تاريخ السينما (2).. حكايات من العَقْد الأول

  • مقال
  • 01:57 صباحًا - 27 فبراير 2016
  • 2 صورتين



صورة 1 / 2:
رحلة إلى القمر
صورة 2 / 2:
جورج ميليه ينفذ إحدى خدعه

سينمانا وأرشيفهم

كنتُ أنوي الحديث عن سينما مرحلة الحرب العالمية الأولى، وكيف أن الحرب بشكل أو بآخر، ساعدت هوليوود على التنامي والتوسع على حساب أوروبا. إلا أنني وجدتُ أن الحكايات كثيرة للغاية عن السنوات العشر الأولى خاصة، والسينما الصامتة بشكل عام، والتي انتهت مع منتصف الثلاثينيات -إن صح تقديري- وذلك من خلال الفيلم الشهير 1936 Modern Times، للعبقري تشارلي تشابلن، والذي كان يريد أن يصنع الفيلم ناطقــًا، لكنه آثر أن يقدمه صامتــًا في دلالة واضحة لدور التكنولوجيا والتقدم في طمس هُوية الإنسان الذي صنع الماكينات التي أطاحت به وجعلته عاطلًا عن العمل.

ولعل هذه الحكايات ما جعلتني أُرجئ قليلًا الحديث عن سينما الحرب، مُحاولًا الإبحار في السنوات الأولى لنشأة السينما، وخاصة أن كم المعلومات الهائل عن نشأة السينما في العالم، وروادها، أصابني بدهشة شديدة؛ نظرًا لعدم وجود شيء مماثل في الضخامة يؤرخ للسينما العربية، سواء عن روادها، أو كيف صنعوا الأفلام، أو ميزانية الأفلام حينها، أو موسوعة عن الممثلين والممثلات بشكل فيه تفاصيل وحكايات عن السياق الخاص بالصناعة ودور الدولة مثلًا.

ما نملكه من أرشيف وتأريخ سينمائي وإن كان جيدًا، لا يمكن مقارنته في أي حال بالمجهود السينمائي لأرشفة السينما الأمريكية أو الأوروبية أو الأسيوية حتى، فالسينما الإيرانية مثلًا تمتلك متحفــًا(1) منذ عقدين من الزمان، يُعرض فيه تاريخ السينما منذ نشأتها مع بداية القرن العشرين.

في عام 2009 كتب الناقد السينمائي الأستاذ سمير فريد(2) مقالًا عن حُلم متحف سينمائي مصري، وقد أثار المقال في ذهني بعض الأسئلة مثل: كيف لنا أن نعرف مثلًا عن أول كاميرا أُستخدمت في تصوير أول فيلم مصري؟ كم كانت تكلفة إنتاج أول فيلم مصري؟ وكم عدد الحاضرين في أول يوم عرض؟ هل عُرض عمل سينمائي أوروبي أم أمريكي أم مصري مثلًا؟ ما هي أسماء فريق العمل على الفيلم، الديكورات المستخدمة مثلًا. إلخ؟

دور العرض في مصر

وقد دفعني فضولي، في أثناء السير في وسط القاهرة؛ لمعرفة أسباب تسميات السينمات في مصر، ومعنى التسمية، وبخاصة في فترة ازدهر فيها وجود الكثير من دور العرض السينمائي في القاهرة الملكية، والتي وصل عددها إلى 395 دار عرض مع عام 1958، ثم تقلصت بعد ذلك مع ظهور التليفزيون، إذ وصلت لـ 295 عام 1965، ثم 141 دار عام 1995، ثم عادت للزيادة مرة أخرى لـ 400 دار عرض عام 2009. إلا أن المقارنة بين عدد السكان في مرحلة الخمسينيات، حيث لم يتخط الـ 30 مليون، في حين وصل في عام 2009 إلى قرابة الــ 80 مليون، تثير تساؤلًا عن مدى كفاءة هذه الدور وقدرتها على استيعاب المهتمين بمشاهدة الأفلام؟ (3)

حكاية النيكل والأوديون

وكانت سينما أوديون بوسط القاهرة، أول هذه السينمات التي دفعتني للبحث وراءها. فأوديون Odeon، كلمة ذات أصل يوناني هي Odeum، والتي تعني المبنى الصغير في أثينا، أو روما بعد ذلك، والغرض من بنائه هو القيام بعروض المسرح والموسيقى والشعر.

