The Lunchbox.. رسائل الأحبة الذين لم نلتقيهم

  • مقال
  • 02:58 مساءً - 22 سبتمبر 2015
  • 1 صورة



The Lunchbox

"هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي، هنالك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل والدتها ووقفت في قدس الأقداس".
جزء من رسالة بين جبران خليل جبران ومي زيادة 1

قصة حب اجتمع بطلاها على الورق، لم يلتقيا، مي وجبران، ساجان وإيلا.

يسْطُر بقلمه اللهفة للقائها، وتعبر له عبر السطور عن قلقها البالغ عليه لانقطاع جواباته. رسائل مي وجبران لم يطغ عليها فقط حب رجل لإمرأة أو العكس، بل جالا معًا في عوالم عديدة، تحدثا في الأدب والشعر والسياسة، ونظرة المجتمع للمرأة، كان الحب والصداقة صنوان في حكاية مي وجبران.

أما ساجان وإيلا، فالصدفة هي التي جمعت بينهما ليكتب كل منهما للآخر عن نفسه، ربما ليكتشف كل منهما نفسه مع الآخر ويعيد الحياة لحياته مرة أخرى.

عندما بدأ فيلم The Lunchbox، وشاهدت هذه الجوابات المتبادلة بين بطل الفيلم "ساجان" عرفان خان، والبطلة "إيلا" نمرت كور، تذكرتُ فورًا حكاية مي وجبران التي ما زالت حديث الأوساط الأدبية حتى اليوم.

حينما ترغب في الحديث عبر الورق إلى شخص لا تعرفه، عن الحياة وكيف تراها وترى نفسك داخلها؟ تروي له ما قد تخجل أن تقوله لمن يعرفوك جيدًا، ربما لأنك لم تره، لم يُكَون عنك حُكمــًا مُسبقـًا، علاقتك به تظل محكومة بخط يده، إلا أن الأمر قد يصبح بمرور الوقت حُبــًا!

تدور حكاية "The Lunchbox" حول الصدفة، وجبة غَذاء تصل بالخطأ لشخص ما، فتتحول حياته وحياة من أرسلها، بعد أن باتت الحياة لا معنى لها، وتشابهت الأيام.

زوجة تكلست حياتها، صارت جزءًا من نظام يومي لا يتغير، نرى مشهد تنظيف ملابس الزوج الذي يتكرر أكثر من مرة، حالة من الرتابة في الحياة التي لا جديد فيها، لا تفعل شيئــًا سوى الاهتمام بطعام زوجها وغسيل ملابسه، ومتابعة أحوال ابنتها الصغيرة ومَدْرَستِها، والوقوف طوال اليوم في المطبخ لتحضير الطعام سواء كان غذاءً أو عشاءً، دائرة مُفرَغة. ورجل توقف به الزمن منذ وفاة زوجته، يعمل مثل الساعة، يريد أن يخرج من عمله بالمعاش المبكر، دون أن يدري ماذا هو فاعل بعد ذلك؟ وِحدته تجعله يقف في شرفته مساءً، لا يفعل شيئـًا سوى تدخين سيجارته، والنظر للشقة المقابلة لبيته، فيجد الأسرة وهي جالسة تتناول عشاءها.

نمطية الحياة التي يعيشها "ساجان" و"إيلا"، من مشاهد المؤسسة البيروقراطية المُتخمة بالمستندات، ومكاتب الموظفين التي تصيبك بالممل فور مشاهدتها، موظفون صامتون، لا يختلف أحدهم عن الآخر، أرهقهم النظام (System) بما لا تطيقه قدراتهم فصاروا كالماكينات لا يفكرون. وحكاية جارة "إيلا" التي ظل زوجها ينظف في مروحة السقف لفترة طويلة لدرجة أنه مرض عندما توقفت المروحة عن العمل، توحد معها.

علاقة ساجان بـ "شيخ" نواز الدين صديقي، المحاسب القادم ليحل محل ساجان الذي سيستقيل خلال أسابيع، بدت لي ككثير من علاقات العمل التي يحاول فيها الرئيس أن يمنع المعلومة عن مرءوسه، فلا ُيضاف للشخص الجديد شيئــًا سوى أنه يخطئ كثيرًا فتتعثر رحلته في العمل.

