سينما ديزني.. ورحلة البحث عن الذات

  • مقال
  • 02:18 مساءً - 5 اغسطس 2018
  • 6 صور



في لقطة أيقونية ساحرة من تحفة براد بيرد Ratatouille يقف الجرذ "ريمي" ليتأمل (برج إيفيل) بعدما وصل إلي أرض النور طافيًا فوق كتاب طهي عبر مياه المجاري.

"ريمي" على أعتاب حلمه الذي ناضل من أجله كثيرًا، الجرذ الذي طفت به أحلامه فوق مياه الصرف الصحي، وخرجت طموحاته خارج صندوق القمامة الذي تتكدس فيه عشيرته.

الجرذ الذي يحلم بأن يصبح طباخًا، الكائن الذي يقترن اسمه بالقذارة يحلم بأن يصنع أكثر شيء يحافظ الإنسان علي نظافته. رحلة تابعنا نظائرها من قبل، يدفعها الإيمان في كتلة هائلة من المشاعر ليصل بها إلي الحلم أو بالأحري إلي الأحقية في الحلم. ومشروعية الحلم تقتضي أن تتمرد الذات على طبيعتها الجسمية أو البيئية أحيانًا، يمتزج العناد بالتمرد ليخلقا التحدي الذي يشكل حبكة كل رحلة من تلك الرحلات، رحلة "ريمي" في ضواحي باريس، أو رحلة الأرنبة "جودي هوبس" في سعيها أن تكون شرطية ناجحة بمدينة Zootopia، أو رحلة "فيليكس".. الحشرة التي أنقذت مستعمرتها من الجراد في A Bug's Life، أو"رالف المحطم" الذي يتمرد علي لعبته الرقمية وشخصياتها التي تجور عليه نظرًا لأنه يقوم بتأدية دور الشخصية السيئة كما شاهدنا في Wreck-It Ralph.

كان ملحوظًا أن الإيمان هو آلة تحريك قطار رحلات التفتيش عن الذات والتفتيش في الذات، ولكن ما الأسباب التي تجعل الذات تستقل هذا القطار؟

لو كان الإيمان يقر بمشروعية الرحلة الحالمة، فما الذي يجعل القيام بها وجوبًا ولزامًا؟

في نظرة بسيطة سنحاول التعرف علي بعض العناصر التي تدفع شخصيات ديزني إلي بدء مجريات البحث عن الذات. ومن الضروري أن نبدأ بأهم عنصر يمكن أن يدفع أي نفس إلى محاولات اكتشاف الذات..

السؤال: "من أنا؟.. من أكون؟!"

في تسلسل بداية Wreck-It Ralph يجتمع "رالف" مع كل أشرار الألعاب (أو مع كل من يقوم بدور الأشرار في الألعاب) لينتهي الاجتماع بترديد مثل نشيد يحفظ لهم عقلهم الشريد بين الكينونة وبين الظاهر، فهم ليسوا أشرارًا بالأساس، هم فقط ضحية البرمجة التي صنعت منهم شخصيات في أدوار الشر الرقمية.

هذا سؤال عمن نكون حقًا، أو كيف نكون، هل القدر يختار أم نحن من نملك الخيار!

"رالف" لا يفارق مكب القمامة إلا لكي يحطم المنزل كما هو مقرر له أن يكون في لعبته، منبوذ من كل شخصيات اللعبة بسبب طبيعته البرمجية، حتى أنهم لا يرحبون بحضوره في حفلات الذكرى السنوية للعبة إلا أنهم لا ينسوا أن يصنعوا دمية من الحلوي على هيئته، وهم يصنعون الكعكة الكبيرة في احتفالهم السنوي، نقطة أخرى تسرق التأمل، هؤلاء ينكرون ذاته مع اعترافهم بدورها، كالطبيب الذي ينكر المرض وهو يعترف بدوره الهام فهو الذي يجعل لوظيفته قيمة، ويدرك أنه لولا المرض - علي كرهه وإنكاره له - لما كان له دورًا وظيفيًا في حياة المجتمع. إذن فهم لا ينكرون دوره وإن كانوا يستنكرون ذاته.

