أراء حرة: فيلم - باديس - 1989


فيلم " بادس " لمحمد عبد الرحمان التازي : سلطة الارتباط بالمكان

فيلم " بادس " لمحمد عبد الرحمان التازي سلطة الارتباط بالمكان في الارتباط بالمكان خضوع لسلطته وقانونه ، وفي الانفصال عنه خروج عن تلك السلطة وضرب لذلك القانون . الارتباط يرادف الامتثال ، وفي الامتثال يغيب البحث ويهمش السؤال ، وينظر إلى الجاهز نظرة اكتفاء وقبول ، وبالتالي تضيق مساحة الاختيار أمام كل فعل إنساني . أما الانفصال فيرادف التجاوز ، وفي التجاوز تكسير للمألوف وتهييج لحرارة السؤال ، وتأسيس لأنماط جديدة من التفكير والسلوك ، وبالتالي توسيع آفاق وممكنات الفعل الإنساني . قانون...اقرأ المزيد المكان إذن يعرقل كل حركة صادرة عن الكائن الإنساني تستهدف المس بطقوسيته ، ينفي هذه الحركة أو يضطرها إلى الانعزال ، يضطرها إلى البحث عن وجهة أخرى تمارس فيها حريتها وشغبها . المكان هنا ليس جغرافيا من أرض ونبات وماء ، إنه عمران بشري شكله الإنسان ولونه بمعتقداته وقيمه وعاداته وتقاليده لدرجة أصبح معها المكان معادلا موضوعيا لإنجازات الذاكرة وإبداعات الحاضر وتوقعات المستقبل . في هذا الإطار بالذات يجد فيلم " بادس " لمحمد عبد الرحمان التازي مكانه . وهو مكان وعر وحساس لأنه يشتغل على ما تحاول الذات دائما إخفاءه وعدم الخوض فيه . ومع ذلك فإن محمد عبد الرحمان التازي اقتحم هذا المكان برؤية فنية عميقة تداخل فيها الواقعي بالمتخيل لدرجة يحس فيها المشاهد أن الأحداث المؤفلمة لا حدود بين مستوى واقعيتها ، ومستوى بنائها التخيلي . المكان هو بادس ، وبادس قرية نائية في شمال المغرب . قرية حاول المخرج أن يقربها من المشاهد بكثير من الدقة معتمدا على الحركة المتأنية للكاميرا . كاميرا المخرج استنطقت دواخل هذه القرية فبسطت أمام المشاهد وجوه ساكنيها ، نظراتهم ، لباسهم ، مأكلهم ، حركاتهم ، سكناتهم . أنهم صيادون وفلاحون تؤشر مظاهر حياتهم اليومية على الكفاف والبؤس . ومع ذلك فإن حركتهم عادية ، وأمورهم طبيعية لأن سلطة المكان متمكنة من رقابهم ولأن عواطفهم وأحاسيسهم مرتبطة بهذا المكان . ( لمعلم عبد الله ) يمثل قمة الانسجام مع طقوس المكان الذي يعيش فيه . أما ابتنه ( مويرة ) فتكره هذا المكان لأنه يضيق الخناق عليها ، ويحرمها من ممارسة شغبها الطفولي . حينما تختلي بنفسها تبتسم ، ترقص ، تقف طويلا أمام المرآة لتتلذذ بجسدها الجميل تعبيرا منها عن رفضها المطلق لشعائرية المكان الذي وجدت نفسها فيه دون أن يكون لها الاختيار في ذلك الوجود . وحينما تلتقي بذلك الجندي الإسباني ، تستشعر أن قرابة دموية تجمعها وإياه ، وتعتبره وسيلتها الوحيدة للتحرر من سجنها ، إلا أن حلمها تحول إلى سراب لأن عين الرقيب لا تنام ، الرقيب الموروث من الذاكرة التاريخية والذي أصبح جزءا لا يتجزأ من الحاضر . عين الرقيب هذه يمثلها ذلك الموظف البريدي الذي يعتبر واحدا من تلك الفئة التي نزحت إلى هذه القرية مكرهة ، لذلك فهو دائم الرغبة في الانفصال عنها ويسعى – كلما أتيحت له الفرصة – إلى إشعال الحرائق بداخلها ، لأنه يرفضها كمكان لا يربطه به أي اتصال وجداني .