"العذراء والأقباط وأنا".. ووطني الذي رأيته يضحك من القلب

  • مقال
  • 04:13 مساءً - 21 مايو 2015
  • 1 صورة



"العذراء والأقباط وأنا"

لا أعرف كيف أصنفه، روائي أم وثائقي أم دوكيو-دراما. في الواقع لا أريد أن أصنفه. هو فقط لا يشبه أي شيء شاهدته. على الرغم من أن صورته وإخراجه ومنظور التوثيق الذي يحمل ذاتية الصانع ذكرني بفيلم "المقاومة الطبيعية" للمخرج الإيطالي جوناثون نوسيتير وهذا شيء عظيم بالمناسبة. ولكن ما جعله فيلمًا مميز ليّ أنني رأيت فيه وطني الخاص المعقد التفاصيل والتناقضات، يضحك.

ورأيت عائلة تشبه عائلتي البسيطة التي لم أذهب لأزورها في صعيد مصر حتي ولو لمرة واحدة طوال حياتي، تمتهن السينما. ورأيت " نمير"، هذا المخرج الشاب الذي ولد في فرنسا لعائلة شديدة المصرية، يريد أن يحلل ويستكشف ظاهرة ظهور العذراء "مريم" بمصر بحرص دون أن يقع في فخ العاطفة المصرية، فلم ينجح. لأجد فيه نفسي بشكل أو بآخر.

في " زاوية" هي الأكثر بهجة ليّ شاهدت فيلم " العذراء والأقباط وأنا" في إطار برنامج "مزج" للأفلام الوثائقية. يبدأ الفيلم لنمير وهو في وسط عائلته يتكلمون بمزيج من الفرنسية والعامية المصرية بطلاقة. فيطرأ على الحديث ظهور العذراء "مريم" بمصر لتؤكد "سهام"، أمه، بطلة الفيلم الأولى، أنها قد رأت العذاراء بأم أعينها. فيقرر نمير أن يصنع فيلمًا حول هذا الموضوع وأن يذهب إلى مصر بعد غياب طويل يصل إلى خمسة عشر عامًا.

العذراء:

"العذراء شفتها؟" -"لأ، بس أعرف ناس شافوها"، هذه هي كانت الإجابة الشائعة التي تلقاها "نمير" عندما كان يجري مقابلات عن ظهور العذراء. وفي الواقع هي الإجابة الشائعة التي يتلقاها أي شخص عندما يسأل شخص آخر عن أي شيء في مصر. ولكن ما يميز الإجابات التي تلقاها "نمير" أنها كانت تحمل يقين. يقين لا دليل عليه أحيانًا، لكنه يقين يحمل بداخله رغبة في التصديق.

لم يتطرق أحد إلى البرهنة بأدلة تاريخية على حقيقة العذراء ومن تكون، وإن كان من المنطقي والطبيعي أن تظهر لأنها تستطيع ..الخ). فالشعب المصري ليس متدينًا ذلك التدين، فلا أحد هنا اختار أي ديانة يتبع، ولكننا نتبع دين الإيمان. فنحن مؤمنون، شديدون الإيمان بعقائدنا التي توارثناها عبر الأجيال. وتعتبر السيدة العذراء من الأشياء القليلة التي تضع المسلمين والمسيحيين في فريق واحد فعليًا، بعيدًا عن هراء تشابك أيادي رجال الدين علي شاشات الفضائيات، بجانب كره اليهود بالطبع، للأسف. وأشار الفيلم إلى هذه النقطة بذكاء بلقطة توضح عرض كتاب "كفاحي" لأدولف هيتلر للبيع على أرصفة القاهرة. بالمناسبة، الفيلم لم يجب على سؤال هل ظهرت العذراء حقًا أم لا، فهذا ليس النقاش.

الأقباط:

قصد هنا المخرج نمير عبد المسيح المسيحيين المصريين وليس جميع المصريين، ولكنه لم يفلح للمرة الثانية. النظرة الطازجة للمجتمع لمخرج فرنسي-مصري يحكي قصته ليصور فيلمه داخل شوارع مصر جائت كاشفة لمفاصل الشخصية المصرية والمجتمع المصري أجمع، فالجميع يصنف والجميع يتعصب لعشيرته. الجميع قادر على أن يكره، ولكن هذا "الجميع" أيضًا يدعى العكس، ففي تفصيله عبقرية أوضح الفيلم بسلاسلة كل ما سبق.