أما هو فالعكس فهو لا ينكر ذاته، ولكنه يستنكر دوره، هذا التعارض هو لب الحبكة التي تدفقت فيها حكاية "رالف" ودفعته إلى رحلته للحصول علي ميدالية كما هو متاح لكل الخيرين والمحبوبين.

في النهاية لا يحصل "رالف" علي ميداليته، بل لا يحصل علي أي شيء، ولكنه يتسبب في أن يرى الجميع يحصلون علي كل شيء، الشخصيات المتشردة من الألعاب يجد لها طريق كي تدخل لعبته وتعمل معهم، "فانيلوف" تحصل علي مكانتها الطبيعية بعد تصحيح الخطأ البرمجي، كما كان ولا يزال يتسبب في حصول "فيليكس" علي ميداليته، وهذه بالتأكيد نهاية مرضية له.

السؤال : "إلام ننتمي؟!"

في الجزء الأخير من Toy Story 3 نقف أمام سؤال سبق وأن مررنا من أمامه في الجزء الثاني، لكن لم يكن متبوعًا بمثل هذه الحيرة. حيث تحتار ألعاب "أندي" في أمرها، وفي ماهيتها، هل هي مجرد ألعاب؟ أم هم أصدقاء؟ وقوالب بلاستيكية وقطنية تختزن الذكريات؟

سبق وأن رأينا العلاقة الحميمية التي تربط الطفل بألعابه لأنها مصدر الترفيه الخاص به، ثم نعود لنري ارتباط المراهق بألعابه لأنها مصدر الذكريات الخاص به. وهنا تأتي اللحظات التي تجبرهم علي إتخاذ موقف حقيقي من هذا السؤال كما هي تجبر "أندي" كذلك.

"وودي" يقاتل من أجل مفهوم الصداقة حتي الرمق الأخير، بينما الباقي يحاول أن يتعامل مع الموضوع بشكل أكاديمي، فهم - كما يحاولون أن يروا أنفسهم - ليسوا إلا مجرد ألعاب يجب أن تتوالي عليها الأجيال ولا ينبغي أن تكون حكرًا لأحد، لأن البشر يكبرون ثم يموتون، ويجب على من يرحل أن يخلف وراءه أحد، حتي تختزن تلك الألعاب المزيد والمزيد من الذكريات والصداقات، وهذا ما يسبب التفرق، تمرد "وودي" علي المفهوم التقليدي من أجل روح الصداقة.

ومع سريان الأحداث، يحاول الفيلم دراسة هذا التساؤل بشيء من التروي إلي أن ينتهي الفيلم بواحدة من أقسي النهايات في تاريخ سينما الرسوم المتحركة، مشهد لا يتضمن سوي مراهق يودع ألعابه من أجل طفل آخر، مراهق يودع طفولته، وأصدقاء طفولته، وأخيرًا أقدم صديق عرفه منذ أول لحظة يستطيع أن يدركها من ذاكرته.

الذكريات:

"الفريد" بائع البالونات الذي تجاوز السبعين يتكأ في حياته على ذكرى، حتى أنه يحافظ علي معالم البيت كما هو قبل أن ترحل زوجته "إلي" عن عالمه.

صحيح أن الرحلة التي أقحمنا فيها مع فتي الكشافة الصغير "راسل" منفكة عن المشاعر التي شحنها الفيلم بداخلنا في دقائقه الأولي، لكن لا أحد ينكر أنها كان بدافع من الذكريات التي يحافظ عليها في وجدانه وقلبه وفي أثاث بيته الهادئ، فهي رحلة استرجاع رغبة مدفونة في أعماق ذكرياته، رغبة "إيلي" في أن تشاركه السفر إلي (شلالات باراديس).

