيُّ مدى ستكمن صعوبتها يا تُرَى؟، تأتي الورقة.. ألمح بنظرة خاطفة قبل تدوين إسمي عنوان فيلمي المفضل، أكاد لا أُصدّق !.. سؤالٌ عن الفيلم الذي ما زالت موسيقاه في ذهني؟!، أقرأ بتمعُّن السؤال الذي يبدأ بالإقتباس الشهير لتايلر ديردن (الأشياء التي تملكها في النهاية هي التي تملكك) قبل أن أجد إحدى حواجبي ترتفع عن الأخرى راسمةً الحيرة على وجهي بوصولي للكلمات الأخيرة للسؤال: (ضع العبارة في سياق درامي ملائم من وجهة نظرك يختلف عن سياقها الدرامي بالفيلم الأصلي من خلال معالجة سينمائية مبتكرة) !! .. تتبادر الإنطباعات الأوّلية كـ"بالتأكيد سأُبدع بالإجابة.. فأنا حافظ هذا الفيلم عن ظهر قلب".. أُعيد قراءة السؤال لأتفاجأ أن الأمر مُختلفٌ هذه المرة، سياقٌ ماذا؟!.. ياللهول !، أفكر قليلاً بضع دقائق في كينونة عبارة تايلر الفيلمية لأُذهَل أني لم أجد شيئاً آخر (مُلائماً) !!.. هل أعشق الفيلم لهذه الدرجة التي تمنعني من التفكير في صيغة أخرى لدراميّته؟!، تعاود ذاكرتي رصد شريط الفيلم سريعاً في ذهني لتضربني كلمات تايلر الأخرى في صميمي وسط بعثرة الأفكار في رأسي.. (أنت نفس المادة العضوية المتحللة مثل كل شيءٍ آخر.. نحن النفايات المُغنّية والراقصة فى هذا العالم)، ثانية واحدة.. كيف يأتي هذا السؤال أصلاً ؟!، كيف يمكن تقديم ما هو (أنسب) أو (أفضل) من مُفارقة المجتمع الإستهلاكي -المُقدّمة بالفيلم- على خلفية تلك الفلسفة ؟!، ربما كان السؤال يقصد وضع نفس التيمة -التي تُمثل الطمع/الجشع/اللاشبَع هنا- في قصةٍ مختلفة، ذات الفكرة بشكلٍ آخر..

انقطع حبل أفكاري فجأةً بعدما سأل مَن ورائي قائلاً: "سياق درامي هنا المقصود به قصة قصيرة أم معالجة درامية؟ أم سيناريو قصير؟. . أم ماذا تحديداً؟!" فأجابه المعنيّ بالإجابة: "أجب بالنمط القصصي الذي يحلو لك" !، فتسائلت في نفسي هل هناك فرقٌ حقيقي بالأساس بين المعالجة والقصة؟ أليست المعالجة هي قصةٌ من نوعٍ ما؟ أم ربما القصة السينمائية غير تلك الأدبية حتى مع إشتراكهم في سمة القُصر؟!.. أأكتبها كـ(قصة أدبية قصيرة) أفضل أم كموقف دراميٌ غير مُكتَمِل البناء ؟!، الأمر كان مُحيّراً بالنسبة لي.

ظلتُ أفكر في موقفٌ دراميٌ جيد ولم أجد.. وسط هذا الكمّ من المُشاهدات السينمائية والقراءات الوافية لقصص يوسف إدريس القصيرة ولم أجد!!، في النهاية أضع أسهل إجابة لتلك التيمة الشائعة: الإنسحاق وراء الجشع المالي بالتأكيد!، (لا يهم.. هذا هُراءٌ على أية حال.. كيف يأتي هذا السؤال أصلاً؟!) أقولها في نفسي.. .. دايفيد فينشر كان عظيماً بحقُ الكلمة في فيلمه السايكولوجي الأقرب لقلبي هذا، يجعل المرء يتسائل في نفسه (هل هناك ما هو أفضل؟/هل هناك ما كان يمكن تقديمه ولم يَحصُل؟)، إستنزفني هذا السؤال تماماً، قُرابة نصف وقتٌ الإمتحان كاملاً لسؤاله الإفتتاحي وما زال هناك ثلاثة أسئلة أُخرى !.

مشهد (3) | نهار خارجي | بعد الموقــعة وقبل الوصول للبيت. .