ففي عام 1905، قام مواطنان أمريكيان بولاية بنسلفينيا الأمريكية بفتح مسرحهم الصغير، كأول قاعة عرض سينمائية في العالم، تفتح أبوابها للجمهور مقابل دفع المال.

سُميت هذه السينما بـ (Nickelodeon نيكل أوديون)، وقُصِد بها الدخول إلى القاعة مقابل "النيكل" أو ما قيمته خمس سنتات أمريكية(4). والنيكل، هو نفسه "النِكلة" التي كانت تستخدم في مصر منذ سنوات عديدة مضت.

الدار السينمائي الثاني في العالم، لم يكن في فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا أو ألمانيا، بل كان في العاصمة البولندية وارسو، بعد أن استلهم أحد البولنديين فكرة مسرح النيكل أوديون في بنسلفينيا.

لوميير وسكلادانوفسكي

قبل هذا التاريخ - 1905- بعشر سنوات، وتحديدًا في 28 ديسمبر 1895، قام الأخوان لوميير بعرض عشرة أفلام في الجراند كافيه بباريس، مقابل مبلغ مالي يدفعه الجمهور، ما جعله - وفقــًا لبعض المصادر- الحدث الأول في تاريخ السينما الذي يتعامل فيه الجمهور مع الفيلم على أنه خدمة ترفيهية يدفع من أجلها المال. وحينما كان الأخوان لوميير يستعدان لهذا العرض، سبقهما في برلين صانع أفلام آخر من بين الرواد هو "ماكس سكلادانوفسكي Max Skladanowsky"، إذ قام ماكس بعرض فيلم مقابل مبلغ مالي للجمهور في 1 نوفمبر 1895.

ويعتبر سكلادانوفسكي من أوائل صناع الأفلام والعارضين لها في أوروبا، إذ جال بأفلامه في ألمانيا وخارجها. (5) فهو مخترع وصاحب آلة عرض صور متحركة سميت "Bioskop أو بايوسكوب"، وهي كلمة يونانية الأصل تعني "أن ترى الحياة"(6).
link]

وهنا تتردد رواية طريفة -غير مؤكد مدى صحتها- عن الأخوين لوميير، وسكلادانوفسكي. ففي عام 1907 قامت إحدى الجرائد الألمانية بتسمية سكلادانوفسكي بـ"مخترع السينما"، على اعتبار أنه قام بعرض الصور المتحركة للجمهور قبل الأخوين لوميير بشهرين تقريبــًا. إلا أن الجرائد الفرنسية رفضت هذه التسمية واعتبرتها تعديًا على حق الثنائي الفرنسي الذي حظى بشهرة عالمية حينها مع جهازهما الشهير "السينماتوجراف".

يُذكر أن سكلادانوفسكي كان لديه أخ يعمل معه في مجال صناعة الأفلام اسمه "Emil إيميل"، مما جعل ثنائية صناعة السينما في فرنسا مع الأخوين لوميير يقابلها ثنائية في ألمانيا مع الأخوين سكلادانوفسكي. وقد قدم المخرج الألماني "فيم فندرز Wim Wenders" فيلمــًا وثائقيــًا عن الأخوين سكلادانوفسكي وتجربتهما في صناعة الفيلم، وقد أُنتج الفيلم عام 1995 باسم "Die Gebrüder Skladanowsky أو الأخوان سكلادانوفسكي".

link]

ميليه ولوميير وإديسون

حول هذه المرحلة، ثار بعض الجدل أن فترة نشأة الفيلم قادها توجهان رئيسان، الأول هو الأفلام المرتبطة بالواقع أو ما يُعرف Non narrative، actuality films، وقد برز فيه الأخوان لوميير.

أما الاتجاه الآخر هو الفيلم السردي أو Narrative film، وهذا الاتجاه كان المخرج الفرنسي جورج ميليه من رواده. وعندما نتحدث عن جورج ميليه، يجب أن نشير إلى واحد من أهم أفلامه، والذي يمكن القول، إنه كان عملًا مُؤسِسـًا لما عُرف بعد ذلك بأفلام الخيال العلمي إذا صح التفسير(7).

بل يمكن القول، إنه مهد قبل سنوات ازدهار الصناعة السينمائية لعالم الرسوم متحركة الــ Animation. هذا الفيلم هو رحلة إلى القمر أو Le voyage dans la lune، إنتاج عام 1902، ويمكن من خلال مشاهدة هذا الفيلم أن نعرف أن ميليه يُعتبر من الآباء المؤسسين للخدع والمؤثرات البصرية في السينما.