"شيخ" اليتيم الذي صنع نفسه منذ نعومة أظافره، حياته بها قدر كبير من الديناميكية، عمل في كثير من المهن، سافر خارج الهند. في حين أن "ساجان" عاش حياته كلها في مكان واحد وقضى 35 عامــًا من عمره في نفس المؤسسة.

تكررت المشاهد، و سادت نفس النمطية في حياة الأبطال، لكن الملل لم يسيطر عليّ لحظة واحدة أثناء المشاهدة، وهذا هو مكمن نجاح المخرج في ظني، إذ نسج هذه الحياة المملة التي قد تدفعنا أحيانــًا للانتحار، دون أن نشعر بسأم من الفيلم، فنقفز هاربين من صالة السينما!

"أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. إني أنتظرُ من الحب كثيرًا، فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا، مع علمي بأن القليلَ من الحب كثير. ولكن القليل في الحب لا يرضيني. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير".
جزء من رسالة بين مي وجبران

أحلى ما في الفيلم أنه جعلني أعيش هذه الحالة من الحب بين رجل وإمرأة يتراسلان عبر الورق، ويكتبان الكلمات بالقلم، لم تأخذهما التكنولوجيا في منحدرها الذي يئد سلاسة المشاعر وتدفقها. كانت هذه الرسائل بالنسبة لـ"إيلا" و"ساجان" مخرجــًا أو مهربــًا من رتابة الحياة وقتامتها، أحيت في داخليهما الأمل في الحياة.

أن تُحب وأنت في سن كبير، ليس من الأفعال المُحبذة في بعض المُجتمعات، ينظر لك الناس بأن قطار الحب معك قد فات أوانه.

بائسة هي تلك اللحظة التي تدخل فيها إلى الحَمّام، وتقف أمام المِرآة، فتجد طبقات البخار قد علقت بالزجاج فلم تعد تري نفسك فيها، وتكتشف أنك كنت ترى شخصــًا أخر لستَ أنت.

شبح الماضي الذي كنتَ تظنه حاضرًا. تجاعيد الوجه التي لم تكن تلحظها، وخصلات الشعر البيضاء التي اعترت رأسك، ولم ترها. كنتَ تظن أن شبابك قد عاد إليك عبر رسالة بخط إمرأة شاركتك هموم الحياة، لتكتشف مع مرآتك أن إمرأتك لا تستقل معك نفس قطار العمر.

الفيلم عكس هذه الحالة الإنسانية الرقيقة، التي تعود بك إلى أيام الطفولة فتتذكر مع مشهد الكرة الضائعة، التي ذهبت لشرفة منزل ساجان، عندما كان يلعب بعض الأطفال في الشارع، بأيام الطفولة عندما كنا نعاني في هذه اللحظات مع أصحاب بعض المنازل كي نأخذ الكرة، وهذه اللعنات التي كان يصبها علينا رب المنزل بسبب لعب الكرة يوميــًا وقت قيلولته بعد يوم عمل شاق.

عكس الفيلم هذه اللهفة، عندما ننتظر رسالة من شخص قريب إلى قلوبنا. عندما نعتاد على رؤية هذه الرسالة الصباحية منه، فإن فقدناها صبيحة يوم ما، انقلب اليوم رأســًا على عقب. عندما يصبح الاحتياج لوجود شخص ما في حياتك أمرًا مهمـًا، كي يشاركك لحظاتك حتى لو عن طريق الكتابة.

كوميديا الفيلم السلسة غير المفتعلة أضفت على أحداثه نسيمــًا خاصــًا، لا تستطيع أن تراه إلا في مثل هذه النوعية من الأفلام، التي تبتسم فيها ابتسامة صادقة.