أجد نفسي تائهٌ في أفكاري المتضاربة بين وسيلتي المواصلات التي أستقلها عودةً للمنزل: مترو الأنفاق ومن ثمَّ الميكروباص، أجد نفسي -رغم وجود الكثير والكثير ليشغل بالي حينها- أفكر مجدداً في سؤال فيلم (نادي القتال)، ألم يقولوا أن الأفكار الفيلمية نابعة من الواقع؟.. لماذا انغمست في الخيال إذن؟، أينعم المطلوب لم يكن تحليلاً لشخصية تايلر وفلسفته المتطرفة مثلاً بل كان الفكرة العامة التي يدور حولها الفيلم، لكن يظل.. لماذا لم أستطع المُجاراة؟، لماذا لم أستطع فصل تيمة المجتمع الإستهلاكي اللعين خارج قالب شخصية تايلر؟، أتذكر جملة تايلر (أنا أقول لا تكن مثالياً أبداً.. أنا أقول دع السفينة ترسو في المكان التي تريده..)، أرُّد عليه في دواخلي: "لكن هذا لا يستدعي المثالية!". . . اكتشفُ تدريجياً كم انطوت عليّ الخدعة، نعم.. لقد امتلكني الفيلم، تماماً كما حذرني تايلر نفسه من ذلك، ياللعجب !.. وكأن الآية انقلبت على صاحبها، أو ربما هذا مجرد شعورٌ لحظيٌ موقت، الأمر ضبابيٌ بشدة الآن، لا أستطيع التأكد من شئ.. لم أتصور أن أكون بهذا القدر من التعنُّت واللاموضوعية تجاه أحد الأفلام، بل مع فيلمي المفضل أيضاً !.. بل مع فيلمي المفضل لشخصيتي الحياتية المفضلة !!، أجد نفسي على قُرابة بضع الأميال من البيت تحت أشعة الشمس الحرقاء، الصفراء، والجميلة.. قبل أن أشغل المقطوعة الموسيقية: (Finding The Bomb) تضرب في أعماقي من جديد.

مشهد (4) | ليل داخلي | في البلاكونة أحتسي الناسكافيه الساخن. .

أعدت شريط اليوم ووجدت نفسي أنظر للأمر نظرة شاملة أكبر، اكتشفت كم كنت خاطئاً بشأن فلسفة (تايلر ديردن) بعد ان تكشّفت لي جُنباتها من خلال سؤالٌ إمتحانيّ إجباريّ !.. في الواقع ربما مسألة كونه (فيلمي المفضل) هي المشكلة الحقيقية: كيف تتمسك بالموضوعية تجاه الفيلم الذي تعتبره جزءٌ من كينونتك؟!، أنت أثناء مُشاهدة (نادي القتال) تصبح شخصٌ بردود أفعال وأفكار، وشخصٌ آخر تماماً إذا ما أردت إختبار التجربة في الواقع.. مثيرٌ هو حجم التناقُضات التي يمكن أن يكتشفها مهووس السينما في نفسه، أليس كذلك ؟!.. لكن هذا لا يُخفي أن تايلر مؤمن بأهمية حرية الفكر، حرية أن تكون ذاتك حتى ولو وَضعها بشكل تعسُّفي ضمن فلسفته.. يقول (فقط عندما تفقد كل شئ..) ويُكمل (تكون حراً لفعل أي شئ): يجعلك تشكُّ أنه رجلٌ إرهابي قبل أن تقول "ولما لا يكون مُعتنق مذهبٌ دينيٌ من نوعٍ ما" ؟!

السينما شئٌ جميل لا غُبار في ذلك، الفكرة هنا مقدار كسر هذا الإيهام السينمائي من المُشاهد، مدى جزمه وقبوله بعملية الخداع السينمائي؛ أن برغم ما يُعرض أمامه أفكاراً واقعية مُقتبَسة من الواقع، إلا أنها في النهاية تظل محض (خيالات) معروفة مجازاً بإسم (أفلام) !!.. أقولها صراحةً في نفسي: لقد شربت من شخصية (تايلر) بشكل مُبالغ فيه، أو ربما هذا ما أعتقده.. أُعيد تذكير نفسي بجملة من جمل تايلر مجدداً: (أنت لست عملك.. لست مقدار ما تملك في البنك..)، بالأحرى كان يجب أن يُدرِج (أنتَ لست نفسك) معها.. كانت لتوفر الكثير عليّ !

...يا إلهي الرحيم.. حتماً ستُنهي هذه الأفلام مصيري يوماً ما !


المقطوعة الموسيقية (فاينديج ذا بومب) :

https://www.youtube.com/watch?v=GrOl0ef_bQI

نقد آخر لفيلم Fight Club

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
نادي القتال هو نادي يوجد في العقل الباطن لكل واحد منا !! Sidahmed Badredine Sidahmed Badredine 5/5 10 اغسطس 2014
"تايلر ديردن والترنُّح بين الواقع والخيال .." Hossam Waleed Hossam Waleed 0/0 30 مايو 2018
نادي القتال .. عندما تنتصر السينما على الرواية Ahmed Kassem Ahmed Kassem 4/4 20 سبتمبر 2016