فيلم رحلة إلى القمر:
link]

من الحكايات العجيبة عن هذا الفيلم، يُروى أن جورج ميليه بعد الانتهاء من تصويره، أراد أن يقوم بعمل عروض له في الولايات المتحدة، ومحاولة التواصل مع إديسون لمساعدته في العرض والتوزيع، إلا أن إديسون قام بعمل نُسخ من الفيلم دون علم أو موافقة ميليه، وتم عرضه في الولايات المتحدة، بل أن الفيلم عُرض بأسماء مختلفة مثل "رحلة إلى المريخ". ولم يَجنِ ميليه أي أموال من عرض الفيلم في الولايات المتحدة، بل يتردد أنه تعرض لضائقة مالية كبيرة استمرت لسنوات، في حين جنى إديسون أموالًا طائلة.

كانت ميزانية هذا الفيلم واحدة من أكبر الميزانيات حينها، فـلنا أن نتخيل ميزانية تتراوح ما بين 10 آلاف إلى 30 ألف فرنك فرنسي، في بداية القرن العشرين لفيلم مدته 13 دقيقة (8).

بعض اللقطات التي تم أخذها بجهاز توماس إديسون "الكينتوسكوب" في الفترة ما بين 1894- 1896

link]

آليس وسينما العجائب

كان الرجال هم مَنْ يقدمون للعالم السينما كفن أو صناعة، وكان هناك بين العاملين - في هذا المجال الذي بدأ في الانتشار- سيدة فرنسية تعمل لدى ليون جومو Léon Gaumont أحد الرواد الفرنسيين في صناعة الصورة. كانت في بداية عَقْدها الثاني تعمل كإدارية، إلا أن شغفها بصناعة الأفلام جعلها أول مُخرجة في تاريخ السينما. آليس جاي أو Alice Guy-Blaché، والتي تعرفت من خلال عملها مع جومو على الأخوين لوميير، وقامت بصناعة أول أفلامها والمعروف باسم "La Fée aux Choux أو حكاية الكرنب 1896".

ويعتبر البعض هذا الفيلم أنه أول فيلم سردي في التاريخ السينمائي، إذ يحكي في دقيقة رؤية جاي لكيفية مجيء الأطفال للدنيا وذلك من خلال خروجهم من بين لفافات الكرنب. قدمت آليس نحو 400 فيلم من إخراجها بقى منها حتى اليوم نحو 111 فيلمـًا، وتوفيت عام 1968 عن عمر قارب المئة عام. (9)

أول أفلام آليس جاي:

link]

الإسكندرية منارة السينما المصرية

الزمان: 5 نوفمبر 1896 (10)، بعد مرور عام تقريبــًا على عروض الأخوين لوميير لأفلامهما في الجراند كافيه بباريس.

المكان: الإسكندرية، محطة الرمل، داخل بورصة طوسون، والتي يوجد مكانها الآن مركز الإبداع بالمدينة.

الحدث: عرض أول فيلم في مصر، إذ جلس عدد من الشغوفين بمشاهدة تلك الآلة الجديدة التي يقدمها الفرنسيان لوميير للعالم. لم أستطع أن أعرف الفيلم الذي شوهد في ذلك اليوم، لكن من خلال بعض المصادر، يُذكر أن أثرًا كبيرًا قد وقع على نفوس المشاهدين الذين رأوا الصورة المتحركة لأول مرة، وبعدها بأيام قليلة انتقل العرض للعاصمة، في 15 نوفمبر 1896. (11)

مصر في حُسبان لوميير

وجد الأخوان لوميير في مصر سوقــًا ناشئة، تمتلك التنوع الثقافي والحضاري الذي يؤهل فن السينما للانتشار. وقد كان ذلك في مرحلة يرغبان خلالها بالتوسع على مستوى العالم، والتصوير في كبرى العواصم، فأرسلا المصور الفرنسي الإيطالي ألكسندر بروميو Alexandre Promio (12) في عام 1897، والذي قام بتصوير عدة أفلام عن مصر كان أولها هو فيلم Place des Consuls, à Alexandrie الذي يُعتبر أول فيلم يتم تصويره في مصر.(13)

و قد قام بروميو بتصوير ما يقرب من 35 فيلم عن الحياة اليومية في البلاد. و قد عُرضت هذه الأفلام في أوروبا ثم عرضت بعد ذلك في مصر، و كان من بين المدن التي وُضعت في أولوية العروض، مدينة بورسعيد، التي مثلت موقعــًا إستراتيجيــًا، لما لها من ارتباط وثيق بقناة السويس.