عائلة المخرج مصرية على مائدة الطعام، كالتي تجتمع عليها أفراد العائلة في وقت الأعياد فقط، ليتناقشوا أيٍ من الفريقين قد بدأ في التعصب وكره الآخر، المسلمون أم المسيحيون. وبالطبع "هم" من بدأوا بالعداوة، و"هم" هنا تعود إلى الطرف الآخر بالنسبة للمتكلم، مسيحي أو مسلم. وبعدها طل علينا رجل يبدو عليه الحكمة بالكليشيه الشهير الذي يدعي أن الجميع "يد واحدة". وورد على ذهني سؤال وقتها: "ماذا لو كان كل هذا التعصب وعدم وجود تواصل صحي بين الطرفين عندما يتعلق الأمر بالأديان هو سببه الأصيل إدعاءات محاولة أن يكون الجميع يد واحدة؟! هل من أحد في الكون قادر أن يجعل من العديد من الأيادي يدًا واحدة أصلاً!

"بص شوف العدرا بتعمل إيه"، كانت هذه الهتافات ملخص مولد السيدة العذراء بصعيد مصر في مشهد تجلت فيه الشخصية المصرية على أي تعقيدات يحاول البعض أن يلصقها إلينا كشعب، هذا الشغف الذي رأيته في عيون الفرحين بمولد العذراء وهذه الهتافات التلقائية البسيطة العفوية، يؤكد أن الشعب المصري سيتغلب علي هواة القبح والتشويه، يومًا ما.

وأنا:

بعيدًا عن ظهور العذراء "مريم" واستكشاف حقيقة الظاهرة، كان نمير عبد المسيح هو الآخر يستكشف عوالمه كصانع أفلام وكإنسان أيضًا. فأنت تعلم منذ اللحظات الأولي في الفيلم أن فيلم نمير السابق لم يحقق نجاح كبير على المستوى الجماهيري أو على المستوى الشخصي. وفي الوقت ذاته هو شخص غير متدين، كما وصف نفسه، أضف إلى ذلك، أنه يعلم أنه مصري ومن عائلة مصرية ولكنه لا يعرف مصر ولا المصريين.

واجه نمير معاناة إقناع الممول لفيلمه بالفكرة بعدما حادت عن كونها مجرد استقصاء لظاهرة ظهور العذراء "مريم"، إلى "رحلة لاستكشاف عائلته بصعيد مصر" على حد وصف الممول. فنجد نمير الفنان يخاطر بكل ما يملكه ليكمل فيلمه حتى في أشد اللحظات انكسارًا عندما تخلى عنه الممول. لينتصر لنفسه كصانع أفلام وليثبت لنفسه أنه مخرج حقيقي لديه ما يقوله، وفي الوقت ذاته يتعرف على أصوله بالصعيد ليجد نفسه فخورًا بهم، كونه فردًا منهم ويجلس مستمتع لحكاوي خالته عن ولادته وأيامه الأولى التي لم تحك له أمه عنها، لينتصر لنفسه كإنسان.

وفي الأخير يصل إلى استنتاج شخصي أخير قد يعتبره البعض يتعلق بحقيقة ظهور العذراء، ولكنه استنتاج خاص بنمير الإنسان الذي يسعي في رحلته للبحث عن الحقيقة. "هناك دائمًا من سيقولون أنهم رأوا، وهناك دائمًا من سيقولون أنهم لم يروا"، وتستمر الحياة.

هذا الفيلم اعتبره من الأفلام التي يجب أن يراها جموع المصريين، فالفيلم هو ملحمة كوميدية حقيقية من قلب المجتمع المصري إلى المجتمع المصري. جميع الحضور بصالة العرض كانوا يضحكون بهيستيرية مفرحة تجاه ما يرونه من تشريح عميق وصادق لنا كمصريين بعيون نمير عبد المسيح، المخرج الواعد الذي أتى لزيارة مصر مع أمه المواطنة المصرية التي لم تنس شيئًا من كونها أم مصرية أصيلة رغم الغربة.

كانت تجربة جميلة أن أرى نفسي وأهلي وناسي ووطني بعدسة نقية ورشيقة كعدسة نمير عبد المسيح، وفي الأخير، إذا كنت من متقني اللغة الفرنسية، فأنت من المحظوظين، فالفيلم متاح على موقع أمازون للشراء، أما إذا كنت زميلاً لي في معاناتي مع اللغة الفرنسية، فلتتحصر على عدم وجود سوق مصري للأفلام للمشاهدة المنزلية، الشيء الذي لم يدفع موزع فيلم عن "مصر" لترجمته إلى العربية، ولننتظر سويًا مشاهدته في "زاوية" مبهجة أخرى.

[https://www.youtube.com/watch?v=gZ\_6VcZv4KY]



تعليقات