أثناء الفيلم دار حوار بين "إيلا" وبين عامل التوصيل، عن الخطأ في توصيل وجبة الغَذاء الخاصة بزوجها لشخص آخر، فقال لها العامل إنه لا يمكن أن يكون قد وقع خطــأ، فجامعة هارفارد قامت بعمل دراسة عن نظام العمل لدينا. في هذه اللحظة ضحك جميع مَنْ في قاعة السينما تقريبــًا، ظنــًا منهم أنها مُزحة، لكن في حقيقة الأمر أن أحد الباحثين بالفعل من Harvard Business School قام بدراسة حول ذلك النظام المعروف باسم الـــ (2)dabbawallah، وفي هذا الصدد تحدث الباحث(3) عن ذلك النظام الذي نشأ منذ أكثر من مئة عام وتحديدًا في عام 1890، حيث كان الهنديون في أشغالهم يرغبون في تناول وجبات طعام مصنوعة في المنزل، فنشأ نظام الداباوالاه، وتحول لنظام ضخم يخدم مواطني الهند وخاصة مومباي.

حوالي 5 ألاف شخص يجولون مومباي بالدراجات والسيارات أو يركبون القطار، من أجل توصيل 400 ألف وجبة غَذاء يوميــًا. يقوم هؤلاء الرجال بالعمل تقريبــًا دون خطأ، والتكلفة التي يتحملها الفرد الذي يتم توصيل الطعام إليه لا تتخطى 10 دولارات شهريــًا.

العجيب في هذه الحكاية أن ضخامة العمل الذي يؤديه هؤلاء الناس لا يعتمد على أوراق مكتوبة أو نظام إلكتروني أو قاعدة بيانات، كل شيء يعتمد على عامل التوصيل، الحكاية كلها في ذهنه. شيء آخر رائع نتعرف عليه مع هذا النظام، هو أن جميع العاملين فيه هم مساهمون ولا يوجد فكرة التراتبية الوظيفية على الإطلاق، وبالتالي فجميعهم متساوون في العمل، لا أحد يعمل عند الآخر.

ريتش باترا (4)، مخرج الفيلم الهندي، كان في البداية يفكر في صناعة فيلم وثائقي عن نظام الـــ dabbawallah إلا أن الفكرة بعد ذلك تحولت لفيلم روائي، نلاحظ فيه محاولات المخرج أن يوثق عمل هؤلاء الرجال، ونظامهم المتبع دون خطأ يُذكر.

تصوير الفيلم كان بسيطــًا ومُعبرًا عن الحالة، تشعر مع الكادرات والإضاءة بحالة من الارتباط بالأماكن رغم ازدحامها أو فوضويتها. كذلك الموسيقى التي لم تكن طاغية في الفيلم بدت منسجمة مع إيقاع الفيلم الهادئ.

نهاية الفيلم اتخذت أفضل شكل ممكن في ظني. ربما انتظر البعض اللقاء الذي يجمع البطلين، لتأتي القصة بالنهاية السعيدة، المُتوقَعة، المرغوبة لدينا. إلا أنني تمنيتُ طوال الفيلم ألا يلتقي البطلان، ربما لأن جبران ومي كان حبهما العظيم يكمن في عدم اللُقا.

ربما لو كان اللقاء قد وقع، لما كان لدينا هذه الخطابات الآسرة بينهما. ربما لو كان ساجان التقى بإيلا لانطفأت هذه الشرارة بينهما. ترك المخرج النهاية مفتوحة حتى ينسج كلُ منا نهايته المُفضلة.

(1) استمرت علاقة جبران بمي قرابة العقدين عبر الورق والحبر، لم يلتق أي منهما بالآخر، جبران يعيش في الولايات المتحدة، ومي تتجول ما بين مصر وأوروبا.

(2) الدابا تعني صندوق الغذاء، والاه هو الشخص الذي يقوم بتوصيل الطعام، ويمكن مشاهدة تقرير عن هذا النظام المنتشر في مومباي: link

(3) link

(4) يعتبر هذا الفيلم هو أول أفلامه االروائية الطويلة إنتاج 2013، وقد عُرض الفيلم في مهرجان كان. وعُرض في مصر خلال أسبوع أفلام النقاد الذي نظمته سيماتك بالتعاون مع سينما زاوية وسينما كريم والمركز الثقافي الفرنسي، حيث تم اختيار عدد من الأفلام التي حازت على جائزة النقاد في مهرجان النقاد في أعوام مختلفة.



تعليقات