بعد ما يقرب من عشر سنوات، وتحديدًا في 1906، أرسل الأخوان لوميير بعثة أخرى للتصوير في مصر، و لكن هذه المرة كان المصور فرنسي جزائري الأصل اسمه فيليكس ميسجويش Felix Mesguich. حاول فيليكس أن يقوم بتصوير أشياء مختلفة عن سابقه بروميو، و ذلك من أجل جذب الجمهور الأوروبي للطبيعة المتنوعة في مصر، مما قد يساعد في انتشار السينماتوجراف أكثر وبيع الأشرطة السينمائية التي تمتلكها أسرة لوميير.

لقطات الأفلام التي صنعها بروميو مبعوث الأخوين لوميير إلى مصر:

link

بندرلي ودوريس وأول شريط مصري

في السنة التالية، 1907، ظهر للنور أول شريط سينمائي مصري، أنتجه عزيز بندرلي Aziz Bandarli، وأمبرتو دوريس Umberto Dorés، من خلال فيلم "زيارة جناب الباب العالي للمعهد العلمي في مسجد سيدي أبو العباس". وقد كان عزيز وأُمبرتو من ضمن العديد من الأجانب الذين عاشوا في مصر، ثم حصلوا على الجنسية المصرية بعد ذلك. وقد كانا يمتلكان ستوديو للتصوير الفوتوغرافي في محطة الرمل بالإسكندرية، وكان لكفاءتهما في التصوير الفوتوغرافي دور في جعلهما المصورين الخصوصيين للخديو عباس حلمي الثاني. وقد طلب منهما الخديو تصوير زيارته للمعهد العلمي في شكل صور متحركة مما جعله أول فيلم مصري. كان لبندرلي ودوريس دورًا مهمــًا في عالم دور العرض السينمائي، إذ قاما بافتتاح دار عرض سُميت بــ "سينما فون عزيز ودوريس" عام 1906.

أوليمبيا، المسرح والسينما

وكما أُشير لأول دار عرض سينمائي في العالم عام 1905، فقد كان أول دار عرض سينمائي مصري متكامل هو سينما "أوليمبيا"، والتي تقع في وسط القاهرة، بشارع عبد العزيز بميدان العتبة. ولأن المسرح كان هو الفن الطاغي في مصر قبل انتشار السينما، فقد كانت الأرض هي "تياترو أوليمبيا" لمالكـه فرح إسكندر، الذي قام بتحويل المسرح إلى دار عرض سينمائي تحت اسم "سينما أوليمبيا" في أكتوبر 1907، بعد أن فقد التياترو نجاحه؛ بسبب رحيل الشيخ سلامة حجازي. (14)

إن السنوات العشر الأولى للسينما قد تشكل فيها ملامح الفن والصناعة في أوروبا والولايات المتحدة، وقد تم تأريخ هذه المرحلة بشكل موسع في كثير من الكتب. في حين أن هذه السنوات نفسها في مصر والعالم العربي، إذا حاولنا إيجاد مصادر لها، فستكون محدودة للغاية في حديثها عن هذا العقد المؤسس.

المصادر:
1- عن متحف السينما الإيرانية: link
2- متحف السينما الحائر، وإلى متى يبحث عن قصر بعد مائة سنة، المصري اليوم http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?Artic...
3- Introduction to Egyptian Cinema, Samir Farid: http://www.festival-cannes.com/en/article/57981.html

4- Pittsburg Gave Birth to the Movie Theater Idea, 16 November 1919, E. W. Lightner, http://www.clpgh.org/exhibit/neighborhoods/downtown/down_n71.html

5- link
6- link
7- A Trip to the Moon (1902): Where Sci Fi Movies Began: link
8- link
9- السينما الأوروبية، إاليزابيث عزرا، ترجمة محمد هاشم عبد الفتاح، 2007
10- أُختلف حول ميعاد العرض الأول ما بين الخامس من نوفمبر عام 1896، والخامس عشر من نوفمبر من نفس العام.
11- بدايات السينما المصرية 1907- 1939، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 76، 2013
12- link
13- link
14- «أوليمبيا».. أول دار عرض سينمائي تشيد في مصر link

للاطلاع على المقالة اﻷولى في السلسلة " تاريخ السينما (1).. البنشي يكسر الصمت"



تعليقات