هذه الرغبة العذبة تدنو من مشاعر "الفريد" وترسم حالة الشجن التي ستنتاب الجميع وهو يراه يسبح بمنزله في السماء إلى حلم قديم مبعوث من ذكري طيبة.

هذه رحلة من أجل الذكريات كما كانت رحلة "جوي" و"سادنيس" في Inside out من أجل الذكريات أيضًا.

الأحقية:

"لا يمكن لأي شخص أن يكون بطلًا، لكن البطل يمكن أن يكون أي شخص." هذه العبارة تنتمي بالأساس إلي فيلم Ratatouille، لكن باستبدال كلمة "طباخ جيد" بكلمة "بطل" تصبح قيمة العبارة أكثر شمولية، حتي أنها يمكن أن تتحاور مع معظم نصوص أفلام ديزني، وقد يتحول تحاورها هذا إلي ثرثرة غنية وذات معني مع فيلم A Bug's Life، فهو في الأساس فيلم عن الإيمان، ولكن الإيمان هنا ليس ﻹثبات الذات فحسب، أو ربما يسعنا القول أنه لم يكن بغرض إثبات الذات أصلًا، كل ما في الأمر أنها حكاية بسيطة عن حشرة منبوذة ومرفوضة، يتحاشى الجميع العمل معها، حشرة تقرر أن تخرج من مستعمرتها لتجلب العون وأي عون! عون جماعة من مهرجي السيرك!

في تسلسل البداية ينبهنا "فيليكس" أن الشجرة العملاقة تخرج من جوف الحبة الصغيرة، والحق أن مستعمرته لا تنكر ذلك ولا تتنصل منه، لكنهم مهضومين جميعًا في النظام الأكاديمي المعتاد، والحياة النظامية التي يعيشون في كنفها، مما يجعل التخطيط خارج القطيع أمرًا غير مقبول. التفكير النمطي في تجنب المشاكل، لكن "فيلكس" كان تفكيره في القضاء تمامًا علي المشاكل، أرادوا ألا تجرحهم القيود التي تحيط بهم، أما هو فأراد أن يحطمها، لأنه رأى فيهم القوة التي لم يروها كما أشار في خطبته مع "هبار" قائد الجراد إبان تسلسل النهاية في واحد من أعظم المشاهد الخطابية في تاريخ السينما.

التمرد:

حبكة فيلم coco بمثابة صورة جديدة لحبكة فيلم Finding Nemo ولكن في حلة جديدة تشبه حلة Kubo And The Two Strings وThe Book Of Life. العلاقات المتوترة بسبب تحفظ الأهل وتماديهم في الخوف على الأبناء، وتمرد الأبناء على هذه الأفكار الجامدة وخوضهم لرحلة طويلة يعيد فيها الطرفين النظر في الأمر ويدنيان أكثر من بعضهما أو من حل وسطي يضبط مسار الأمور.

هذا الشره إلى الاستقلالية يتبعه حلم أو يتبع حلم، فمن يسأل "من أنا" يذوب تمامًا في كلمة "أنا"، فتتبرج أمامه في صور الزهو والكبرياء، بينما تتعري أمام غيره في صور العند والتمرد، وهكذا تتشكل أبعاد مثل هذه الرحلات، حتي تتكشف حقائق وتتغير مفاهيم ويدرك الطرفين مالهما وما عليهما، إذن هي رحلات سينمائية لفهم الذات قبل البحث عنها، ومحاولة تطوير الهندسة الاجتماعية وتنسيق الحلول التوافقية بين البشر وخصوصًا بين المقربين من بعضهم.

الحياة معضلة والانسياب تمامًا مع تياراتها حماقة، فلن تؤول للإنسان فرصة التعرف عليها إلا إذا غامر فيها، فتحركت بداخله الأفكار والخواطر وانتعشت المشاعر، وما دون ذلك فهي حياة جامدة فقيرة.




تعليقات